في حياتنا قيم ومثل… وملهمون. أولئك الذين تصادفهم في أسرتك وأنت طفل، وحارتك ومدرستك وفي عالمك أو في عوالم أصدقائك.
أحمد الوادعي (صورة أرشيفية متداولة)
أحمد الوادعي أحد الملهمين لي ولغيري. لم أعرفه شخصيًا إلا في النصف الثاني من التسعينيات، في بداية حياتي المهنية في صحيفة "الوحدوي" التي عملت فيها، وتعلمت المهنة على أيدي أساتذة أجلاء. كان الوادعي حينها المحامي الألمع والحقوقي الأول في صنعاء واليمن.
كلما قرأت مقالًا للرجل، أو خبرًا عن فعالية شارك فيها، أو تقريرًا عن مرافعة ألقاها في محاكمة صاحب رأي في صنعاء أو عدن أو أية مدينة، يستيقظ الطفل داخلي، ليذكرني بأن هذا الإنسان الجميل هو صديق والد صديقي!
كان الوادعي صديق عبدالله سعيد سلام. وكان عبدالله والد صديقي عبداللطيف.
الشهيد عبدالله سعيد سلام (صورة من صفحة نجله على فيسبوك)
عندما استشهد عبدالله في عملية اغتيال تم تنفيذها في صنعاء، في رمضان، أمام بيته الجديد في الحي السياسي، صار اسم الوادعي حاضرًا بقوة في حياتي.
قال لي عبداللطيف، في اليوم التالي، إن العم أحمد الوادعي زارهم في البيت للاطمئنان عليهم. وأضاف: إنه صديق والدي!
كذلك صار للأستاذ الوادعي مكانة عالية في قلبي.
لم أنسه قط.
كنت إذ أراه محاضرًا في ندوة أو مترافعًا في محاكمه أو متحدثًا في مجلس، تستنفر حواسي كلها، فهذا صديق الشهيد.
الوادعي مع ابنتيه في قاعة عبدالناصر بجامعة صنعاء في احتفالية في اليوم العالمي للمرأة (صورة اهدتها النداء الزميلة والباحثة أروى عبده عثمان)
ثم لاحقًا، في نهاية التسعينيات، ملأني الزهو إذ صرت أكثر من مجرد صحفي يعرفه الوادعي، بل أحد مرتادي مقيله.
يا للمكانة!
لكنني أيضًا صديق نجل صديقه الشهيد. فكان من وقت إلى آخر يحلو له ذكر عبدالله سعيد سلام، فتتفتح عوالم جديدة كان الشهيد يعيش فيها. حدثني مرة عن زمالتهما في كلية الشرطة وكلية القانون. قال بنبرة حاسمة: كان يدهشني بذكائه… وأستغرب كيف أمكن له أن يكون الأول وأغلب وقته لا يقضيه في المذاكرة!
كان رجل تنظيم من طراز فريد! أوضح الوادعي.
خريجا كلية الشرطة كانا في الخفاء مناضلين في الحزب الديمقراطي الثوري اليساري (وريث حركة القوميين العرب في شمال اليمن، وتوأم الحزب الاشتراكي اليمني في جنوب اليمن).
في السبعينيات صار عبدالله ضابط أمن وطني رفيقًا لصاحب الأقدمية عبدالكريم عبدالوارث الذي اختفي قسريًا مطلع عام 1978، فيما اعتقل عبدالله سلام في النصف الثاني من أكتوبر من العام نفسه، عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة للناصريين، وكان حينها يعمل في مكتب رئاسة الدولة، وبقي في السجن عامًا كاملًا.
والأرجح أن رئيس جهاز الأمن الوطني (المخابرات) وجد خيطًا يربطه بقائد الانقلاب الشهيد عيسى محمد سيف، ابن قريته الذي جمعته علاقة طيبة به، حسبما قال لي صديقي عبداللطيف.
يتذكر عبداللطيف صبيحة 15 أكتوبر 1978، إذ سمع والده يتلفظ بكلام وعاه لاحقًا. قال إن أباه قال: الجماعة فشلوا!
كان يقصد الناصريين.
بعد ذلك التاريخ بثلاثة عقود (تقريبًا 2008) قال أحمد الوادعي إنه دخل سجن الأمن الوطني، لكن قبل عبدالله سلام بأربع سنوات!
كان السبب مختلفًا تمامًا.
الشاب الألمعي الذي كانه، كتب مقالة ينتقد بقاء البنى ما قبل الوطنية، وعبثية أية محاولات لبناء الدولة في ظل هيمنة مراكز النفوذ العسكرية والقبلية. غضب كبار المشائخ، وألقي القبض على "المتطاول" أحمد الوادعي، وأودع زنزانة في "الأمن الوطني".
سألت الوادعي كيف يسمح الرئيس إبراهيم الحمدي (74-1977) باعتقالك، فيما مقالك يعبر عن التوجهات التي يتبناها هو نفسه. بهدوء رد: أراد حمايتي!
قالها باعتيادية كأنما يتحدث عن حقيقة من حقائق الطبيعة!
تم الإفراج عن الوادعي بعد شهور ثلاثة، ولاحقًا وقع الصدام الحتمي بين الشيخ الأحمر والرئيس الحمدي. قتل الحمدي في "المكيدة" التي حذره منها صديقه الحميم البردوني، قبل اكثر من عام، في قصيدته "خوف"، وزادت شواغل المحامي الوادعي، إذ نجا من القتل، وتفرغ لمتابعة أحوال أسر أصدقائه المغدور بهم أو المعتقلين، وأبرزهم والد صديقي عبداللطيف.
في سنوات ما قبل "الربيع العربي"، تشرفت أن يكون الأستاذ الوادعي أبرز المحامين المستجيبين لنداء "المحبوسين على ذمة عهد وأموال مستحقة للغير"، الذي وجه عبر صحيفة "النداء" Anndaa Newspaper للأستاذ نبيل المحمدي المحامي، ومن يراه مناسبًا من المحامين. وقد رأس هيئة الدفاع عن المحتجزين (المعروفين إعلاميًا وقضائيًا للأسف باسم السجناء المعسرين)، وعمل مع الأساتذة المحامين نبيل المحمدي وهائل سلام ومحمد المداني ومحمد البذيجي.
وقد تمكنت الهيئة من تحرير مئات السجناء في صنعاء، والعشرات في محافظات أخرى، خلال شهور. وكان لذلك النجاح أثر عظيم في أداء صحيفة "النداء" وفريقها، وخصوصًا الزميل علي الضبيبي الذي تم تكريمه وتكريم الصحيفة وهيئة الدفاع برئاسة أحمد الوادعي، في حفل نظمه منتدى الشقائق، في اليوم العالمي للعدالة (17 يوليو 2007).
***
قبل كتابة هذه الخواطر بساعات، تحدثت مع الأستاذين القديرين حسن الدولة وعبدالرحمن بجاش، عن الحالة الصحية لملهمي الأستاذ أحمد الوادعي. أكدا أن الزهايمر خطف ذاكرته. فطر الحزن قلبي، فكانت هذه الخواطر عن أستاذي وصديق عمري وأعمار أصدقائي، فليلطف الله به.