سأحكي لكما من وقت إلى أخر حكايات وقصص من وقائع دراساتي الميدانية.
دراسات ميدانية اخذتني إلى بلدان عديدة.
تعلمت منها الكثير. ليس فقط عن مواضيع البحث، التي عكفت عليها في كل رحلة عمل.
بل عن الإنسان فينا. ذاك الذي احبه. في قوته وضعفه.
في الخير الذي فيه، رغم الأذي الذي يتسبب فيه خوفه، ضعفه، وتحيزه.
في تنوعه، وفي كرامته وحقوقه!
***
كنت في المملكة المتحدة.
في لندن حينها.
قبل نحو عشر سنوات.
اجري لقاءات ضمن دراستي عن محاكم الشريعة في بريطانيا.
خلال هذه الفترة تواصلت معي منظمة مجتمع مدني. اسستها شابات وشبان من بريطانيا من اصول جنوب آسيوية (الهند، باكستان، بنغلادش). نشأ معظمهن/م في إسر مسلمة.
المنظمة ، التي تحمل إسم إيمان، تأسست عام 1999 لدعم مجتمع الميم، وهدفها هو مساعدة مجتمع الميم على التوفيق بين الإيمان والهوية الجنسية.
سمعت بعض العاملات في المنظمة بوجودي في لندن، والبحث الذي اعكف عليه، وجاء الطلب، بتقديم محاضرة عن تعاليم الشريعة الإسلامية الخاصة بالمرأة، وطريقة تطبيقها في بريطانيا.
وافقت بالطبع.
كانت المجموعة الحاضرة صغيرة. لا تزيد عن عشرين شخصا. معظمهن فتيات شابات. اكبرهن سناً في الثلاثينات من العمر.
التقيت بهن في يناير/كانون الثاني 2013.
تحدثنا قليلاً.
ثم بدأت في تقديم المحاضرة.
حديثي كان واضحاً. عرضت فيه قواعد الفقة الخاصة بالمرأة من رؤية جندرية نسوية.
قواعد تم وضعها من فقهاء، ذكور، ينتمون إلى تاريخ بعيد. القرون الوسطى تحديداً. نحترمهم. لكنهم ينتمون إلى عصرهم.
تماماً كما تنتمي تلك القواعد القرواوسطية إلى عصرها حينها.
لكنها اليوم تنتهك حقوق المرأة وكرامتها بلا جدال. تتعامل معها كقاصر. لا كإنسان. بالغة راشدة.
طريقة تطبيقها في بريطانيا تنهل من هذه الرؤية الفقهية القرواوسطية للشريعة، وتتجاهل التجارب المدنية القائمة في بلدان قليلة.
ثمة حاجة إلى التغيير.
ثمة حاجة إلى قوانين مدنية، وقوانين عائلة، تعتمد على المعايير الأممية لحقوق الإنسان، وحقوق المرأة تحديداً.
***
خلال حديثي، إنتبهت إلى وجود فتاة في نهاية العشرينات. ترتدي حجابا.
كانت الوحيدة التي ترتدي الحجاب.
خفت عليها. خفت أن يؤذيها حديثي الواضح.
أن يؤذي مشاعرها الدينية.
فهدفي ليس أن اجرح أو الأذية.
هدفي هو الدعوة إلى التفكير. ثم الإصرار على التغيير.
رغم ذلك، لم يغير وجودها من خطابي.
ظل واضحاً.
فالتغيير لن يحدث بحديث منمق موارب.
يحتاج إلى الوضوح.
فتحدثت، وانا أنظر إلي تعابير وجهها من حين إلى أخر.
وأنتبهت.
أنتبهت إلى إنها في بعض المحاور المفصلية لمحاضرتي، كانت تتحول إلى زميلة بجانبها، وتتحدث بحرارة.
أكملت المحاضرة، وفتح المجال للنقاش والحوار.
توقعت منها نقداً لاذعا. وهو امر طبيعي أعتدت عليه. ولعلي كنت سأرحب به.
لكن ما توقعته لم يحدث.
كان نقاشاً يفتح الباب على مصراعية للتفكير.
وخرجت من تلك الأمسية وأنا ممتنة لهذه الفرصة.
فرصة للحوار والنقاش.
***
قبل مغادرتي، تحدثت مع منسقة اللقاء من المنظمة.
واشرت خلال الحديث عن قلقي الأول على مشاعر الشابة العشرينية المحجبة، التي سأسميها هنا لندن.
وجدتها تشرح لي أمرأ، أدهشني. بل بُهت له.
لأنه كشف لي كم كانت رؤيتي متحيزة.
ليلى، عزيزتي القارئة، عزيزي القاريء. هي بريطانية من أصول جنوب آسيوية.
وهي ملحدة، مثلية، وترتدي الحجاب.
توصيف يحتاج إلى التوقف: ملحدة، مثلية، وترتدي الحجاب.
ليلى ترتدي الحجاب بسبب ضغوط مجتمعها المغلق في حيّها في برمنغهام.
هي لا تريد أن ترتديه، لكنها تعيش في مجتمع مغلق، حيث يمكن للقرار الفردي الحر بخرق القواعد المفروضة أن يتسبب في ضرر لها ولأسرتها. ولذا، طوعت نفسها على ارتداءه.
ومع ذلك ، فإن ارتداءه يضعها على الفور في صندوق ديني: مسلمة.
مظهرها كامرأة ترتدي الحجاب يحولها من "امرأة "إلى "امرأة مسلمة".
وعادة ما يكون التوقع المجتمعي، وخاصة في أوروبا، أن تكون المرأة المسلمة متدينة.
لكنها ملحدة.
المجتمع البريطاني الأوسع، الذي تعيش فيه غير قادر على رؤية هذا الجزء منها.
إذا كانت ترتدي الحجاب ، فيجب أن تكون مؤمنة. وغني عن القول إن إيمانها ، أو بالأحرى عدم إيمانها ، هو سر تحتفظ به لنفسها داخل مجتمعها المسلم المغلق في بيرمنجهام.
و لاوة على ذلك فهي مثلية.
لكنه يظل سراً، تحتفظ به هو الأخر.
وتبوح به ضمن إطار عائلتها الجديدة، التي وجدتها في منظمة إيمان.
***
لعلكما أنتبهتما إلى التحيز الذي عنيته.
وهو تحيز ما فتأت انتقده هنا في أوروبا في كتاباتي باللغتين الإنجليزية والألمانية عن بعض مواقف ما بعد الحداثة الأكاديمية، والتي تكاد تقسم البشر إلى قبائل، وتضعهم في صناديق ثقافية أو عرقية، بدلاً من أن تصر على وحدة الإنسان في تنوعه وتعدديته.
هو ما فتح المجال أيضا إلى القبول بممارسات محاكم الشريعة في بريطانيا، رغم تطبيقها لقواعد فقهية قرواوسطية تنتهك حقوق المرأة، بدعوى إحترام الخصوصية الثقافية "للمسلمين".
أنا أيضا مارست تحيزاً بلا وعي مني.
نظرت إلى حجابها ورأيت هوية دينية لا تؤمن بها هي اصلاً.
لم أنظر إليها كإنسان.
إنسان، له هويات متشابكة ومعقدة، يعيش ضمن إطار مجتمعي مؤثر، وبعض ما يظهر لنا من هوياتها ، قد لا يعكس في الواقع ما تؤمن به.
وسواء آمنت ليلى بالإسلام أم لم تؤمن، فذلك الإيمان لا يعني أنها لن تكون قادرة على سماع محاضرة عن الشريعة، ثم الدخول في نقاش مفتوح حوله.
كان هذا التحيز الثاني من جانبي.
تركت هذه الأمسية اثرها على نفسي.
كشفت لي تحيزي.
وفتحت لي مجالاً وأُفقاً أوسع للقبول بالإنسان.
كماهو.
كما هي.
ليلى هي شخص معقد، لها هويات متعددة، لكنها في كل هوياتها واحد: إنسان.
ملحدة، مثلية، وترتدي الحجاب: إنسان!
ملحدة ومثلية، وترتدي الحجاب: إنسان!
2023-01-29