صنعاء 19C امطار خفيفة

قصة قصيرة:

المزور

بخطوات متكلفة، يسير د. عصام في ممرات الكلية كأنه إمبراطور يتفقد أملاكه. يُلقي نظراته المتعالية على الطلاب، يرفع ذقنه قليلًا، يضع يديه خلف ظهره في وقفة مصطنعة توحي بالهيبة، لكنه في داخله يرتعد. فهو يعرف أن هيبته مجرد قناع، وأن من يعرف حقيقته يستطيع أن يُسقطه بكلمة واحدة.

 
يمر بجانب مجموعة من الطلاب، يتوقف فجأة، ينظر إلى أحدهم نظرة فاحصة، يسأله سؤالًا علميًا معقدًا بصوت مرتفع ليسمعه الجميع. يتلعثم الطالب، لم يفهم السؤال، وكيف له أن يفهم وهو نفسه لم يفهمه حين كان طالبًا؟ يبتسم عصام بسخرية، ينظر حوله منتشيًا بنظرات الرهبة في عيون الطلاب، ثم يمضي وهو يتمتم: "هذا جيل ضائع، لا يعرف شيئًا".
لكن الحقيقة التي يحاول أن يهرب منها، أنه الضائع الحقيقي.
 

الماضي الذي يطارده

 
كان طالبًا فاشلًا، بالكاد يفهم محاضرات السنة الأولى، حتى سقط سقوطًا مدويًا في الثانية. درجاته كانت تُشبه ميزانية دولة غارقة في الفساد، لا أمل في انتشالها، لكنه لم يكن من أولئك الذين يقبلون فشلهم بصمت. لم يكن يرى المشكلة فيه، بل في النظام، في الأساتذة، في المناهج، في كل شيء إلا نفسه.
لكن حينما أغلق العلم أبوابه في وجهه، فتح له الفساد نوافذه، اشترى شهادة، دفع لمن "يرتب" ملفه، ومر عبر د. حسن، مقرر القسم آنذاك، الذي مهد له الطريق ليصبح دكتورًا، لا بالكفاءة، بل بالمؤامرة.
وهكذا بدأ عصر عصام.
 

انتقام الفاشل

 
لكن المزور لا ينسى لحظة انكشافه الأولى، لحظة وقوفه أمام ورقة الامتحان فارغًا، لحظة رؤيته لأقرانه يتفوقون عليه بسهولة. هذه اللحظات تُلاحقه كلما وقف أمام طالب مجتهد، كلما سمع محاضرة من زميل أكاديمي محترم، كلما شعر أن أحدًا قد يكشف ضعفه.
لذلك بدأ انتقامه.
أول أهدافه كانوا الطلاب المتفوقين، الذين تُضيء أعينهم بشغف العلم، بينما يُخيم الرعب في داخله كلما وقف أمام كتاب. يضع العراقيل في طريقهم، يُخفض درجاتهم بحجج واهية، يُشكك في أبحاثهم، يعرقل ترقياتهم، يُفضل عليهم من يُجيد التملق والسكوت.
لكن الطلاب ليسوا كافين لإطفاء نيران عقدة النقص داخله، فانتقل إلى الأساتذة الحقيقيين، إلى أولئك الذين يعرفون حقيقته. لم يكن يستطيع إزاحتهم بالطرق التقليدية، فبدأ باستخدام أسلحته الخاصة: الابتزاز، الفضيحة، والتلاعب بالإدارة.
 

الابتزاز: الخوف من الفضيحة

 
يعرف أن الكلية، مثلها مثل أية مؤسسة، ليست نظيفة تمامًا، وأن هناك دائمًا ثغرات يمكن استغلالها. بدأ بجمع الملفات، التنقيب في الأوراق القديمة، تسجيل الأحاديث الجانبية، مراقبة زملائه، حتى أصبح يُمسك بأسرارهم واحدًا تلو الآخر.
د. خالد، الأستاذ المحترم الذي يحظى بتقدير الجميع، لديه ملف قديم عن شكوى إدارية كيدية، لم تثبت صحتها، لكنها موجودة في الأرشيف.
د. سامية، الأكاديمية المتميزة، لديها طالبة من أقاربها في القسم، مجرد تفصيلة يمكن أن تتحول إلى تهمة محسوبية.
د. ناصر، الأكثر كفاءة، وقع على قرار إداري لم يكن يعلم أنه يحمل شبهة فساد.
وهكذا، أصبح لكل شخص نقطة ضعف، ملف يمكن سحبه في اللحظة المناسبة، ورقة تهدد مستقبله الأكاديمي والإداري. وكلما وقف أحدهم في وجهه، لوّح له بهمس خافت:
"دع الأمور تمضي… لا داعي لفتح الملفات القديمة".
وبالفعل، بدأت الأصوات تخفت، بدأ المعارضون بالانسحاب، ولم يبقَ في الساحة إلا عصام وأتباعه.
 

إسقاط الإدارة… فالجامعة

 
لكن هدفه لم يكن الكلية فقط. لا يمكنه البقاء في هذا المكان إذا جاء رئيس جديد صارم، أو إذا تم تغيير الإدارة. لذلك بدأ بتحصين مملكته، بدأ بابتزاز الإدارة نفسها.
العميد؟ لديه قرارات قديمة يمكن الطعن فيها.
وكيل الكلية؟ وُقع باسمه تقرير غير قانوني، لم يكن يعلم عنه شيئًا، لكنه بات الآن سيفًا على رقبته.
رئيس الجامعة؟ تم تحويل مبالغ غير معروفة في فترته، وإن لم يكن متورطًا، يكفي أنه مسؤول عنها.
وهكذا، أصبحت الكلية رهينة، الجامعة بأكملها مهددة، وإذا حاول أحد الاقتراب من ملفه، لوّح لهم بالحقيقة التي يعرفونها جميعًا:
"إذا سقطتُ… سقطتم معي".
 

الجامعة التي تحكمها العصابات

 
أصبحت الجامعة أشبه بمملكة فساد يقف عصام على عرشها، لا لأنه الأذكى، بل لأنه الأكثر قدرة على اللعب في الظلام.
طلاب متفوقون يُحاربون لأنهم يُذكرونه بفشله.
أساتذة محترمون يُقصون لأنهم يُعرّونه أمام الجميع.
إدارة مشلولة تخشى أن تنهار إذا تحركت ضد المزور.
جامعة أصبحت رهينة، تتحكم فيها شبكة من الابتزاز والخوف.
لكن السؤال الأهم: إلى متى؟
إلى متى سيبقى الفاشلون هم القادة، بينما يُقصى المستحقون؟
إلى متى سيُدار التعليم بمنطق العصابات، حيث الولاء يُكافأ، والكفاءة تُعاقب؟
عصام ليس مجرد فرد، بل نموذج متكرر في جامعاتنا، في مؤسساتنا، في أماكن كان يُفترض أن تكون منارات للعلم، فتحولت إلى أوكار لرداءة لا تُنتج إلا أجيالًا مشوهة، نصف متعلمين، نصف فاهمين، يُعيدون تدوير الفشل بدلًا من محاربته.
إنها ليست مجرد قصة رجل مزور، بل قصة مجتمع يسمح له ولأمثاله بالبقاء.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً