كنت كتبت عن الصديق الأستاذ عبدالكريم آدم، مقالين نشرتهما عبر صفحتي على "فيسبوك"، ووصفته بالفيلسوف، وذلك من خلال معرفتي به في جلسات "مقيل" منذ منتصف العقد الأخير من القرن العشرين تقريبًا، وبخاصة تلك الجلسات الفكرية التي كانت تجمعني به في منتدى صنعاء الذي أسسه صديقنا المشترك الأستاذ علي الحبيشي، رعاه الله.
وبعد أن اطلع على ما كتبت عنه، أهداني أجمل هدية يهديها صديق لصديقه؛ وهي من مؤلفاته المطبوعة:
١. كتابه "الحقيقة والأكذوبة".
٢. نظرية العقل والحقيقة الغائبة.
٣. وديوان شعر بعنوان "رسالة إلى بلقيس".
وله كتب مخطوطة كثيرة لم يتمكن من الدفع بها للمطبعة، لعل الظروف المالية هي الحائل دون ذلك.
وسوف أتناول باقتضاب قراءتي الأولية للكتاب الأول "الحقيقة والأكذوبة"، ويتكون من 546 صفحة، وهو عبارة عن رحلة في أعماق الفكر الإنساني الديني والفلسفي، ابتداء من أقدم الفلسفات والديانات وحتى اليوم.
فيتناول الفلسفات القديمة، ابتداء من بعد الحكماء السبعة وحتى اليوم، مرورًا بـ"سقراط" وتلميذه "أفلاطون" وتلميذ الأخير "أرسطو"، وحتى فلاسفة عصر التنوير، كما يرد على أسئلة فكرية في غاية العمق كسؤال "لماذا الدين؟"، ويوجه أكثر من "رسالة إلى العصر"، ثم يمر مرور الكرام على تعريف "الحقيقة بين الثابت والمتغير"، و"الحقيقة والغاية"، والأديان في التاريخ، مبتدئًا بعقائد ما بين النهرين ومصر القديمة والصينية والطاوية واليابانية، وبعض عقائد الهند، ثم الأديان التوحيدية: "اليهودية والمسيحية والإسلام"، كما تطرق إلى مدعي النبوءات تحت عنوان "أكذوبة النبوات السماوية"، ثم تناول علم أصول الدين من خلال "نظرية الألوهية"، وواجب الوجود وفكرة وحدة الوجود بشقيها الفلسفي والصوفي، والإنسان ومسألة التكوين... إلخ.
وعلى سبيل التمثيل، فإنني سأوجز في هذه الحلقة ملخصًا لما جاء في الشق الفلسفي، وإن لم يتطرق للحكماء السبعة بشكل مباشر، فقد تناول أبا الفلسفة "سقراط"، وهو والحكماء السبعة قد عدهم أمير الشعراء "أحمد شوقي" من الأنبياء الموحدين، فقال في مدح رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام: "وعقيدة التوحيد وهي حقيقة
نادى بها سقراط والقدماء"
والحديث عن كتاب يتكون من 546 صفحة، ليس سهلًا، بل لا يتسع له مقال، ولكنني سوف أوجز قدر الإمكان سواء بشأن الفلسفة أو الأديان، باختصار غير مخل؛ بالإضافة إلى بعض فلاسفة عصر التنوير من رينيه ديكارت إلى فردريك نيتشه، وذلك على النحو التالي:
مبتدئًا بالحكماء السبعة هم مجموعة من الفلاسفة اليونانيين الذين عاشوا في القرن السادس قبل الميلاد. ومن أبرزهم:
- طاليس: يُعتبر أول الفلاسفة، وهو مؤسس المدرسة الميلسية، وترتكز فلسفته على أن أصل الوجود هو الماء، وقد جاء القرآن يؤكد هذه الحقيقة، إذ اعتقد "طاليس" بأن "الماء هو أصل كل الأشياء". والقرآن يؤكد ذلك قال عز من قائل: "وجعلنا من الماء كل شيء حي".
- أنكسيمندرس: تلميذ طاليس، قدم مفهوم "الأبيرون" (اللامحدود) كأصل لكل الأشياء.
- أنكسيمينس: اعتقد أن الهواء هو العنصر الأساسي الذي يكوّن العالم.
- بيثاغورس: أسس فلسفة تعتمد على الأعداد، واعتقد أن كل شيء يمكن تفسيره بواسطة الرياضيات.
- هيراقليطس: أكد على فكرة التغير المستمر، مشيرًا إلى أن "كل شيء يتغير".
- بارمنيدس: عارض هيراقليطس، إذ اعتقد أن التغيير وهم، وأن الوجود ثابت.
- زينون: اشتهر بمفارقات تتحدى مفاهيم الحركة والزمان.
ثم عرج إلى أبي الفلسفة بحق، وهو سقراط الذي قبل أن يتجرع السم رغم أن تلامذته فتحوا له باب السجن لينجو بنفسه، لكنه قال مادمت قد قبلت أن أكون مواطنًا إغريقيًا، فواجبي أن أتقيد بقوانين بلادي.. وهو يعتبر مؤسس الفلسفة الأخلاقية؛ وقد استخدم طريقة الحوار (المايوتية) لاستجواب الآخرين حول معتقداتهم، أي طريقة توليد المعاني، فيوجه أسئلته إلى محاوريه، ويجعلهم يتوصلون بأنفسهم إلى الحقيقة. وإليه ترجع الحكمة "أعرف أنني لا أعرف شيئًا"، مما يعكس تواضعه الفكري. كان يركز على الفضيلة والعلاقات الإنسانية.
وأما أفلاطون تلميذ سقراط، فهو من نقل إلينا في جمهوريته فلسفة أستاذه، وقد أسس أكاديمية أثينا. وقدم مفهوم "الأشكال" (الأفكار) التي تمثل الحقيقة المثالية.
وقد كان يؤكد على أن العالم الحسي هو مجرد انعكاس للعالم المثالي؛ فكل ما هو موجود في الواقع ما هو إلا انعكاس للعالم المثالي. ومن أشهر ما ترك من مآثر هو كتابه الأعظم: "الجمهورية"، ناقش فيه مفهوم العدالة والدولة المثالية التي يحكمها الفلاسفة.
كما تناول الأستاذ عبدالكريم فلسفة تلميذ أفلاطون "أرسطو"، الذي أسس المدرسة المشائية، كما أنه عارض فكرة الأشكال المثالية، وركز على الملاحظة والتجربة.
وأسس المنطق الذي يسمى باسمه "المنطق الأرسطي"، وطور نظام الاستدلال الاستقرائي، وكان يعتقد بأن الفضيلة تكمن في تحقيق التوازن (الاعتدال) بين الرغبات.
وأما فلاسفة عصر التنوير الذي ظهر خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وشهد تطور الأفكار العقلانية والعلمية، ومن أبرز الفلاسفة:
- رينيه ديكارت: الذي يُعتبر "أب الفلسفة الحديثة"، وأشهر نظريته هي "الكوجيتو"، كما أنه قدم مبدأ الشك المنهجي من خلال الشك في كل شيء، وعدم الإيمان بالشيء ما لم يكن كذلك، إلا أنه توصل إلى اليقين، إذ أثبت وجود الله من خلال "الكوجيتو"، فقال فليقولوا إن الحواس تخدع، لكني سوف أنسى الوجود المادي، وأغمض عينيّ، لكن لا أحد يستطيع أن ينكر وجوده طالما وهو يفكر: "أنا أفكر، إذن أنا موجود". معتبرًا أن العقل هو مصدر المعرفة.
- ثم تلميذه الفيلسوف باروخ سبينوزا الذي قدم مفهوم "اللاهوت الطبيعي"، ورأى أن الله والطبيعة هما وجهان لحقيقة واحدة؛ ومن أشهر أعماله كتابه الشهير "اللاهوت والسياسة".
- ثم جون لوك الذي اعتقد أن المعرفة تأتي من التجربة، وقدم مفهوم "tabula rasa" أي "اللوح الفارغ" الذي يعني أن العقل يولد خاليًا من المعرفة -صفحة بيضاء، ثم تكتب التجارب والمعارف في ما بعد، عكس نظرية ديكارت وسقراط.
ثم عرج الأستاذ عبدالكريم على فولتير الكاتب والفيلسوف الفرنسي، وهو أحد دعاة حرية التعبير والتسامح الديني، ووجه نقدًا لاذعًا شديدًا للكنيسة.؛ وتطرق إلى "جان جاك روسو" إذ ركز على فكرة العقد الاجتماعي، ورأى أن الإنسان بطبيعته طيب، وأن المجتمع هو الذي يفسده، ومن أشهر أعماله كتاب "العقد الاجتماعي" الذي اعتبر أن الدولة عبارة عن شركة كل مواطن يسهم فيها بالتنازل عن جزء من حريته الشخصية لصالح المجموع.
كما تطرق فيلسوفنا الأستاذ "عبدالكريم آدم" إلى فلسفة الفيلسوف "إيمانويل كانط" الذي قدم فلسفة الأخلاق المطلقة، وأكد على أهمية العقل في تشكيل المعرفة والأخلاق.
ومن أكثر الفلاسفة جرأة على قول الحقيقة، هو الفيلسوف الجبار صاحب "الإنجيل الخامس" الذي ألف فصوله الثلاثة من هذا الإنجيل الموسوم بـ: "هكذا تكلم زراديشت"، وهو في غيبوبة. وهو أبلغ كتاب كتب باللغة الألمانية، إنه "فريدريك نيتشه" الذي انتقد القيم التقليدية والدين، وقدم مفهوم "موت الإله" و"الإنسان الأعلى". اعتقد أن الإنسان يجب أن يخلق قيمه الخاصة.
كما أن صاحبنا الأستاذ عبدالكريم آدم قد تناول تلك الفلسفات والأساليب الفكرية التي تشكل أساسًا لفهم مختلف مجالات المعرفة، من الأخلاق والسياسة إلى علم المعرفة، ولتعريف القارئ نتناول مفهوم "العالم المثالي" عند أفلاطون، وهو إحدى الركائز الأساسية في فلسفته، ويمثل رؤية عميقة للوجود والمعرفة. إليك شرحًا مفصلًا لهذا المفهوم:
يرى أفلاطون أن العالم يتكون من نوعين من الوجود: العالم المادي (الحسي) والعالم المثالي (الأفكار أو الأشكال).
فالأشكال هي كائنات غير مادية، خالدة وغير متغيرة. تمثل مثيلات كاملة للكائنات الموجودة في العالم الحسي. على سبيل المثال، الشكل المثالي لـ"العدالة" أو "الجمال" لا يتغير، بينما تجسداته في العالم المادي تكون متغيرة وغير كاملة.
وبالنسبة لأفلاطون، فإن المعرفة الحقيقية لا تأتي من التجربة الحسية، بل من فهم الأشكال المثالية. فالعالم المادي مجرد ظل أو انعكاس للعالم المثالي.
ويعتبر أفلاطون أن الفلاسفة هم من يستطيعون الوصول إلى المعرفة الحقيقية من خلال التفكير والتأمل في الأشكال.
وفي كتاب "الجمهورية"، يستخدم أفلاطون أسطورة الكهف لتوضيح فكرته. الأشخاص في الكهف مقيدون، ولا يرون إلا الظلال على الجدار، وهي تمثيلات للعالم المادي. عندما يخرج أحدهم إلى الضوء (العالم المثالي)، يدرك الحقيقة، ويشاهد الأشكال الحقيقية. ويمثل الخروج من الكهف رحلة نحو المعرفة الحقيقية، إذ يجب على الفلاسفة أن يعودوا إلى الكهف ليشاركوا الآخرين في هذا الفهم.
كما أن أفلاطون يعتبر أن العالم المثالي يحتوي على معايير للجمال والعدالة. في الدولة المثالية، يجب أن يحكم الفلاسفة، لأنهم هم الأقدر على فهم الأشكال المثالية وتطبيقها في الحياة السياسية؛ ومن خلال فهم الأشكال، يمكن للفرد أن يسعى نحو الفضيلة، ويعيش حياة أخلاقية.
وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم الأشكال أثر في الفلاسفة اللاحقين مثل أرسطو والفلاسفة المسيحيين. كما أسهم في تطوير الفلسفات المثالية العميقة حول طبيعة الواقع والمعرفة، وشدد على أهمية الفلسفة كوسيلة للوصول إلى فهم أعمق للحقيقة، ويمثل نقطة انطلاق للعديد من النقاشات الفلسفية التي تلت ذلك.
وبعد أن ألممنا بنبذة عن رؤية فيلسوفنا "عبدالكريم آدم" عن الفلسفة، نتطرق إلى تلك الأديان التي أشرنا إليها في مطلع هذه الحلقة المخصصة لكتابه: "الحقيقة والأكذوبة". وسوف نتناول بعضًا منها، وبما يسمح به هذا الحيز من هذه الحلقة الأولى، ونقدم نبذة عن بعض الأديان التي ذكرها الأستاذ عبدالكريم في كتابه المذكور آنفًا، ونبتدئ بالأديان القديمة مثل الميثولوجيا السومرية، حيث كانت الآلهة تمثل قوى الطبيعة. وديانات مصر القديمة، حيث كان هناك تعدد في الآلهة، وعبادة الفراعنة كأنهم آلهة.
ثم تناول المؤلف "عبدالكريم آدم" الأديان الصينية التي تشمل الكونفوشيوسية والطاوية، حيث تركز الكونفوشيوسية على الأخلاق والمجتمع، بينما الطاوية تركز على التوازن مع الطبيعة.
كما تطرق إلى بعض الأديان الهندية مثل الهندوسية والبوذية، إذ تركز الهندوسية على الكارما والدورة الحياتية، بينما البوذية تتحدث عن التحرر من المعاناة.
وعرج بنا إلى الأديان التوحيدية "الإسلام" الذي يؤكد على توحيد الله والإيمان به وبرسله وكتبه واليوم الآخر والعمل الصالح، ويطرح أفكارًا حول الأخلاق والعدالة.
ثم المسيحية، وذكر أن تعاليمها رغم التثليث (الأب والابن والروح القدس) هي رسالة توحيدية تحرفت رغم أنها كانت في الأصل تدور حول تعاليم المسيح الذي يؤكد على الحب والتسامح.
واختتم باليهودية التي تركز على العهد بين الله والشعب اليهودي، وتعتبر التوراة أساسًا للقوانين الأخلاقية.
ومن أخطر المواضيع التي تناولها الأستاذ عبدالكريم في كتابه، هو موضوع في غاية الأهمية والخطورة في آن، تحت عنوان "أكذوبة النبوات السماوية"، إذ تناول مفهوم النبوات في الأديان، إذ يتم التحليل النقدي للأحداث والشخصيات التاريخية التي تدعي النبوة. يتضمن هذا البحث عن الأدلة التاريخية والمعرفة العلمية لفهم الظواهر الدينية.
كما أن الأخ عبدالكريم تعامل مع الأسئلة الأساسية حول الإله، مثل:
- نظرية الألوهية: كيف يتم فهم وجود الله وطبيعته.
- واجب الوجود: فكرة أن الله هو الوجود الضروري.
- وحدة الوجود: فلسفة تقول إن الله والطبيعة هما وجهان لنفس الحقيقة.
كما تناول التكوين، أي كيف نشأ الكون والحياة، من خلال النظر في النظريات العلمية مثل الإحالة (التحول) والاستحالة (التحول إلى حالات جديدة).
وقد قدم لنا من خلال هذه الفلسفات والأديان، رؤى متنوعة وعميقة، وطرح موضوعات تعتبر من التابوهات المسكوت عنها، وبخاصة في ما يتعلق بالخلق والحقيقة والأكاذيب التي صارت الحقيقة وسطها كشعرة بيضاء في ظهر ثور أسود، كما تطرق إلى الخلق والوجود، وبخاصة وجود الإنسان ومعنى الحياة، مما يشكل أساسًا لفهمنا للكون والمكانة الإنسانية فيه.