في جلسة رائقة في منزله في مدينة تعز في 2012، روى أيوب لي، ولأصدقاء أخرين، كيف ان مقطعا من القصيدة استعصى عليه وهو يشتغل على تلحين القصيدة، علما بأن "الفضول"، كما القمندان والمحضار، يكتب الشعر ملحنا!
نال الإجهاد من الفنان، ونام مهجوسا بالمقطع الذي استعصى عليه [أظن أن المقطع هو "في خطى الواثق تمشي قدمي.. مثل سيل وسط ليل يرتمي"].
يقول إبوب إن اللحن واتاه بينما كان نائما لكأن قوة ما أوحته إليه.
وهو إذ صحا في هزيع أخير من ليلة مضطربة، سارع إلى جهاز التسجيل لينقل ما جاءه هاجسا في نومه إلى نسخة صوتية بالعود قبل أن يتبخر كأضغاث الأحلام!
في يوم من أيام أغسطس من ذلك العام كان الرئيس ابراهيم الحمدي يستمع في مجلس مقيل في صنعاء [ربما في منزل الغشمي] إلى قصيدة الفضول مغناة بلحن وصوت أيوب طارش يرافقه كورس من شباب سلاح "المظلات" الذي يقوده عبدالله عبدالعالم. وهو أبلغ أيوب أنه يود لو أنه يسمع هذه الأغنية في حفل ينوي حضوره يمناسبة الذكرى ال15 لثورة سبتمبر في مدينة تعز.
في 26 سبتمبر 1977 احتفل اليمنيون بعيد الثورة كما لم يحتفلوا من قبل. كان الفرح يشمل اليمنيين في الشمال والجنوب. وكانت الوعود تستحيل واقعا وانجازات في عهد ذلك الرئيس المحب الذي نجده في ثنايا كلمات الفضول وأوتار صوت أيوب طيلة هذه الأغنية.
عاد الرئيس الحمدي من جولة في المحافظات (في اليمن الشمالي) إلى صنعاء. وبينما كانت التحضيرات تجري في عدن (عاصمة اليمن الجنوبي) لاستقباله في احتفالات ذكرى ثورة 14 اكتوبر، كانت عصابة وضيعة في صنعاء تنفذ مخططا انقلابيا ضد نظامه (بإشراف سعودي، وربما غربي) أدى إلى تصفيته وتصفيه أخيه الرائد عبدالله الحمدي قائد قوات العمالقة، وأخفاء أبرز مساعديه الرائد علي قناف زهرة والرائد عبدالله الشمسي وآخرين.
***
بعد سنوات كان أيوب طارش في زيارة إلى عدن. وقد طلب منه الرئيس، عهدذاك، الاشتغال على الأغنية لتصير نشيدا وطنيا لليمن الجنوبي.
في 1990 صار النشيد الوطني لليمن الجنوبي هو النشيد الوطني للجمهورية اليمنية. لكن شخصا ممسوسا ب"الأممية" بما هي "شيوعية" أشار على السلطة إحلال مفردة "سرمديا" محل مفردة "أمميا"، وقد استثار هذا التتحوير الأخرق غضب الشاعر الكبير عبدالله البردوني الذي كتب ناقدا هذا التصرف الغشوم في القصيدة.
***
هذه الأغنية الخالدة، التي صارت نشيد اليمنيين العابر للاتفاقيات والمعاهدات والثورات والانقلابات والحروب والحدود، هي مصب كل جميل في تاريخنا وهي نبع الوعود التي لما تتنزل بعد.
****
نستمع إلى أيوب طارش يصدح بنشيد "اليمنيين" ونتذكر بعذوبة الشاعر الفضول والرئيس ابراهيم الحمدي، ويغمرنا الامتنان لهما ولعشرات آخرين، صاروا "الزاد" لليمنيين في رحلة عذابهم التي طالت بفعل الانانيات والعصبويات والعصابات التي تتدثر بالوحدة وبالثورة والدين، لتسرق الأحلام من حدقات عيون الأطفال وتسكب النار على أزهارنا كي تحرقا.
نستمع إلى أيوب طارش فتنبض قلوبنا بحب اليمن العريق الفتي، الراسخ كالجبال لكن المتماوج كمياه البحرين الأحمر والعربي، الفقير لكن الشاهق كما أشعار الفضول وصوت أيوب.