يوم 9 مارس 2025، استضافت كنيسة Heiliggeist Kirche"" بيرن -سويسرا، معرضي الفوتوغرافي الأول "وجوه من اليمن"، الذي لم أتمكن من المشاركة لأحظى بشرف المشاركة، وشكر المنسقين والمنظمين للفعالية والحضور، كان تواصلي مع الجميع عبر هذه الكلمة التي قرأتها مشكورة الدكتورة والصديقة إلهام مانع:
**
"أنا محكوم بالفوتوغرافيا"، رولان بارت، أهم عبارة تلخص مغامرتي الفوتوغرافية، شغفي اليومي وهاجسي الكبير والحميم الذي امتد خلال أكثر من ثلاثين عامًا، وحتى اللحظة 2025.
اليوم، وأنا في خواتم عمري الخمسيني، أتساءل: هل أنا في الصورة، أم كنت خارجها، أم جزءًا منها؟ أستطيع القول إني كنت جزءًا من الصورة، وعالم الناس من كل الأجناس والثقافات.
قبل أن أمتلك الكاميرا المادية، كنت أمتلك العيون التي تلتقط في كل لحظة عشرات الصور الذهنية من شارعنا في تعز -مسقط رأسي- لقد كنتُ جزءًا من الكرنفال اليومي للسوق "سوق الصميل".
وعندما امتلكت الكاميرا، كان السوق قد انتهى، والكثير من وجوه النساء السافرات قد اختفت، عندما بدأ النقاب يسود ويجر ويلاته كوابح المنع والتحريم بل والتجريم، فوجه وصوت وصورة المرأة: العورة.
ومع ذلك تمكنت من اللحاق ببعض تلك الوجوه قبل أن تغرب شمسها، خصوصًا في الألفية الثالثة، كنتُ في سباق مع الزمن وأنا أجوب أرجاء اليمن، خصوصًا الأرياف القصية، حيث الطبيعة الفطرية الأولى وروح البساطة.

كانت يومياتي الفوتوغرافية، تبدأ من الفجر، أتأبط كاميرتي وأجوب الأماكن، أصور الشروق والشبابيك والأبواب، والعصافير، وبدء يوم جديد للناس، وخصوصًا الفلاحين والفلاحات والبائعات والمشتغلات، وو... الخ، كنت أبحث عن الوجوه في الضوء بين الحواري والأسواق، والطرق الوعرة ومنابع المياه، والتجمعات... الخ، ألتقط الصور بقدر ما أمكن.
مع مضي الوقت تناقصت الصور، وبهتت، وتلاشت، خصوصًا النساء، أغلق عليها بالمنع والتحريم، وربما حركة الحياة بالسلب أو الإيجاب، لقد ضاع مني منجم التأمل للحياة اليومية وتنويعاتها عبر الصورة، بمعنى أفصح اختفى سوق الصميل إلا من اسمه. انتهى السوق، وبقي الصميل الغليظ: الحرب والخراب، والمليشيات، لقد ضاعت ملامح الكثير من جماليات الحياة التي كانت "بهية، مُقبلة، حمامة، وسلمى، ومجنون حارتنا، ومقهى شارعنا، والمدرسة"... الخ، جزء لا يتجزأ من ذاكرة المدينة.

كنتُ أبحث عن لغة لإيقاف الزمن، وألتقط اللحظة ورهبتها، خفقان القلب، ورفة العيون، وخطوط الابتسامة في لحظة صبح وغروب، شمس وقمر ونجوم، الفرح كما الحزن والألم، وأصوب عدستي لتكون الصورة وتثبت.
**
"الوجود هو الرؤية" كما قال الروائي الأرجنتيني، خورخي بورخيس، التقطت عدستي الرؤية: الوجه، كنت أسابق الزمن بعد أن بدأ الإغلاق بسرعة جهنمية، كنت أصوب عدستي نحو هذا الوجه النسوي، تلك الفتاة والطفلة ذوات الوجه المفتوح، فغدًا سيختفي، يشطب بالسواد والمنع والأحجبة الثقافية والدينية والسياسية، كان هذا الهاجس يطاردني، أريد أن أصور كل شيء، فاليوم مفتوح وغدًا سيغلق، وهذا ما حدث بالفعل، بعد تزايد جماعات الإسلام السياسي (السني والشيعي) التي تكفر كل شيء، وتغلق كل شيء، وتكتم أنفاس البشر.

قف: ممنوع التصوير
توقفت عدسة كاميرتي المتواضعة في اليمن لأكثر من مرة، ما بين منع، وتكسير، وتفتيش، وضرب، ومحو للصور، خصوصًا في 2011، أيام احتجاجات الربيع العربي، والأشد عنفًا كان أثناء الغزو الحوثي، منذ 2014، وأثناء إقامتي الجبرية، لقد أصيبت كاميرتي بالسكتة.
في آخر أيام رحلتي، أو بالأحرى زيارتي الخاطفة، منتقبة ومتسللة إلى مدينتي تعز، 2016 كنت بلا كاميرا، تسللت خلسة من المليشيات المتناثرة في كل شبر، أصور بكاميرا الهاتف وكلي خوف ورعب أن يقبضوا عليّ متلبسة بالتصوير.. في ذلك اليوم، لم أعرف الشوارع، والحارات والأزقة الحميمة التي عشت وترعرعت فيها، كان كل شيء مدمرًا، لا وجود للناس الذين صورتهم، فتشت عن الشبابيك، ومطارح الباعة في الأسواق، ملاعب الأطفال، طرقات المدارس، الكل مصاب بالسكتة، دمار يعم الكل، كان الكثير مما صورته في سنوات وعقود سابقة، قد آل إلى خراب وتكبير.
ظللتُ لسنوات لا أستطيع النظر في صوري القديمة والمقارنة "أمس واليوم" والذكريات الأليمة التي كانت تحول حياتي إلى جحيم متواصل، خصوصًا في وطني الجديد: ألمانيا.

تعافيتُ من الخوف ومن رهاب التفتيش في خزانة الصور، وبدأت أتهجأ وأقرأ آلاف الصور التي صورتها قبل أكثر من 30 عامًا، للأسف غدت هذه الصور، "من الزمن الجميل" -وكنت دومًا أعترض على هذه العبارة- فالكاميرا والصورة حياة متجددة، جمال للحاضر والغد، وذكرى، نعم، اللقطة حياة مستمرة.
في تعز، مثلها مثل بقية المدن اليمنية، لم يبقَ سوى الأطلال والكلاب والمليشيات، وإنسان أنهكته الحرب، لكن، مع شروق الشمس، يناجي الإله: يا فتاح يا عليم، افتح لنا أبوابك، لغة بصرية بدون طرقة كاميرا.
**
محطة أخرى نجت كاميرتي والهارد ديسك الذي به هذه الصور من رحلة الهروب من اليمن مارس 2017، المليشيات تتعقب وتفتش المسافرين، لقد نجت كاميرتي ونجونا معًا، بما فيها الهارد ديسك الذي اختزن صور المعرض في 2025، في كنيسة "Heiliggeist Kirche- Bern".
معنى الصورة من ألمانيا
اليوم، أتأبط الكاميرا من جديد، وأصور بحرية، بلا منع أو تحريم، أصور الطبيعة والحياة اليومية من فوتوغراف: "الناس والمدينة"، بما في ذلك الطبيعة الآسرة، إني أخلق من جديد.
فمع كل صباح وأنا أرتشف القهوة في فضاء الطبيعة من عصافير وموسيقى، أفتح ملفات الصور، لا، لأستعيد فقط الصور، بل أستنشق روائحها، وأتمثل تأملاتها، حدقات العيون تكلمني عن المكان واللون، تضيع بعض الملامح، لكن رائحة الوجوه وخطوطها المتشابكة والأمكنة والملبس تملأ الروح، تهمس لي: حان سرد الحكايات: "كان ياما كان، ويكون في كل آن"، فالصورة وطن، والوطن حيث أقف هنا،: الصورة حرية..
حيوات كثيرة ومتجددة كل يوم أكتشفها بعيني التي تنصت، وكاميرتي التي تطرق، 1، 2، 3: صووووورة!
**
وليس بأخير:
في هذا المقام، لا يسعني إلا أن أشكر الأعزاء والعزيزات من القائمين على الكنيسة، Heiliggeist Kirche لاستضافتهم معرضي الفوتوغرافي "وجوه من اليمن"، شكرًا لأنكم أسعدتموني، شكرًا لأنكم جعلتموني أظهر ما تبقى من الوجه الجميل والتنوعي لليمن، كنت أتمنى مصافحة الأيدي التي عملت المعرض.
ولا أنسى بالغ الشكر للصديقة الدكتورة: إلهام مانع، التي سعت للتواصل من أجل إقامة فعالية المعرض.
شكرًا جزيلًا لكم جميعًا!
8 مارس 2025
ألمانيا