وصلت للأدب، من بوابة حكايات جدتي، من الغرفة - اللغز، فوبيا الغرفة السابعة، لحكاية الجرجوف. من الكهف الموحش للفتاة بطلة حكاية "الدجرة" الساحرة، وروح الأم المؤنسة لوحشة الأخ والأخت الخائفين من الساحرة الملتهمة للحوم البشر.
من هيمنة الفحولة وأدواتها المعتقِلة للروح والجسد لبطلة "جُليد أبو حمار". من الأضواء الخافتة للكهوف ملجأ الإناسة للهاربين من الظلم، ومن تجاعيد الكبار، وأهازيج النساء، ومن ذلك المجنون الفنان الذي كان يرسم لوحاته على الأرصفة وقلب الشوارع المسفلتة.
من ذلك الوجه الناشف لامرأة تجر جملها في شارعنا صباحًا، وفي غب المساء صراخها وانتحابها، يمزقان سكون الليل، لاكتشافها سرقة جملها، قوتها وقت أولادها، صراخها الموحش الذي تزامن مع صراخ أمي المؤلم لمخاض الولادة.. صراخان في وقت واحد، بددا سكون الليل، وشرخا أحلام ألعابنا التي سنفتتحها في الغد صباحًا، بعد أن تواعدتُ مع صويحباتي في الشارع، صراخان، أحدهما في اتجاه الضياع والعدم، وآخر في اتجاه استقبال شعاع شمس الحياة.. لقد أطلت أختي في الفجرية.
**
من متحف الموسيقى بيتهوفن (أروى عثمان)
صوت الطبيعة، وتفاصيل الحياة اليومية التي أطل عليها من نوافذ حارتنا الشعبية لبوابة "سوق الصميل" المزدان بالألفة، والصخب واللعب، والسرقات، والسرديات لقصص الحب الملتهبة، وقصص الموت المرعبة، هذه التناقضات والتضادات شكلتني، وشكلت قلمي الذي أغترف منه الكثير من موتيفات السرد.
وبجانب الصندوق الحي للحكايات اليومية التي عايشتها، وتعايشت معها، ومازلت، ثم اغترافي من سرد آخر، عالم كلما ولجته، انفتحت مغارات المغامرة الأحلى والأجمل والأعمق لـتشيخوف، وتورجنيف، ونجيب محفوظ، وتولستوي، وهرمان هيسه، وإحسان عبدالقدوس، وهيمنغواي، وجوته، وغوغول، وكل ما كنت أجده في الكتاب.
كل هذا منح قلمي روح الحكي، وخصوصًا الأدب الروسي.
*
كان من الطبيعي أن أنجذب للتراث بعد حكايتي مع الجدات، لقد كان وجودي في زمن انتعاش ذاكرة الجدات.. صناعة الخيال، وربما لأني نشأت في حي شعبي، فلكلور مفتوح/ لم يكتب بعد، أحاول عبر قلمي المتواضع، أن ألعب مع الشخوص وموتيفات الحياة الشعبية التي اختزنتها في ذاكرتي الصغيرة ذات يوم، أن أحيا المكان، وما ورائياته – إن جاز تعبير كهذا.
غياب التكنولوجيا، وابتعادنا على روح العصر والتحديث، جعلنا نتنفس همس الجدات والساحرات، نعم هذا الغياب والعزلة، كان سلبيًا، لكنه إيجابي من ناحية أخرى، نتعايش مع زمن له طعم السحر، له طعم الكان ياما كان، سحر ألف ليلة وليلة.
**
كاتدرائية برلين
الزمن، المكان، تفاصيل الحياة، المسرح اليومي للأحداث، وللرتابة أيضًا، إننا مازلنا نعيش الفلكلور المفتوح الذي لم يأخذ إلا بقشور الحداثة، الذي شوه الحكاية، وجعل ذاكرة الجدات أشلاء تعبث بأرواحنا، نحن في المنطقة الظل – التشويش، صخب التشوهات، وضياع العوالم الفطرية للحكي.. أعرف قسوة ما أحكيه.. لكن هذا ما أراه وأحس به.
وأرى هذا التشوه يطغى على كل حركتنا، ويكتم أنفاسنا، عندما تُحرم خرافة جدتي، وتعتمل وتتطاول خرافة السياسة والدين، بل يعاد إنتاجها، فالتهمت حيوات وعوالم الإنس والجن، وحل التوحش بديلًا عنها، وأخلت بتوازن الحياة المدنية والإنسانية التي ننشدها من خلال القص، قصص مجموعتي "تنكا بلاد النامس"، خصوصًا قصة "كيف استطاع حمادي الأفلخ أن يأتي بالجن مربطين"، تحاكي هذا الفصام، أنه فصام لا تعيشه سوى بلداننا، العالم العربي –الإسلامي.
**
لم أحدد القالب الذي اتخذني – اتخذته، عندما يقولون إني مغرقة في التراث، قد يكون ذلك صحيحًا، فطواعية، وربما الفطرية لأسلوب المعيش في حارة سوق الصميل، تضج بالشعبية والفطرية في كثير من السلوكيات، هي التي جعلتني أستلهم مفردات التراث، وخصوصًا الحكايات والأساطير والأهازيج والمعتقدات الشعبية، في هذا العالم أني أجد نفسي، روحي المستلبة في عالم من الفصام المنفلت الذي يعج بالخراب باسم الدين والحقيقة المطلقة.
أجد ألعابي التي حُطمت بحجة أني بلغت، أجد تحليقي مع عمتي سلمى بائعة اللبن، وهي تغني للعصافير، وبقرتها من خلف بيتنا، أني أفتش عن نفسي –روحي في ظل ركام هذا الخراب الذي أطبق على حكايتي – أنا.
**
أتحول مع القص – الحكي الكائن الخفيف، الأخف، أي أكون حرة، أمارس الحياة.
عندما أبتعد عن القص، يسحبني هذا الهلام الذي لا أعرف من أنا في أتونه، وما أكثره، وما أكثر ما يبتلع كل شيء في طريقه، ولا يشبع.
**
إننا في مجتمع نقاوم العبثية والعدم المجاني بالقص، باستعادة ذاكرة الجدات، باستعادة عوالم أكثر إنسانية. هذا ما كتبته في "تنكا بلاد النامس" الفرار من قعر هذه التنكة المحمومة المجنونة المتخمة بتكدس الهوام، بالتشوه أهرب من هذا الناموس – النامس الذي لا يتعب تحليقًا ومصًا للحياة.
أحاول - نحاول، خصوصًا نحن النساء، أن نقاوم ألا نكون ناموسًا – هوامًا، في وطن لا يختلف عن التنكة. قصتي التي لم أكتبها بعد، أحلم بوطن خارج هذين الموتين: "التنكة، والناموس".
كتب في، 16 سبتمبر 2009، مهرجان الأدب الدولي التاسع- برلين، سبتمبر 2009.
هوامش:
* التنكة: علبة من الصفيح، الناموس: البعوض.
**
2023
أنا في ألمانيا، وطن جديد بلا تنكة، بلا ناموس، أواصل الحلم، وقصتي أكتبها كل يووووم.