صنعاء 19C امطار خفيفة

محاولة أولية لقراءة عامة في كتاب  "ديانة اليمن السرية -ألوهية الحكيم الفلاح في الموروث الشعبي"

2025-04-06
محاولة أولية لقراءة عامة في كتاب  "ديانة اليمن السرية -ألوهية الحكيم الفلاح في الموروث الشعبي"

في خطوة مهمة وملهمة هي الأولى من نوعها من حيث التخصص، يسعى الباحث والأديب اليمني الرائع والواعد أحمد الطرس العرامي في كتابه "ديانة اليمن السرية -ألوهية الحكيم الفلاح في الموروث الشعبي"، إلى اكتشاف وتأسيس حقل معرفي جديد يؤصل فيه لأدب يمني قديم، ويستنتج وفق أصول البحث المنهجي اكتشاف تاريخ جمالي صيروري للميثولوجيا والدينيات في اليمن القديم، ظل ولايزال غائبًا عنا، وكذلك إعادة بناء الطرق التي مر بها أدب النص أو النص الأدبي -بمضمونه الحكمي الزراعي- وتطورت فيها فكرته الدلالية والقيمية، فهذا البحث ليس موجهًا لتأريخ الأساطير والميثولوجيا والعقائد الدينية لذاتها كما قد يتبادر للبعض من خلال عنوان الكتاب في شقه الأساسي، وإنما يتناول هذين العنصرين من حيث اتصالهما وتداخل أنساقهما مع علائق النص الزراعي الأدبي الجمالي الذي أثر وتأثر في هذه المساحة الذهنية التي كانت تشكل الفضاء العام لوعي وضمير الجماعة.

 
وقد اعتمد الطرس في ذلك منهجية موضوعية تفاعلية أسقط فيها المستويات الأسطورية والعقدية واللسانية والاجتماعية، لإنجاز تكامل بين عناصر تحليلاته ومقارناته وتتبعاته لصيرورة النص الشفاهية، وتفاعلاته بين المستويات  السابقة، وصولًا لشكله ومضمونه الشفاهي الباقي في جزء منه حتى اليوم.
لقد حدد الطرس في مقدمة كتابه، وبحرص المؤرخ والباحث، السياقات والعناصر والمعايير الموضوعية التي تؤكد تجرده المنهجي، تفاديًا لأي اصطراعات ضدية قد تأتي من الوسط الفقهي المسيس الذي يناهض مثل هذه الأعمال البحثية.
 
وأكد بصورة جلية موضوعية، على تداخل العلائق والأنساق التكوينية بين الأدب والمعتقد.
الطرس يفتش عن أدب نصي يمني قديم، وهو موجود بالتأكيد، لكنه يريد اكتشافه في مستوى الجذر والنشأة، وتتبع مراحله الصيرورية والإرهاصات التي مر بها من حيث إضماره وتعديله وتكيفه، كل ذلك في الحقل الميثولوجي والعقدي، فلنا أن نتصور حجم المشقات التي قد يواجهها باحث ومؤرخ أدبي ليس متخصصًا في العقائد والميثولوجيا، ولكن إيمانه بأهمية وعمق الموضوع، بخاصة في ظل الإرهاصات الراهنة حول مسألة الهوية وطغيان النموذج المدني الحياتي الغوغائي على النموذج الريفي الزراعي التي تراكمت منه مسألة الهوية بمعناها الواسع، والذي يشبه هذا الطغيان ذلك الطغيان الأول الذي وقع بحق الهويه قبل 14 قرنًا. في المجتمع المتدين عندما يحاول الباحث الكتابة والبحث في مسألة الأدب القديم انطلاقًا من واحدية العلائق النشأوية بين الميثولوجيا والأساطير والعقائد، فإنه يكون كمن يسير في حقل ألغام  مزدوج في سياق المهام البحثية وفق الأدوات والمناهج العلمية للبحث العلمي والمعرفي معًا، وأيضًا في سياق الاصطراعات الفقهية المناهضة لهكذ بحث.
 
وفوق كل ذلك -وهو المذهل والأهم- أنه لا توجد مادة مرجعية ممنهجة متوفرة حول الموضوع، وإنما اعتمد الطرس، وهو يخوض غمار بحثه، على مقاربات وتحليلات ومتابعات نابعة من تراكم معرفي واسع لديه، كما يتضح من عرض كتابه، وهذا التراكم مهجوس بإيمان اليمني الحقيقي المشبع بجماليات موروثه.
 
إن تتبع الأقوال والأمثال والحكم والأساطير والحكايات الشعبية في البيئة اليمنية بمختلف مناطقها وتنوعاتها، والقيام بالتأريخ لها، يشبه صائد السمك الذي يرمي شباكه في محيط واسع. لكن الطرس، وبذكاء الباحث المؤمن بأهمية تاريخ شعبه، عمل أولًا على سبر أغوار البحر، ومن ثم ألقى بشباكه المعرفية، فاتحًا الباب لمن يليه من الباحثين، في اكتشاف نفائس هذا البحر الواسع!
 
