صنعاء 19C امطار خفيفة

"وطنٌ يزاحمه الموت"

في وطني، أصبح الموت أكثر من مجرد قدرٍ محتوم، صار رفيقًا دائمًا، كظلٍّ لا يفارقنا، كضيفٍ ثقيل لا يغادر أبدًا. لم يعد يُفاجئنا، بل أصبحنا نتوقعه في كل لحظة، نعيش كأننا ننتظر دورنا في طابورٍ طويل لا ندري متى نصل إلى نهايته.

 
في وطني، صار للموت أشكالٌ كثيرة، ألوانٌ متعددة، ورواياتٌ لا تنتهي. لم يعد محصورًا في الحرب، لم يعد يأتي فقط بالرصاص، بل صار يتسلل في تفاصيل الحياة اليومية، في حوادث الطرق التي تتكرر بلا حلول، في الأخطاء الطبية التي لا تُحاسب، في الفقر الذي يخنق الأرواح قبل الأجساد، في الاكتئاب الذي يجرّ الشباب إلى حافة الهاوية، في القهر الذي يُطفئ الأرواح ببطءٍ دون أن يلحظه أحد.
كان الموت قديمًا يمرّ كحادثةٍ استثنائية، تُوقِف الحياة للحظات، تملأ القلوب بالحزن، ثم تمضي الحياة بعدها. أما الآن، فقد صار جزءًا من الأخبار اليومية، يُعلن عنه كما يُعلن عن الطقس، ببرودٍ لا يترك مجالًا للحزن. نعدّ الضحايا كما نعدّ الأيام، نُحصي المفقودين كما نحفظ تواريخ المناسبات. كأننا في سباقٍ دائم مع الفقد، كأن الحياة تحوّلت إلى ساحة انتظارٍ للمأساة القادمة.
في وطني، لا يموت الناس فقط حين يتوقف نبضهم، بل يموتون وهم أحياء، حين يُسرَق منهم الأمل، حين تُطفأ في عيونهم أحلامٌ لم تكتمل، حين يدفنون أحباءهم بلا وداع، حين يُصبحون مجرد أرقام في قوائم الموت الجماعي.
صرنا نعيش في مدينةٍ تزدحم بالمقابر أكثر مما تزدحم بالحدائق، نحصي الشهداء أكثر مما نحصي الولادات، نحفظ أسماء الراحلين أكثر من أسماء الأحياء. أصبح الحزن ثقافةً يومية، والخوف عادةً متوارثة، واليأس صديقًا لا يفارقنا.
وفي وسط كل هذا، نبحث عن الحياة، نحاول أن نجد لها مبررًا، نحاول أن نتمسك بها رغم كل شيء. لكن كيف نحيا في وطنٍ صار الموت فيه أكثر حضورًا من الحياة؟ كيف نبحث عن الأمل في عالمٍ صار اليأس لغته الرسمية؟ كيف نستمر بينما كل شيءٍ من حولنا يخبرنا أن النهاية أقرب مما نظن؟
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً