هذا المقال جزء يسير من حصيلة محادثات هاتفية دامت عقدين بين الراحل السحولي وكاتب هذه السطور. تمحورت أحاديث السحولي على أحوال اليمن قبل الثورة وبعدها، وعلى شخصيات مرموقة عايشها وقد تتاح لي الفرصة للكتابة عنها مستندًا إلى ما قاله عنها. بعد اعتذاره المتكرر عن كتابة مذكراته استأذنته بتدوين ما أسمعه منه، ووافق.
تُوفي السفير حسن محمد يحيى السحولي في القاهرة، في ٩ يناير ٢٠٢٤، عن ٩٣ عامًا، بعد إقامة هي الأطول ليمني فيها. تولّى الراحل لفترة قصيرة بعد ثورة سبتمبر ١٩٦٢، منصب مدير مكتب الرئيس السلال، وقد ضاق بوجوده د. عبدالرحمن البيضاني (الهندي الأب والمصري الأم) الذي لم يطقه الجميع، بمن فيهم الرئيس السلال، ولذلك لم يقم في صنعاء سوى أربعة أشهر تقريبًا.
ادعى البيضاني أنه كان يمثل عبدالناصر، وأن موافقة عبدالناصر على بقاء القوات المصرية في اليمن لدعم الثورة مرتبط برضاه هو. كان الجهل باليمن واليمنيين جزء من مشكلة اللابيضاني الذي لم تربطه صلة دم باليمن أو انتماء. في مقال للأستاذ وضاح عبدالباري طاهر، نشرته "النداء" في ٩ يناير ٢٠٢٥، عن علي قاسم المؤيد، أحد ضباط الثورة المتميزين، والذي كان دوره وثقافته ونزاهته محل ثناء السحولي، أن البيضاني استقبله ومجموعة من الضباط، وأشار إلى مائدة لتناول وجبة عشاء فاخرة، وأنهم عندما طلبوا منه مشاركتهم اعتذر قائلًا إنه يأكل بانتظام شديد، وأن كل الوجبات تأتيه جوًا من مطبخ عبدالناصر"! هذه الجزئية كاشفة بأن الكذب كان جزءًا من شخصية اللابيضاني. نجح البيضاني في التخلص من السحولي بنفيه إلى القاهرة، لأنه كان من الشهود على عبثه السلطوي وسرقاته للمال العام ومحتويات القصور، وتهريبها إلى القاهرة، وحي المعادي فيها شاهد على ثروته المعمارية اليمنية.
كان نفي السحولي أول نفي لمواطن في عهد الثورة وبعده، لم يُقم السحولي في اليمن ثلاثة أشهر متصلة رغم عضويته في المجلس الوطني بعد حركة ٥ نوفمبر ١٩٦٧، وعلاقته الوثيقة بالقاضي عبدالرحمن الإرياني، وعمل في السفارة بالقاهرة حتى عين سفيرًا في عهد الشهيد إبراهيم الحمدي. سُجن السحولي قبل الثورة في حجة لسبع سنوات على فترتين لارتباطه بـ"الأحرار"، وبعد إطلاقه واصل نشاطه المعارض للإمام أحمد، وقام بمحاولة فاشلة مع عبدالملك الطيب لاغتياله في جامع المظفر بتعز، وبعدها هرب إلى عدن بمساعدة الشيخ الحضرمي إبراهيم عقيل، وفيها واصل مسيرة المعارضة حتى ذهابه إلى القاهرة في ٢١ مارس ١٩٦١. ظل السحولي مرتبطًا باليمن، وكان بارًا بوالدته وبشقيقته. مما قاله عن والدته أنها نصحته بالاعتماد على نفسه بهذه المقولة: "حمل الخرا على الراس ولا الحاجة للناس". وبعد انتهاء عمله كسفير كانت النصيحة في وجدانه، ولكيلا يحتاج إلى أحد عمل مصححًا لكتب دار المعارف بالقاهرة.
عن خيباته من حدوث التغيير المتوقع من ثورة سبتمبر، قال بأنها دفعته للمقارنة بين عهد الإمام أحمد وبين عهد الثورة، وبناء عليها عدّل موقفه من الإمام أحمد، وعبر عن ندمه على خروجه عليه، ووصف عهده بعهد الأمان والاستقرار اللذين فُقدا بعد عام ١٩٦٢. وللسحولي ملاحظات ناقدة على ما جرى في اليمن من تجاوزات وانتهاكات بعد الثورة، ورأى في عهد الحمدي استثناء قصير العمر أجهضته قوى لم ترد للتغيير أن يعيش، واغتالته كما اغتالت محمد أحمد نعمان وجار الله عمر وغيرهما. كثيرًا ما ردد السحولي هذا البيت من الشعر لإبراهيم الحضراني: كل فجر مر فجر كاذب... فمتى يأتي الذي لا يكذب. وبيتًا آخر له: ومخلفات في جوانحنا هي الخصم العنيد.
النشأة:
حسن السحولي من مواليد الأهنوم، قرية بيت المعافا، محافظة حجة، وفيها تتلمذ فقهيًا وأدبيًا على أيادي أساتذة ولي العهد أحمد حميد الدين المولود في قرية بيت شانع في الأهنوم، ومنهم العلماء الشنط، والكحلاني، وعباس بن أحمد بن إبراهيم. وصف السحولي قريته بأنها تتكون من عدد قليل من البيوت، وبها جامع جميل جدًا درس فيه، وكان سكانها يتكفلون بمعيشة الطلاب بقُرمة (عيش) في الصباح وأخرى في الظهر. وصف السحولي أساتذته بعلماء عصره، وبأنهم كانوا شخصيات متواضعة، وقد يوجد أحدهم نائمًا في الطريق، وكان رأسمالهم كتبهم، ويعيشون للعلم، ويدرِّسون طلابهم مجانًا، ويتابعونهم ليستمروا في التعليم.
عانى السحولي في الأهنوم من شظف العيش ومصاعب الحياة وانعدام فرص العمل، ولكنه حرص على التعليم، وحفظ عن ظهر قلب متن الأزهار للسيد أحمد بن يحيى المرتضى، ومجموع المتون، ومتن الآجرومية وألفية ابن مالك، ألف بيت من الشعر، وكانت تلك مؤهلاته التي أهلته للعمل في الديوان الملكي بتعز.
رحلته إلى تعز:
ذهب السحولي إلى تعز، وهو في السابعة عشرة، في عهد ولي العهد أحمد على الأقدام، وحافيًا، وليس على بدنه سوى زنة وكوفية، للحصول على إكرامية منه، وحمل رسالة من شيخهما الشنط. استقبله ولي العهد، وتسلم منه الرسالة. كان القاضي الصِّفِي الجرافي، رئيس الديوان الملكي، وقد طلب منه كتابة الرسالة بخطه، ولإعجابه بخطه الجميل اقترح على ولي العهد توظيفه في الديوان الملكي، موضحًا له أنه من بيت علم، وأنه يمت بصلة إلى القاضي إبراهيم السحولي، قاضي قضاة اليمن، الذي خلفه في عمله القاضي محمد بن علي الشوكاني. وافق ولي العهد على توظيفه، وكتب "يُعين". أصبح السحولي قريبًا منه، وأحد كتاب جواباته على شكاوى المواطنين من العمال والحكام، التي كانت تأتي كبرقيات يجمعها عبدالله العِسولي، مدير البرق في تعز، في شِوالة، ويقدمها له كل مساء ناصر العذري. تعلم السحولي كتابة الردود على الشكاوى على يد القاضي عبدالرحمن الحداد، وبهذا الصدد قال إن الإمام لم يكن ينام إلا وقد أمر بالرد على كل الشكاوى، وأنه كان يهتم ببرقيات "الجوابلي" التي يدفع مرسلها تكلفة الإجابة عليها لاعتقاده أن من يتحمل تكلفة الجواب عليها مظلوم، وكان يطلع على برقيات العمال والحكام في المناطق الحدودية مع السعودية وبريطانيا، ليطمئن باستتباب الأمن فيها.
قال السحولي إنه تعلم من الإمام أحمد الأدب والخُلق، وأنه بعد أن وثق به عينه مسؤولًا عن الشفرة، واختبر أمانته في حفظ سرها بأمره أحد موظفي الديوان الملكي بدفع مبلغ مغرٍ من المال له ليشي بسرها له، ولكن السحولي رغم تكرار المحاولات نفى علمه أو علاقته بها، مما عزز صلته بالإمام أحمد.
من ضمن ما قاله أن مواطنًا شكا عامل النادرة القاضي عبدالله الحجري، لعدم تنفيذه تعليمات من الإمام بخصوص شكواه، مما دفع السحولي إلى إرسال برقية للحجري جاء فيها: "اعتدل أو اعتزل". استنفرت البرقية الحجري، وأتى خصيصًا إلى تعز لمعرفة كاتبها، وعندما عرف، خاطبه مستنكرًا لغتها، وكان رد السحولي أن تلك البرقية كانت بتوجيه من مولانا.
في مقارنة السحولي للإمام أحمد بوالده يحيى، قال بأن يحيى كان ذكيًا جدًا وواعيًا سياسيًا، ويتريث أكثر من أحمد السريع الانفعال.
من الذين أثني عليهم السحولي في تعز اثنان هما السيد أحمد محمد باشا لكرمه، وذكر أنه كان يستضيف ولي العهد ليتناول وجبة دسمة لا تتاح له مع أسرته، وأيضًا كان يستروح تناول وجبة غداء في بيت الحمامي في الجحملية، والسيد محمد يحيى الذاري لعدالته، والذي كان قاب قوسين أو أدنى من الإعدام بعد الثورة على يد هادي عيسى وحسين الدفعي وغالب الشرعي، لولا تدخل القاضي عبدالرحمن الإرياني الذي ظل نادمًا على عدم تدخله لإنقاذ أبرياء آخرين من قضاء عسكري انحاز للدم وتجنب العدالة.
اليأس:
عند اعتذاره المستمر عن كتابة مذكراته، كان يقول أكتب لمن؟ مابحد. كان عندي أمل مات بعد اغتيال إبراهيم الحمدي. تعلق بالأمل وحدك. اليأس إحدى الراحتين، و"اليأس من الحاجة قضاء حاجة"، وكثيرًا ما ردد هذا البيت: "سمجت كلها الحياة وماتت كل أشواقنا إلى الأشياء"، وأبيات من قصيدة نزار قباني بردت قهوتنا: "بردت قهوتنا.. بردت حجرتنا.. لم أعد أبصر في عينيك ضوءًا.. بعد أن صورك الوهم لعينَيّ أميرة.. بعد أن كانت ملايين النجوم تغلي فوق أحداقك كالعصافير الصغيرة".
الكهنوت:
لم يستسغ السحولي الوصف الذي شاع بأن الإمام أحمد كهنوتي، لأنه في رأيه لم يكن كذلك، لأنه عاش حياة بسيطة، وأنه حكم بالهيبة، وليس بالقداسة كوالده، وسرد ما يلي تدعيمًا لرأيه: ١. أسلوب معيشته لم يتغير عما كان عليه في حجة، مرق ولحوح. ٢. معظم إن لم يكن كل موظفي الديوان الملكي من القضاة برئيسه القاضي الصِّفِي الجرافي، وأقرب مستشاريه كان القاضي محمد عبدالله العمري، نجل رئيس وزراء الإمام يحيى، الذي اغتيل معه عام ١٩٤٨. ٣. لم يكن الحاكم المطلق في الشؤون الشرعية، فمثلًا لم يكن يستجيب لتضرعات نقض حكم شرعي، ولم يستجب لطلب العقيد الثلايا عام ١٩٥٥ للصفح عن الجنود الذين قتلوا "الرعية" في الحوبان، وقال له لتحكم في ذلك الشريعة. ٤. كان يهوديًا من يخيط له القمصان والصايات والأجواخ. ٥. أوصى بكل أملاكه لبيت المال، ومكتبته للجامع الكبير. وفي وصفه لحياته الصعبة ينقل عنه السحولي قوله: "هذا عمر حمار".
نقده بعض إجراءات الثورة:
انتقد إجراءات رآها معيبة كالمعاملة غير الإنسانية لنساء أسرة حميد الدين، وأثنى على الصليب الأحمر لرعايته لهن، كما أثنى على السعودية لاستقبالهن عام ١٩٦٤ بعد قضائهن بعض الوقت في القاهرة تحت رعاية الصليب الأحمر، وانتقد مصادرة بيوت وأراضي أسرة حميد الدين ومسؤولي "العهد البائد" التي تم الاستيلاء عليها بقوة النفوذ، وليس تطبيقًا لقرار أو قانون، أو لمصلحة الشعب. هؤلاء كما قال كانوا وراء الإصرار على عدم عودة أسرة حميد الدين إلى وطنها، واعتبر ذلك جريمة، ومن أسوأ حوادث اليمن، وعدّد أسماء من استولوا على البيوت والأراضي والمزارع من ضباط ومشايخ في صنعاء وتعز وعمران وحجة. وتساءل: ما الذي كان بيت حميد الدين يملكونه مقارنة بين ما يملكه المسؤولون الجمهوريون؟ وكرر ما قاله الرئيس السلال بأنهم ظلموا الشعب وظلموا أنفسهم. وانتقد الإعدامات بدون محاكمة عادلة، ومنها إعدام تاجر البن الناشري الذي قال هادي عيسى عنه جملته الشهيرة: "قد بِسمه جا".
الفساد:
قال أكثر من مرة بأن الإمام أحمد لم يكن يتهاون مع الفاسدين، وأنه سجن من تحولوا إلى ثوار (انظر: البردوني، اليمن الجمهوري، الذي تحاشى ذكر أسمائهم)، ومنهم من هرب إلى عدن بعد سرقته مالية المخا، وآخر سجن لسرقته أموالًا عامة في ميدي، وثالث سجن لسرقته أموالًا عامة وتلقيه رشاوى في المخادر. وللحيطة كان أحمد يأخذ اليمين من كل من يعمل في الديوان الملكي، بأنه لن يرتشي.
أخيرًا، أتمنى أن أتمكن من الكتابة عن الشخصيات التي عاصرها السحولي قبل وبعد الثورة، وعلى رأسها الأستاذ النعمان ونجله محمد، وأسرة الشهيد إبراهيم الحمدي.