كثير منا كنا ومازلنا نتساءل إذا كان اليمنيون في جنوب الجزيرة وعوا ومارسوا الفعل الحضاري بالتزامن مع السومريين والإغريق والبابليين، أي قبل وعي بدو الصحراء في الجزيرة، فلماذا -رغم ذلك- لم نرَ أو يكتشف مؤرخ نصًا شعريًا أو أدبيًا في اليمن الحضاري القديم؟ فإذا كان وصل لنا من شعر بدو الصحراء الكثير  في القرن السابق للإسلام، رغم تساؤلات طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي"، فلماذا لم نرَ نصوصًا يمنية قديمة كتلك، والمفترض ومن باب أولى أن نجدها قبل شعر البدو؟
 
الطرس في كتابه هذا يقدم ليس الإجابة الكاملة لتساؤلنا، إنما المفتاح الذي نستطيع من خلاله فتح أبواب هذا الحقل المطمور عمدًا منذ السقطة الأولى للهوية حتى اليوم.
الوهية الحكيم الزراعي . ديانه اليمن السريه . اول المداخل المؤديه للصدمات المعرفيه التي توقظ الوعي المتقاعس  .ان الاصطراع الدلالي في بناء العنونه وفضاءاتها الموضوعيه  . يكشف عن ذكاء الباحث وعمقه المعرفي وقدرته على الامساك بتلابيب لوازم قراءة الفعل التاريخي ومايتبطنه من جماليات انسانيه ... ! قليلون من القراء من سيستوعب  شمولية  فكرة الديانه السريه  مع ان الباحث  في مقدمة كتابه قد وضع عناصر شبه ضمنيه واحيانا بالتصريح   لحسم جدلية العنوان عند بعض القراء غير واسعي الاطلاع على الفعل الحضاري والصيروره التاريخيه له..! فوفقا لعلم الميثولوجيا الذي يعد المصدر الانساني الاول للمعرفه بالمعنى التاريخي  يعد الاله فكره متطوره  واخر صورة لتطوراته تلك هي ماجاء في الديانات الابراهيميه الثلاث  قوه غيبيه متحكمه ليس كمثله شيء .. وقد تعاطا انسان مابعد الديانات  الثلاث مع  الاله وفق كيفيته تلك . واصبح اله ماقبل ذلك اساطير .. ففي هذا السياق تناول الطرس  اطوار الحكيم الفلاح في ضمير الجماعه  فالحيكم اليمني القديم  كان اله مشرع في مجتمعه نافذ القول والراي والحكمه  ثم تتبع الطرس المراحل التطوريه والصيروره لكينونة هذا الحكيم في السياق الميثولوجي ابتداءأ كان بمثابة اله  وبعد الابراهيميه تكيف  وتناغم مع المتغيرات العقديه الجديده ووالخ  والطرس ببحثه لايحاول في تناوله للمرورث القديم انسنة الاله وانما عقلنة نتاجه الاخلاقي والتشريعي المتداخل مع الميثولوجيا  الناظم والمؤطر لحياة الجماعه . وكيف كان ذلك النتاج المعقلن اصلا في نشأته في مرحلة ما  يحتل مساحة الدين بالمفهوم اللاحق  وكيف انكمش في بعض مراحله لدرجه ان اصبح سريا بحكم سطوة وفاعلية واضطهاد  ادوات  التشريع الجديد . ! ويمكن اكتشاف اغوار هذه المسأله عند من يقراء تاريخ العقيده الدرزيه  في الشام منذ نشأتها في العصر الفاطمي وحتى اليوم  مع انه قياس مع الفارق وانما اهدف لاستعارة مثال حي عن مسالة السريه في فكرة الديانه !
 
تحت اي حال لاطيل الكلام فيما هو واضح واوضح مما اكتب من ملاجظات  فالخلاصه ان كتاب الطرس يعد اول عمل بحثي منهجي في هذا الحقل المغمور  ويعد بمثابة المفتاح المعرفي  للابواب على هذه المسأله ومساحتها التاريخيه  والتي تعد بالغة الاهميه كونها الجذر الاول والصيروري للفعل الحضاري اليمني  والتي نبتت منها كل القيم الماثزه والخصائص الذهنيه والمعرفيه والسلوكيه التي صاغت في مجملها الهوييه الاولى لهذا الشعب .! وبالتاكيد فان المساله تحتاج الى كثيير من الابحاث  في مختلف الاطوار والسياقات المعرفيه سواء الميثولوجيه  والانترولوجيه والتاريخيه  حتى تكتمل صورة الجزء المطمور والنافص من الشخصيه الحضاريه الجامعه لليمن القديم والمعاصر ايضا  .فهذا البحث الذي انجزه الطرس يتناول تاريخ الادب اليمني القديم على ضوء ماتبقى من مادة شفاهيه في الذاكرة الشعبيه  المتداوله  وفي الوقت ذاته فان هذا الحقل يحوي الكثير ممايجب اكتشافه ليس صعيد تاريخ الادب الجمالي فحسب وانما في مختلف المعارف والعلوم الانسانيه والاجتماعيه والتي ستشكل في خلاصتها  اكمال بناء الصوره الغائبه للحضاره اليمنيه القديمه وكلنا يعرف مدى اهمية وتاثير مثل تلك الاسهامات البحثيه  على واقعنا المعاصر !!
 
في الاخير يعد الكتاب دراسه ملهمه لملء الفجوات الكتيمه  في تاريخ الادب اليمني القديم ورتق الثقوب الجسيمه في منظومة الهويه بنسقيها الوطني والقومي   .. وامام ذلك لايسعني الا ان اعبر عن عميق امتناني كقارىء لصاحب هذا الانجاز البحثي الاولي  املين اسهام مختلف الباحثين في المساله الحضاريه اليمنيه القديمه كلا من موضع اختصاصه المعرفي !!
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً