صنعاء 19C امطار خفيفة

ريمة.. الطريق والبناء ومخازن بني زياد في الجعفرية

ريمة.. الطريق والبناء ومخازن بني زياد في الجعفرية
طريق وقرية وواد سحيق في الجعفرية ( تصوير يوسف جبل ـ الجعفرية)

توسعت المبادرات الاجتماعية لرصف الطرقات بالأحجار في كثير من مناطق الريف اليمني في السنوات الأخيرة بشكل لافت، غير أن الظاهرة في جبال ريمة تثير الكثير من علامات الدهشة.

تقع مديرية الجعفرية في الغرب من محافظة ريمة، وبفعل قربها من "زبيد" عاصمة بني زياد في القرنين التاسع والعاشر الميلادي، فقد كانت جبالها الحصينة مخازن استراتيجية مهمة للحبوب والأغذية.

احد دياوين قلعة الواقدي ـ الجعفرية ريمة ( فيسبوك)

والجعفرية هي أقرب جبال السراة إلى "زبيد"، لذلك تركت دولة بني زياد الكثير من الشواهد المادية لذلك العصر، بما في ذلك اسمها: حيث تُنسب إلى جعفر المناخي الوزير الشهير لمحمد بن زياد.

قلاع وحصون رهيبة ومدافن الذرة الضخمة بالعشرات تُفصح عن معالم عهد صال وجال وحلّق في فضاء وآفاق الخلافة العباسية.

ترك العصر العباسي الكثير من المآثر في المناطق الغربية من اليمن، فـ"زبيد" التي اختطها ابن زياد بأمر من المأمون على ضفة الوادي المنحدر من الجبال تشبه "بغداد" التي تموضعت على ضفاف "دجلة" بأمر المؤسس أبي جعفر المنصور.

وفي الجبال الشرقية لزبيد، هناك "بنو زياد" و"بنو الحرازي" عزلتان شهيرتان: الأخيرة في الجعفرية، والأولى في مديرية "كسمة" المتاخمة لها على نحو أكثر ارتفاعاً.

وريمة أو "أمجبالية" كما تسميهم تهامة يعشقون العيش في أكثر المناطق وعورة ربما لدواعي الأمان أو بحثاً عن الراحة والمراكز الرائعة للسكن.

وداخل تلك البيئات الجبلية الخضراء تنبع الغيول وتتبعثر البيوت ضمن خرائط رسمتها ظروف الجبل الذي فرض قانونه على الجميع وحدد اختياراتهم السكنية ليسقيهم بسخاء من عيونه.

واحة من البن والزنجبيل في الجعفرية انجزها فلاح عظيم ( فيسبوك)

وفوق هذا الجبل الفسيح تبدو الحياة مريحة للباحثين عن الطقس الذي لا مثيل له في الجعفرية. وفي الجنوب مخلاف "اليمانية" الواسع الذين أمّموا وجوههم جنوباً باتجاه وصاب وبينهما رماع. لكن أينما اتجهت في ريمة هناك ثمن يدفعه الأهالي ويتكبدونه عبر العصور: الطرقات.

تزرع الجعفرية كل شيء، بما في ذلك الزنجبيل والخرمش، وتُعتبر من أخصب مناطق المحافظة بفعل المياه الطبيعية العذبة ومناخها الفريد ووجهتها الجنوبية/ الغربية المعتدلة، حيث التربة الأكثر خصوبة على طول سلسلة جبال السراة التي بدأت من الأردن شمالاً واتجهت جنوباً على نحو مستقيم، ثم اتسعت في ريمة واقتربت من البحر وبلغت شماريخ شمسان غرب عدن.

وإذا كانت الطرقات في ريمة قد وصلت إلى بعض مراكز النواحي أواخر السبعينات، ثم تتابعت في العقود اللاحقة وامتدت إلى كثير من عُزل النواحي الست، فإن الكثير من القرى لا تزال تعاني بسبب تضاريس الجبال الصعبة التي تعيق معدات الشق العملاقة.

قرى عظيمة وحقول ومدرجات وأشجار عتيقة ضاربة في القدم ووديان، ولا تزال الحياة زاخرة بالحيوية رغم كل شيء.

في السنوات الأخيرة قام الأهالي بشق الطرقات واستطاعوا إيصالها إلى مناطق وقرى كان يستحيل بلوغها بحركة أشغال وجهود متواصلة وذاتية دفعوا فيها أثماناً غالية: بما في ذلك الأرواح.

الناس رعية، والفلاح في الجعفرية متميز ومتفوّق على سواه في النشاط واللطف والمبادرة لأجل الصالح العام. وإلا فكيف استطاعوا أن يحافظوا على أموالهم (حقول ومدرجات البن التي أدهشت البعثة الدنماركية بقيادة نيبور في القرن الثامن عشر)، حيث رسمت عبقرية الإنسان للطريق مساراً آخر بعيداً عن المدرجات التي يحتفظون ببصائرها منذ مئات السنين.

طريق وقرية وواد سحيق في الجعفرية ( تصوير يوسف جبل ـ الجعفرية)

عمليات شق يدوية ينفذها شبان مجدّون في العمل بمعاولهم العظيمة وبالكمبريشانات وبأدوات تكسير الصخور المعروفة، وحيثما تكون المِلاط صعبة فجّروها بالديناميت.

مثلاً: طريق "اللمهيل" التي تم اجتراحها بجهود عظيمة عبر مرحلتين: الشق ثم الرصف بالأحجار. وهذه الطريق التي باتت سالكة وسهلة لصعود ونزول السيارات تصعد من اللمهيل ثم العَنَم وصولاً إلى قرية "نعمة".

الطريق في القمة يتوارى بين السحاب ويطلق عليه الاهالي سور ريمة العظيم ( فيسبوك)

عكست هذه المبادرة الذاتية والعمل الجماعي عشقاً فريداً للحياة وأفصحت عن جمال ونقاء وإرادة لا تعرف المستحيل. كان الأهالي يتوزعون الأشغال على طول الطريق يوماً وأسبوعاً وشهراً بعد آخر، وكان المغتربون يعززونهم بالمال حتى اكتملت المهمة.

وهكذا مضت عمليات الشق والرصف وبناء العبارات بالصخور وتشييد الجدران الساندة على الجانبين للحماية.

لقد شيدوا طريقاً في ذروة الجبال وساروا عليها بسياراتهم وردموا الفجوات بالبناء وصنعوا ما يشبه الأسوار الشاهقة كي تعبر فوقها المركبات حفاظاً على حقول البن والقات والذرة والمذاري بأنواعها.

في 16 سبتمبر 2021 كان أهالي قرية "نعمة" يحتفلون بوصول أول سيارة إلى قريتهم العالية بموقعها الشاهق وسط الضباب والمهيمنة من مكانها الشاهق على انفتاح سهل تهامة وصولاً إلى البحر.

وتتميز هذه القرية عن سواها من القرى بموقعها السياحي وجوها البديع وبكثافة "العُمى". ومن يصل إلى هذا المكان يدرك معنى كيف أن بعض الأماكن تسحر الأبصار ويدرك أيضاً معنى ودواعي التسمية للقرية: نعمة.

الغروب فريداً، والشمس قبل المغيب تتنقل من موقع لآخر فوق سطح البحر ضمن علامات حساب المواسم. وفي الليالي الصافية يشاهد السامرون مدن الساحل مسرودة على التوالي: الجراحي ـ زبيد ـ بيت الفقيه ـ الحسينية ـ المنصورية ـ الحديدة، كما لو أنها قوافل من الحجاج تسري إلى مكة على ضوء القمر.

تستحق هذه القرية كل هذه الجهود وأن تحتفل تجديداً للحياة بوصول السيارات والبضائع إلى عرصاتها.

اكتملت الطريق العجيبة بطول 6 كم، وفي بعض الأماكن بسبب صعوبة استواء الخط تم تشييد الجدران الساندة التي تبلغ بعضها 10 أمتار (ارتفاعاً).

أحد هذه الجدران الحاملة للطريق الذي بات يُعرف اليوم ضمن تسمية محلية بـ"سور ريمة" تم إنجازه بطول 140 متراً في واحدة من العمليات الإنشائية المذهلة.

بيوت مسقوفة بالأحجار

لا تزال الدهشة تتواصل في مديرية الجعفرية، حيث البنايات الضخمة المعمورة كلياً بالأحجار لعدة طوابق بسقوف حجرية ذات أطوال متفاوتة.

هكذا ترفع الاعمدة وتسقف البيوت بأعمدة حجرية في بعض مناطق ريمة ( فيسبوك)

في عزلة "بني واقد" هناك العديد من البيوت المسقوفة بالصخور. لكن قلعة "الواقدي" التي اكتمل بناؤها قبل سنوات بطوابقها الأربعة باتت رمزاً معمارياً فريداً ومعلماً شهيراً ونمطاً مختلفاً من أنماط فنون العمارة الذي يفصح عن كثير من ملامح التحضر وعلوم البناء.

موقع فريد ومرتفع يطل على هذه العُزل: بنو سعيد ـ بنو القحوي ـ بني واقد ـ وعلى وديان سحيقة تنحدر سيولها في فصل الصيف باتجاه تهامة وبحرها. كما أن الطريق المؤدي إلى بوابة العمارة "القلعة" كما يطلقون عليها ـ مرصوصة بالأحجار المشذبة ضمن التواءات ثعبان الطريق من أسفل الجبل وحتى أعلاه عندما تدلف السيارة البوابة الرئيسية للعمارة "القلعة".

تعبر السيارة بوابة القلعة ضمن تجويف حجري مفتوح كنفق تدخل منه السيارة وتعبر إلى الجهة الأخرى تحت العمارة بسقوفها الأربعة.

عمارة الواقدي

تتألف عمارة الواقدي من أربعة طوابق، وفي الأسفل أيضاً هناك خزان ماء يتسع لـ 1200 متر مكعب. وهذه الطوابق مسقوفة جميعها بالأحجار، وفي كل طابق تتوزع المفارج على الأركان، وتتمايز الحُجرات وصالات الطعام والحمامات والمطابخ، وفي الأعلى طيرمانة تفوق الوصف.

اثناء العمل في تسقيف الطابق الرابع لقلعة الوا قدي (فيسبوك)

أصبحت قلعة الواقدي مقصداً للزائرين وعشاق السياحة الجبلية الذين يقصدونها على مدار اليوم ويتجولون في أجنحتها حيث يلتقطون أجمل الصور.

تتميز هذه العمارة من الداخل بجمال العقود الحجرية الرئيسية الواسعة التي تنهض عليها السقوف وتتحمل الأثقال الهائلة، وأيضاً بتنسيقات النوافذ والأبواب وعقود القمريات. غير أن هذا النمط الفريد من السقوف لا يخلو من المخاطر بفعل كثافة الثقل.

لذلك يراعي المهندسون وأساطين البناء المحليون العديد من الأمور الرئيسية قبل الشروع في وضع الأساسات لضمان السلامة والأمان. من ذلك مثلاً: يجب أن يتأسس مثل هذا البناء على أرضية صخرية صلبة، لأن أي ارتخاءات بسيطة في الأسفل ستؤدي إلى انهيار كارثي لكل هذه البدن الضخم الأشبه بجبل دفعة واحدة.

احد دياوين قلعة الواقدي ـ الجعفرية ريمة ( فيسبوك)
احد دياوين قلعة الواقدي ـ الجعفرية ريمة ( فيسبوك)
واحة من البن والزنجبيل في الجعفرية انجزها فلاح عظيم ( فيسبوك)
طريق وقرية وواد سحيق في الجعفرية ( تصوير يوسف جبل ـ الجعفرية)
هكذا ترفع الاعمدة وتسقف البيوت بأعمدة حجرية في بعض مناطق ريمة ( فيسبوك)
اثناء العمل في تسقيف الطابق الرابع لقلعة الوا قدي (فيسبوك)
المعلم يتأمل السقف بعد اكتماله ( فيسبوك)
كانت ظروف الطريق هكذا ( فيسبوك)
لا مكان للخشب
مسجد في ريمة من الداخل مزين بالقباب المحمولة علۑ العقود ( فيسبوك)

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً