"إن العودة للأصول تؤدي في كل مكان إلى البربرية" نيتشه
***
لم ينفجر طاعون الهويات اليوم فجأة (الوطنية، الإيمانية، الأممية، التاريخية، القومية)، بسبب الحرب، لنصعق ونصرخ: يا غارتاه، يا وحشتاه! "هويتنا في خطر"، فتشن الحروب ونَقتل ونُقتل دفاعًا عن حياض الهوية، وكل يرى هويته الأقدس في مواجهة بقية الهويات، وكل يشحذ سنن "الصحف المُطهرة"، لنعي ذواتنا النرجسية، بِسيَر الأنبياء والرسل الأبطال والملوك والفاتحين، والقتلة..
نسارع إلى نبش صور الماضي السحيق بالأبيض والأسود، ونجتر بتعاسة ومشهدية بكائية، وملطاميات تبدأ بـ"كان/ كنا" بـ: "كنا أمة واحدة، شعبًا واحدًا"، "نقبل الآخر المختلف دينًا، ولونًا وجنسًا ومهنة"، كان معنا: "المواطنة المتساوية" و"الهوية الوطنية الجامعة"، و"المدنية"، ونفتتح فرجة السوق الإلكترونية (وسائل التواصل الاجتماعي)، سيل النداءات والاستقطابات بتوقيت ذهاني محدد لبدء طرش المُحنطات السماوية والتاريخية، والقبلية، وليس بآخر محنطات الخط المُسند، وقومية الوعول، وكل في متراسه البدائي: "هنا الركن اليماني الأصيل"، "هنا حضارة الآباء والأجداد"، "الموطن الأول للجنس البشري"، "العرب العاربة"، "سبأ، حمير، طُسم، جرهم، العمالقة"، ثم تلبيس الألقاب وتوزيعها باستعراض فج ومبتذل: "حامي بلد الإيمان والحكمة، والجمهورية"، "حارس الهوية، العقيدة، الشرف الأرض"... الخ
من مشاجب الاستغلاق الدامي والدموي الذي استعر مع الاحتلال الحوثي للبلاد 21 سبتمبر 2014، وإزاحته للسلطة السابقة أو خلطة كهنوت الحماة من العسكريين والدينيين، والقبليين والوطنيين، والاشتراكيين، والمشترك… الخ، وهي سلطة لا تختلف عنه كثيرًا، فالصراع بينهما غنائمي، والهويات أحد سيوف الغنائم.
(2)
طاعون الهويات، بنية متجذرة في البيئة اليمنية، ثقافة وسلوكًا، يفترس كل من يخرج على الصف وصنمية الاصطفاف الحشدوي: القبيلة، حيث ينفخ في الأجداث زامل القطيع الممتد: "يا من من الصف يخرج، لا بد يذوق السم ويشرب نقيعه"، و"أنا وأخي على الغريب"، والتصفيات الرمزية وغير الرمزية لنقاء اللُّحمة (بطون وفخوذ وأمغال) القبيلة، وتوريثها للنطفة المُطهرة، والممهورة بـ"عز القبيلي بلاده ولو تجرع وباها"!
أنا قبيلي -شيخ، إذن أنا موجود:
كلمة "أفكر" الديكارتية، لا وجود لها عند اليمنيين، الموجود والفاعل هو: "أنا قبيلي وشيخ، إذن أنا موجود"، القبيلة، ثقاقة وسلطة، اغتنام بلا حدود، وتقسيم تراتبي عنصري جائر: "سيد، شيخ، فقيه وعبد". وهذا هو الداء المزمن الفاتك باليمن واليمنيين، بالأمس واليوم، والمستقبل إن استمر المتجول القبلي العنيف يتقافز من غير كابح.
منشورات متداولة في شبكات التواصل
نعم القبيلة -الرحم المخصب للهويات المتقاتلة- بحسب تعبير أمين معلوف، مقلى الهويات بامتياز، وخصوصًا عندما تُديّن وتسيّس، لتتحول مع الحروب خلايا مجذومة تفتك بكل شيء يخالفها، غيلان "للوحوش إذا حُشرت"، معمدة بـ"وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى"... الخ من نصوص تكرس السماء على فعل الأرض لشعب أكثر من 80% جاهل ومُجهل بالإمكان والقوة، بعد قطرنة أداة التفكير، واستبدالها بأداة التفجير الوحشية.
وإلا من يفسر لنا، سوق النخاسة المُريع الذي نشهده كل يوم، مزاد "بكم الرأس اليوم"، أن يسعر شيخ القبيلة وجنرالها، وبطلها، وقحطانها وحميرها وقيلها الأول، الوقود الآدمية للحرب الداخلية والخارجية، حيث تسفك فيها دماء أطفال ما دون الرابعة عشرة، لجبهات قائد المسيرة القرآنية عبدالملك الحوثي، وغيره من القادة، في جبهات الطرف الآخر، إذ على كل شيخ قبلي أن يسهم -كأنه من جربته الخاصة- بـ1000، 2000، و5000، رأس -مجاهد -شهيد.
عبدالملك الحوثي وبجانبه صورتان الأولى من مقبرة والآخرى مسلحات مواليات (صور متداولة على شبكات التواصل)
لنرى بعد ذلك كرنفالات الدماء والأشلاء، وغابات البنادق والسيارات، يتقدمهم شيخهم لحفل التباهي والمباركات الدسمة للقبيلة التي حصدت المركز الأول في امتلاء مستوطنات القبور من شبابها وأطفالها! بل يجرون الآباء والأمهات المغسولة أدمغتهم، ليعمدوا الضحايا من أطفالهم، صارخين: "استشهدوا خمسة، وباقي خمسة آخرون فداءً للسيد"، أو "كان يحب السلاح من طفولته، ونجا من الموت مرتين وهو ينظف السلاح، كان كثير التهليل والتسبيح"، "نذرنا بأولادنا قرابين لسيدي ومولاي عبدالملك الحوثي، لتحرير القدس، أو ضد العدوان".
وبجانب إنجازات الهويات الإيمانية/ الوطنية/ التاريخية من رياض الشهداء المبثوثة في أصقاع اليمن، ظهرت مناطق جرداء من الشباب والأطفال، عدا "الأرامل"، إنها "ممالك الأرامل" للقرآن الناطق، ألسنا نعيش "النازية الجديدة في اليمن"؟ أليست الهوية الإيمانية الوجه الآخر للفاشية؟
وللأسف حتى مناطق تعز والحجرية التي توهمنا ذات "جمهورية ومدنية"، أنها خارج مقلى الهويات وتوابيتها، تقبيلت وتمشيخت، وتصوفت بتفاهة المسيدة الرثة، لتتفاخر بمقابر ورياض الشهداء فداءً للطاهش الكهفي، وسيد البربرية.
(3)
منشورات متداولة في شبكات التواصل
في يمن القبيلة والأصل والفصل، استندت كل جماعة/ طرف/ لُحمة على تابوتها الحجري المغلق، وأخفّه "التختة"، وكلّ عمل بعرقه -أصله، الطهراني. وبمنظور القبيلة يلتمون على مائدة الفرز، من باب "العرق دساس"، و"إن غابت الأصول دلتك الأفاعيل"، ترتص بجانب مقلى الخراب، من: العلماء الربانين لـ"خير أمة"، وثنائية "الإيمان والكفر"، وأوابد "الولاء والبراء"... الخ من التوابيت المعفرة بالديناميت.
ملوك وأبطال وحماة التابوت من شدة الفرغة الذهنية، والقطيعة مع العالم بالعزلة والكهفنة، المخمودون بعالم محارق المقايل، تحولوا في 2023 إلى "بقابق نارية"، يزوملون:
"يا دجاجة جدتي
برخثي لك برخثي"
غيلان الأنساب اليوم، يتعبدون بشجرة التخلف والعدمية الفائضة بالبدواة: "شجرة الأنساب"، فكل يحفر وينبش، وينشد بزوامل غارقة في الفرز الطهراني والمبخس، كانتونات عرقية مسمومة، تسمم المسمم عقلًا وجسدًا وروحًا وغذاءً وماءً وتعليمًا، ودينًا، وتمنح المنخرط فيها شهادة: "يمني أصيل النسب بتحدره من الجد القحطاني، أو العدناني، لعلي بن أبي طالب، ومحمد رسول الله".
هذه عناوين اليمني الرابض في قاع التابوت -التختة، تتقاذفه سميات الأعراق والأنساب، ولكل عرين تابوته، يبرخش ويقيم ولائم القات والقوارح والزوامل والشيلات والبرعات القحطانية والعدنانية والقرشية والعولقية والمذحجية والهمدانية والمهرية والمكربية، والعوذلية والحاشدية والحمومية… الخ من هوس جذور شجرة النسب -الوهم.
ويتمازج ذلك مع سخرية دامية: "بني هشهش"، وكشكش، وحشحش، "عيال المقذيات"، عيال "قرقر"، "القناديل" و"الزنابيل"، و"المعورات"، "ناصبي"، "رافضي"، مجوسي متورد، عيال الحبشية، "أحفاد بلال"، ابن الهضبة، والمستبضعة… الخ. كل هذا التقيح العرقي انبجس من تلك البنية التراتبية القبلية لما قبل إنسان: "حرفيين، قضاة، أخدام، دواشن، مزينين، يهود، سادة، نساء -ضلع أعوج و… الخ.
وهذه حياتنا في "بلد الإيمان والحكمة اليمانية" التي نتباهى بها أمام العالم في الألفية الثالثة: شجرة العائلة المقدسة، تفترس بقية الأشجار الأخرى، وتلتهم الفروع، والأوراق، والتراب والهواء، من أجل هذيان هوياتي أعمى يمور بالبلاد والعباد، ليضيف حربًا وبؤسًا ومجاعة على التي نعيشها، وتكرسنا في الدرك الأسفل من سلم الإنسانية.
ياااا الله، ما أجمل وأسعد اليمن بلا أصل!
فكيف تشوفووووا؟