إلى جارتي العزيزة (ش): لقد تحدثت معك مئات المرات أنني أكره ذلك الإزعاج المنبعث من شقتك كل مساء.
هي تمارين عزفك للكمان، أليس كذلك؟ ربما أنتِ لستِ موهوبة حقًا في عزف هذه الآلة، فلماذا تسببين ذلك الإزعاج للجيران؟ تعلّمي عزف آلة أخرى أو حاولي ألا تبدئي دروسك المكثفة تلك ما بعد منتصف الليل. أرجو أن تتقبلي ذلك بتفهم.
أنا أتعمد كتابة كل الكلمات المستفزة لأجرب كيف يكون غضب هذه المرأة العجيبة، لكنها دومًا وكالعادة تستقبل رسائلي بابتسامة أنيقة تذهب بعقلي خلف الشمس، وتختطف قلبي للأبد. تصنعُ لي كعكًا شهيًا اعتذارًا عما حصل.
سأكرر كتابة رسالة بعد أخرى حين أشتاق مجددًا لطعم الكعك اللذيذ. ها أنا أُشيع الآن آخر حباته في فمي، وأشعر بجوعٍ شديد لتلك المرأة جميلة الغموض والإزعاج.
اضطرب وأشعر بخواء ملتصقًا بباب غرفتي لأسمع النوتات الأولى في العزف. تتعالى ضربات القلب، وأهرع مجددًا لأكتب رسالة شكوى جديدة، وأنتظر قدوم الصباح لأضعها تحت الباب، وأنتظر بترقب ذلك الكعك الشهي طيلة اليوم.
تلك الأغاني الصباحية من شقتها تأسرني أيضًا. أنتظر قليلًا وأنا أنزل الدرج لأُصلح ربطة حذائي، وأبتسم حين أسمع بصوت فيروز: "بعدك على بالي يا قمر الحلوين"، أحلّق بعيدًا مستمتعًا برائحة الشاي المنعشة. أهرول للعمل منتشيًا وأنا أدندن نفس الأغنية طيلة اليوم.
أنجز كل المعاملات سريعًا في المكتب، لا أرغب أن تبقى لديّ أوراق للعمل عليها في البيت. إزعاج المدير والعملاء ومزح زملائي الثقيل أصبح روتينًا جميلًا أستقبله برحابة صدر وابتسامة أنيقة كتلك التي تخص جارتي.
أنا أشعر أن الحياة لم تعد قاتمة وكل الألوان التي كنت أخجل وأتردد أن أجربها، ها أنذا أرتديها بحب، وألوّن بها تفاصيلي كل يوم.
لم أعد أتذمر من ضغوط العمل، ولم أعد أتهرب من المهام التي يُلقيها المدير على كاهلي لأترك المكتب. أنا الموظف الكسول والمشتت دومًا، أصبح تركيزي عاليًا وأدائي ملفتًا. المهم أن أنجز كل المهام كاملة في المكتب، ولا يتبقى لديّ عمل يشغلني في البيت.
فالعودة لشقتي كل مساء هو وقتي الخاص الذي أقضيه مكتظًا بكل الأصوات الصادرة والروائح المنبعثة من شقة جارتي العزيزة، وما إن تدق الساعة الثانية عشرة حتى تبدأ مناوبتي الليلية ملتصقًا خلف الباب مترقبًا للنوتات المزعجة القادمة من شقتها.
أستمتع بها، أرقص معها منسجمًا مع ذلك الإزعاج الشديد، ثم ما إن تنتهي حتى أشرع بكتابة رسالة شكوى جديدة.
جارتي (ش) لم تسألني يومًا عن اسمي، وأنا عرفت اسمها مصادفة حين كنت أقطع الشارع خلفها وأحد الأطفال ناداها باسمها وهو يلوح لها بيديه، فالتفتت له بنفس الابتسامة. ثم مضت بعيدًا.
نحن الآن نعيش في نفس العمارة ما يقرب التسعة أشهر. فترة كافية ليتشكل طفل مكتمل النمو، ويطالب فورًا بخروجه للعالم ليواجه مصيره المحتوم، ويستمتع برحلته في الحياة.
ها هو قلبي أيضًا يطالب بحقه في الحياة بعد أن تشكل واكتمل هذا الحب لجارتي المبتسمة دومًا صانعة الكعك والدهشة وعازفة الكمان المزعجة.
حين تبتسم في وجهي وهي تناولني صحن الكعك، أشعر أنها تتأملني عميقًا بنظرة خجولة، وكأنها تقول لي بمكرٍ: أنا أعرف عنك كل شيء، وأعرف يقينًا كم أنت مغرمٌ بي، لكنها لا تقول شيئًا.
تبدو في منتصف الثلاثينيات، لكن ابتسامتها توحي بوداعة طفلة متمردة ترفض قبول قوانين الحياة في أن تكبر وتتقدم في العمر. التقيت بها لأول مرة أسفل الدرج، كانت تحمل كتبًا كثيرة، وتعثرت بسببي دون قصد. اعتذرت لها سريعًا فابتسمت لي لأول مرة، وأشارت للكتب. ففهمت أنها تطلب مني أن أحملها بدلًا عنها.
روايات دوستويفسكي ودواوين محمود درويش، حملتها جميعًا، ثم سقط منها كتاب الرسائل. كتاب أنيق: "رسائل فينيست إلى ثيو".
أثارت فضولي ودهشتي منذُ ذلك اليوم. أن تجد امرأة مغرمة بفينيسنت فان جوخ. هذه دهشة غريبة أنا الموهوب بالرسم المغرم مثلها بجوخ. كيف أعادت لي هذه المرأة ريشتي وألواني ودفق موهبتي التي اعتقدت أنها تلاشت منذُ زمن. ها أنا أكبر وأنضج عميقًا وتتخلق لديّ من العدم عادات يومية جميلة، فعوضًا عن التصاق أذني بباب الشقة ما بعد منتصف الليل، ها هي لوحاتي تلتصق بالباب لأرسم مبتهجًا أمام ذلك الإزعاج المنبعث بألوان أكثر هدوءًا وسلامًا.
جارتي العزيزة صانعة الكعك اللذيذ، صاحبة الابتسامة الأنيقة والنوتات الصاخبة، عاشقة القراءة والموسيقى. عرفت مؤخرًا -وبالصدفة أيضًا- أنها لا تسمع ولا تتكلم. كانت تلك الابتسامة هي لغتها المتاحة للتعبير وصخب موسيقاها هي لا تسمعه كم هو مزعج للجيران.
تلك المرأة التي وهبتني بهجة الحياة، ولوّنتها لي بأناقة، قررت أن أكون صوتها المتدفق دون انقطاع.
سأكتب لها عن ذلك في رسالة شكواي القادمة.