بمناسبة الذكرى الـ32 لانطلاق صحيفة "يمن تايمز"، على يد المرحوم الدكتور عبدالعزيز السقاف، في 27 فبراير 1991، تمكنت إدارة الصحيفة وأسرة السقاف من إعادة موقع الصحيفة، وجزء كبير من أرشيفها القيم إلى النور من جديد، بعد أن أغلق عقب الحرب في 2015. كنت أعلم بذلك منذ عدة أشهر، عندما أخبرتني الزميلة نادية السقاف. سررت لذلك كثيرًا.
يمثل الأرشيف ذاكرة حقبة مهمة من تاريخنا اليمني. فالصحيفة -كما أسلفت- وجدت في فترة زمنية مهمة في تاريخ اليمن، إذ شهدت البلاد تحولات مهمة بعد الوحدة عام 1990، وكان الراحل عبدالعزيز السقاف، ومن خلال الصحيفة، يعيش ويصنع جزءًا من ذلك التحول نحو الديمقراطية وحرية الصحافة والتعبير، وما حدث من انتكاسات كبيرة عقب حرب 1994، والتضييق على الحريات والكتابة. دفع السقاف كغيره ثمنًا لذلك، وتعرض للضرب والتهديد بالقتل، وتشويه سمعته، واتهامه بالماسونية تارة، والصهيونية تارة أخرى، جراء كتاباته الناقدة لنظام الرئيس الراحل علي عبدالله صالح. قارع السقاف الفساد، وكان من أهم التحقيقات الصحفية التي نشرها، قضية عائدات النفط في عام 1999، وإلى أين تذهب. وهي القضية التي جرته إلى المحاكم، وتوفي في حادث مروري غامض في 2 يونيو 1999، قبل أن يغلق ملف القضية.
كان الدكتور السقاف صاحب مبادرات، وكان شجاعًا وصوتًا صادحًا من أصوات التغيير والمدنية والحداثة. ولذا مثلت صحيفة "يمن تايمز" مصدرًا مهمًا للمعلومة، حتى إن بعض وكالات الأنباء كانت تترقب صدورها، لتنقل منها بعض القصص الخبرية التي تنفرد بها. كما مثلت الصحيفة الناطقة بالإنجليزية، أداة مهمة لكشف المستور وإطلاع الرأي العام المحلي والعالمي بما يجري في البلاد من تحولات. وكخبير اقتصادي وخريج جامعة هارفارد، لعب السقف دورًا مهمًا في الحراك الديمقراطي، حيث كان صوتًا شجاعًا ومدافعًا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الصحافة والتعبير والمجتمع المدني.
بدأت قصتي مع الصحيفة التي دخلت من بوابتها إلى عالم الصحافة، عبر المداومة على قراءتها لتطوير لغتي الإنجليزية، عندما كنت طالبًا في قسم اللغة الإنجليزية. رويدًا رويدًا وجدت نفسي متأثرًا بكتابات الوالد الراحل عبدالعزيز السقاف، وبعدها قررت مراسلة الصحيفة والكتابة لها من تعز، ومُنحتُ بطاقة صحفي تحت التمرين لعدة أشهر. بعدها تلقيت اتصالًا من مدير التحرير آنذاك، في منتصف 1998، الدكتور صلاح هداش، والذي سبق أن زرته في الصحيفة بصنعاء، يقول لي إن الدكتور السقاف يريدني أن أطلع إلى صنعاء للعمل في الصحيفة. حاولت أن أشرح له أن لديّ وظيفة في تعز في سلك التدريس، فكان الجواب "اطلع وبعدها نتفاهم". أخذت سيارة بيجو أجرة، ويممت وجهي صوب صنعاء... صوب المستقبل الذي كان ينتظرني. دخلت إلى مكتب الدكتور السقاف؛ سلم عليّ ورحب بي، وقال اجلس يا ابني، وهو يكتب على الكمبيوتر. قال لي بالحرف الواحد: "يا ابني أنا معجب بكتاباتك... إيش رأيك تشتغل معنا؟". كانت فرحتي كبيرة بأني سأعمل مع هذا الرجل، الذي كنت أنظر إليه بنوع من الجلالة والهيبة من خلال كتاباته. قلت له: "هذه شهاده أعتز بها وشرف كبير دكتور".
وبطريقة مهذبة، قال لي: "كتاباتك رائعة، وأود منك أن تكتب أي شيءٍ الآن لكي أطمئن إلى كتاباتك وأسلوبك أكثر". كانت أشبه باختبار. أخذت قلمًا وورقة، وكتبت رحلتي على سيارة البيجو من تعز إلى صنعاء، ومرافقتي لسيدة صومالية كبيرة في السن، وكيف كانت تسرد لي قصتها، بينما السيارة تطوي المسافة. فدعا المدير الإداري للصحيفة آنذاك المرحوم محمد بن سلام، وطلب منه أن يباشر عملية توظيفي. فقال بن سلام رحمة الله عليه: "علينا أن نختبره أولًا"، فكان رد السقاف: "لا داعي". وبالفعل ذهبت اليوم التالي لحضور مؤتمر صحفي لوزير السياحة عبدالملك منصور، وكان بجانبه الدكتور السقاف، وقمت وطلبت السؤال باسم "يمن تايمز". في الصحيفة تعرفت على الزميلة والصديقة ندوى الدوسري التي سبقتني في العمل فيها، وكنت أيضًا أقرأ لها قبل التحاقي بالعمل.
عملت مترجمًا ومحررًا ومسؤولًا عن عدد من الصفحات، منها "القانون والدبلوماسية"، "الاقتصاد" و"الثقافة و المجتمع". وبعدها بأشهر قليلة عينني السقاف مساعدًا لمدير التحرير. ثم عدت إلى تعز، وفتحت بمعية الزميل عماد السقاف، المسؤول الإداري، مكتبًا للصحيفة. وخلال هذه الفترة زرت صنعاء في مهمة عمل، وكان آخر لقاء جمعني بالسقاف في مطعم "الفانوس"، حيث تعرفت على الزميل والصديق الحبيب سامي غالب، الذي كنت أقرأ له سابقًا. وبعد وفاته -رحمة الله عليه- عدت إلى صنعاء، وعملت مديرًا للتحرير، وبعدها محررًا أول وكاتب عمود حتى العام 2009.
ما يهم الآن هو أرشيف الصحيفة الذي يحوي مواد صحفية تمثل إرثًا قيمًا، يجب العمل على استعادته كاملًا، وتفعيل موقع الصحيفة الإلكتروني للعمل مجددًا، كجزء من الوفاء للدكتور السقاف ومشروعه الصحفي الكبير. قضيت ساعات طويلة هذه الأيام، وبشغف كبير، وأنا أتصفح هذا الأرشيف، وأقرأ بعض المقالات، وأجمع مقالاتي فيه. مواد صحفية هي ذاكرة الجميع وهي أيضًا ذاكرتي وأرشيفي الشخصي، بعد أن تركنا أرشيفنا الورقي خلفنا في صنعاء. أجدها فرصة هنا لأدعو أولاد المرحوم السقاف لجمع كل كتاباته ونشرها في كتاب.
أنا ومثلي العشرات، مثلت لنا "يمن تايمز" بوابة للانطلاق والعمل في مختلف المجالات الصحفية وغير الصحفية، ولذا نكن لها، ولمؤسسها الراحل السقاف كل الود والعرفان.