صنعاء 19C امطار خفيفة

فارس غيبته الحياة قبل أن يغيبه الموت

فارس غيبته الحياة قبل أن يغيبه الموت
ناجي سالم بريك (منصات التواصل)

غادر دنيانا الفانية العزيز ناجي سالم بريك، طاهرًا عفيفًا كما ولد، لم تلوثه المغريات، ولم يرضَ لنفسه السقوط أو الانحراف عن مساره السوي، الذي ألِفه ووطّن النفس على المضي فيه حتى نهاية عمره، رغم الفرص المتاحة لنهَّازي الفرص، ورغم المشاق التي لا يفر منها من جبلوا على التضحية والعطاء.

 
جمعتنا هموم الوطن وأحلامه، في سنين هي أجمل سني العمر. عرفته لأول مرة في القاهرة في عام 1962م، حينما كانت القاهرة قبلة العرب ومنارة العلم والتعليم. كلانا كنا طالبين في المرحلة الثانوية. كان يسكن مع سيف أحمد حيدر وعبدالجليل سلمان وعبدالكريم حمود، في حي العجوزة، في عمارة مجاورة للعمارة التي سكنت فيها مع الزملاء محمد ناشر سيف وعبدالغني عبدالقادر وعبدالعزيز الشعبي. وكان الانتماء السياسي الواحد أساس علاقتنا الممتدة، التي لم تنقطع، رغم بقائه في القاهرة ومغادرتي لمواصلة الدراسة في دمشق. وعدنا لنلتقي في عدن، ونواصل نشاطنا في الحزب نفسه (حزب البعث العربي الاشتراكي)، حتى غادرت عدن إلى الشمال. ثم التقينا مجددًا في عدن بعد عقدين من الزمن، أثناء زيارة قصيرة لجامعتها. ومع تكرر زياراتي لعدن، تكررت لقاءاتي به. ثم التقينا في صنعاء، بعد تحقيق حلم اليمنيين بوحدة وطنهم. وهو الحلم الذي سرعان ما تهشم على أيدي بعض من أسهموا في تحقيقه.
 
عرفته طوال حياته النضالية مثالًا للإنسان الودود في تعامله، الزاهد في حياته، المتفاني في أداء واجباته ومهامه، في أي موقع يجد نفسه فيه. كان عضوًا في قيادة إحدى الفرق الحزبية في عدن، ثم انتخب عضوًا في قيادة المنظمة، في عام 1972م، واستمر فيها بعد فك الارتباط التنظيمي بالتنظيم القومي لحزب البعث، وتحول المنظمة إلى "حزب الطليعة الشعبية"، وبقيت القيادة نفسها تدير نشاط حزب الطليعة، حتى انضوى مع معظم فصائل العمل الوطني في شمال اليمن وجنوبه، في الحزب الاشتراكي اليمني، وأصبح ناجي عضوًا في لجنته المركزية، ثم مدير تحرير صحيفة الحزب الرسمية "الثوري". وانتقل بعد تحقيق الوحدة اليمنية من عدن إلى صنعاء، واستقر فيها، وواصل مشواره العملي في وزارة الثقافة، ومشواره النضالي في الحزب الاشتراكي اليمني، حتى أقعدته المعاناة والأمراض وخيبات الأمل وإهمال رفاقه وأصدقائه، وانطوى على نفسه حتى أسلم روحه الطاهرة لبارئها بصمت، بعيدًا عن الأضواء الإعلامية وعن صخب البشر.
رحلة طويلة في الحياة، لم يبقَ منها سوى الذكريات، بحلوها ومرِّها. وأمرُّ ما فيها تحول الأحلام الجميلة والطموحات الوطنية الكبيرة إلى كوابيس، لا يشعر بوطأتها على جيلنا إلا من عاش تلك الأحلام والطموحات، وناضل من أجل تحقيقها، وعرف ذلك الزمن الجميل. وقد عانى ناجي من ثقل هذه الكوابيس، وغادرنا وهي تطبق على أنفاسنا جميعًا.
ما أصعب على النفس أن يغادرنا العزيز ناجي والوطن يعيش هذه الأحوال الكارثية، التي لم يتخيل هو ولا أحد من الأحياء والأموات، أن يأتي على اليمنيين زمن، يعانون فيه ما يعانونه، ويرحل فيه أكرم وأشرف مناضليه، دون أن يشعر برحيلهم من عاشوا معهم وناضلوا معًا، وتقاسموا المشاق، وتشاركوا الأفراح والأتراح.
وما أتعس الوطن الذي وهبه العزيز ناجي حياته، ناضل من أجله طويلًا، وحلم كما حلم أبناء جيله، بأن يحققوا له السلام والأمن والاستقرار والرخاء والنهوض الشامل، فإذا به يغمض عينيه ويودع أهله ومحبيه الوداع الأخير، وهذا الوطن الذي تفانى في حبه، يعيش أسوأ مراحل تاريخه. يدمَّر ويمزَّق على أيدي أبنائه. يسكن جنباته الحزن بدلًا من الفرح، والإحباط بدلًا من التفاؤل والأمل. وعندما تحين ساعة الرحيل عن هذه الدنيا، وهذه الحالة المأساوية، التي لم تخطر على بال أحد، ماثلة بكل بشاعتها وقسوتها، فإن الرغبة في الحياة تموت قبل موت الجسد.
عزاء للوطن اليمني برحيل ابن بار من أبنائه، أفنى حياته مناضلًا صادقًا عفيفًا، في سبيل حلم وطني تشبث به حتى أسلم روحه الطاهرة إلى بارئها. وعزاءً لأسرته الكريمة وأهله ورفاقه وأصدقائه ومحبيه. تغمد الله روحه الطاهرة بواسع الرحمة، وأسكنه الجنة في العليين، مع الأنبياء والشهداء والصديقين. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً