لكن يا عم علي أنا ما أكلش اللحم البقري! نظر إليَّ بتأكيد مصححًا، وقال: لااا.. لا.. ماهوش بقري، هذا لحم عجول! نظرت إلى الطبق واللحم المحمر الجميل فوقه يشتهي الأكال.. وأسقط في يدي من اللهفة.. وقلت مؤمنًا على كلام العم علي العرشي، صاحب مطعم وفندق البحر الأحمر، الذي كان رمزًا بارزًا من رموز عدن الكريترية، بخاصة وقد قام بنفسه بتقديم الطلبات لنا.. قلت: خلاص.. مادام كذا.. معليش.. شكرًا.. وضع الأطباق بعناية قدامنا، هناك سلتة صنعانية في الحرضة حسب الأصول.. وخبز الملوج البيوتي.. ولحمة العجل المحمرة.. أما حلوى البحر الأحمر فلا مثيل لها: بودينج مع شرائح أناناس بالكريمة.. وحبات كرز أحمر كعلامة مميزة للبحر الأحمر.. لكنها كانت غالية: بثلاثة شلنات كاملة وحدها! وقتها كان السعر كاملًا، ولكنه يستاهل.. وسلاطات العم علي يزينها بالبنجر والبتروت، وعليها جبن مبشور..
علي عبدالمنان وأخوه محمد وفؤاد مصطفى خدابخش، معًا كنا من رواد البحر الأحمر.. ونحظى برعاية خاصة من الكاشير أحمد العرشي، الصديق الأثير بعد إغلاق البحر الأحمر، ومن جلساء شلة سمرنا هناك (في الصورة الثانية، والعم علي مع الباسكيل في الأولى، ومبنى الفندق في الثالثة).
إلى أن وقعت حرب غزو عدن 1994م، كانت شلتنا تلتئم كاملة قدام نادي الفنانين على السور القصير الذي يحيط ببيت الشودري (في الصورة الرابعة، قديمة ونظيفة أمام سجن عدن المركزي الذي تحول إلى وحدة سكنية). وبعد اشتداد الزحف على عدن ودخول الغزاة.. انتقلنا إلى رصيف البحر الأحمر.. وانتقل قادة الدفاع عن عدن، أحمد سالم عبيد وجعفر محمد سعد إلى منافي الاغتراب.
قدام البحر الأحمر كان من نصيب حزبنا التجمع الوحدوي اليمني، الحصول على مقر رئيسي هناك.. كنا نخزن فيه، ونطلب الماء المثلج من البحر الأحمر من برادات لايت فوت الإنجليزية الشهيرة التي لا تبلى، من واردات N. A. A. F. I المكلف بتزويد الجيش بالمتطلبات.. وحتى أغلب أفران الطبخ في البحر الأحمر واردة من هناك!
شوف يا ابني.. اللي ما يعرفش يقول بلسن.. أنا أهوى ركوب دراجة الباسكيل لسببين: أولًا كوسيلة مواصلات من بيتي وفي طول وعرض كريتر.. وثانيًا كوسيلة رياضة مثل المشي والسباحة التي لا تتيسر إلا كل حين ومين! هكذا ينصحنا العم علي العرشي.. وهي نصيحة التقطها آخر صبيان الخدمة في البحر الأحمر ليدهسنا مرة.. ومرة أخرى يعيرني دراجته لشوط من الرياضة، قمت به حتى سقطت على إسفلت الطريق!
وتفرق الأصحاب كل في طريق.. لكن ليالي سمرنا ازدهرت هناك بجانب البحر الأحمر، مع حامد جامع وحسين النعج وعبدالله حسن وأحمد العرشي ابن أخ العم علي.. بقي التئام جمعنا هناك إلى أن رأينا لافتة حزينة تعلن عرض بناية الفندق/ المطعم للبيع!
قبلها تعرض الفندق لعدة تجارب لم تفلح.. لكن أفضلها كان عندما استأجرت سيدة بريطانية عظيمة البناية، وحولتها إلى عيادة وصيدلية باسم "ماري استوبس" لخدمة النساء في الولادة بتعرفة شبه مجانية (صورتي وزميل سمر قدام المنظمة في ليالي سمرنا حين كنت سمينًا). وقدمت المنظمة خدماتها كأفضل ما يكون، إلى أن أغلقت أبوابها في زمن حروبنا البطالة.. بعد ذلك استأجر المكان طباخ لبناني مستثمر ليقدم فيه وجبات شامية متعددة.. وعمل طوال شهر رمضان إلى أن داهمته مصائب غلاء المعيشة وعزوف الناس عن طعام المطاعم.. فنذر مخزوناته ليقدم بها وجبة طعام مجانية للجوعى، وأغلق أبوابه!
لا ينسى أهالي عدن ماكينات الطرب والموسيقى التي انفرد بها البحر الأحمر مقابل نصف شلن للأغنية.. ولا ينسون لوحة إعلانات سينما ريجال المثبتة في ركن البحر الأحمر، لتعلن مرتين في الأسبوع عن جديد أفلام ريجال، والتي كان العم علي يحرص على حضورها أسبوعيًا بتذكرتين مجانيتين من الدار مقابل إعلاناتها في مطعمه... ولا ينسون العم علي العرشي عصر كل يوم فوق دراجة الباسكيل الرياضية التي يحرص على ركوبها يوميًا للتنقل.. والرياضة.. وقوله وهو يضحك: إن اللي ما يدريش يقول بلسن.