العزيز الأستاذ الأديب الشاعر المثقف الكبير عبدالله القاضي. أذكر يوم غدائنا في سوق السمك في تسعينيات القرن الماضي، مع الخال العزيز يحيى عتيق، والأخ العزي العزيز محمد عتيق، والأخ المحامي أحمد بريه، وربما كان معنا بعض الزملاء ممن يعمل في مركز الدراسات.
كنت حينها في بدايتك على الطريق الذي جذبتك العناية الإلهية لسلوكه والسير فيه. لم يكن شكلك وملامحك قد صارا إلى ما عرفتك عليه بعد ذلك. كنتَ مازلتَ في ريعان شبابك وموفور صحتك.
كان أثر الحزن العميق باديًا على ملامحك، وكنت غارقًا في صمت عميق أبلغ من كل كلام.
ثم كثر لقائي بك بعد سنوات طويلة في مركز الدراسات، حيث تزاملنا معًا، ولست أنسى أحاديثك معي عن الفلاسفة وأعلام الفكر الغربي، وعن الأدب العربي والشعر والشعراء. كنت معجبًا باطلاعك الواسع وحافظتك القوية للشعر العربي.
وفي بعض الأحايين كنت ألقاك عند بسطة الكتب بقرب كاك بنك. يومها عزمتني على وجبة غداء، وتناول القات، فاعتذرت.
شعرت بالخجل. فكيف لإنسان مثلي يثقل ويكلف على شخص في مثل ظروفك، لكنَّ الأمور بالنسبة لك لم تكن بهذا المقياس.
لم أقرأ لك شيئًا للأسف، ولم أعرف عنك شيئًا أكثر مما كنت أعرفه، لكني كنت من أعماق قلبي أشعر بمحبة واحترام كبيرين لك.
ها أنا الآن أقرأ قصيدة من قصائد ديوانك «ندى العشب الجاف»، وعندما وصلت لهذا المقطع أجهشت بالبكاء؛ لأني لم أشعر بك من قبل كما شعرت بك الآن، ولم أعرفك من قبل كما أزعم أنني عرفتك الآن.
"ونحن نموت ولكنا
سنظل لحدِّ الموت نحبّ"
ما أروع هذين البيتين وما أصدقهما. لقد كنت تموت بمرأى منَّا ومسمع، ولكنا كما قال الله سبحانه: "وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون".
نعم فكل من عرفك شعر بأنه أحب الخلق إليك، وأقربهم إلى قلبك. لقد كنت تحب كل الناس بعاطفة صادقة، ومشاعر نبيلة وطيبة.
فهل لك أن تسامحنا أيها الإنسان الفاضل، والمتصوف الكامل؛ لأنا جهلنا قدرك، وقصَّرنا في واجبنا نحوك. فقد غمرتنا ظلمات النفس، واستولت علينا غواشي الجهالة والأنانية، وأُصِبنا بالعمى فلم نعد نرى كل هذا الجمال والطيبة والنقاء الذي كان يحفُّ بنا ولا نشاهده.
اعذرنا؛ لأنَّا كنَّا في صمم عن كل هذه الأوجاع والآلام التي كنت تعيشها وتئن منها أنت وكل الفقراء والمحرومين في هذ الوطن الحزين.
"كانت تورق في قلب الراعي شُجيرات الحِنَّا والبُن
تبوحُ عصافيرُ الوجد بغربتها للريحْ؛ وتنوح الريح
فتلتمعُ الخضرة في الأفق، ويبكي قلب الأبَّالْ
عجبًا أهي الأشجار
ترحل في هذا الوقت من الأسحار؟!
عجبًا.. في هذا الوقت من الأسحار؟!
....
"من يطرق أبواب ملوك الدنيا الفقراء؟"
قالت وارتعشت:
يا دَرَكي أقول سنرحل هذه الليلة
يا دركي أقول سنرحل!
خلِّ الطَّرقَ على الباب أقول
سنرحل هذه الليلة يا دَرَكي
أقول سنرحل
ما في البيت سوى كأسٍ یبهج في لحظات الشِّدةِ قلبينا
وكتاب
ليس سوى كأسٍ وكتابْ
....
أين أُوَلِّي بهذا العمر الجني
ودليلي غابْ
ونُجيم الراعي أطفأ موقدَهُ في الأفق
ولفَّ الكونَ ضبابْ؟!
أبوابُ الدنيا مقفلةٌ.. مَنْ يفتحها؟!
ولساني مرتوقٌ.. مَنْ يفتقها؟!
ودموعي قصائد.. من يكتبها؟!
....
حضر الغائب يا بهلولْ فمدَّ يدًا للغائبْ
قُدهُ صوبَ حظائر قُدسِكْ
وامنحه الفرحة في ليلةِ عرسكْ
وأطلعهُ صوامع عزكْ
...
يا أحباب القلب
لو قلتم كان فتىً بالأمس يغنِّينا
كان ويشجينا
يحضرنا في الأحلام فننساه
مَا همَّ؛ فإني أمنحكم حق النسيان"
لا نسيناكَ ما عشنا أستاذنا الصوفي البَدَل عبدالله القاضي؛ ستظل حاضرًا في قلوبنا؛ أيها الروح القدسية، والنفس العُلوية يا من نادته الأشواق إلى منزله الأول، وجذبته العناية الإلهية تحدوه إلى بلاد الأفراح؛ فأشرقت بقلبك الأنوار، وخلعتَ الدنيا من قلبك، وأقبلتَ على أمر آخرتك. وها أنت -كما تمنيت وأردت- تتخطر في حظائر قدس الله، مُسبِّحًا ممجِّدًا في صوامع عزه؛ في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.
