صنعاء 19C امطار خفيفة

فلاش باك:  ذكريات حربين

فلاش باك:  ذكريات حربين
نيران تتصاعد من مصفاة تكرير النفط بعدن (منصات التواصل)
 

(1)

 

 من أخبركم أن الحرب تنتهي بمجرد أن تتوقف النيران ونعود لمنازلنا أو ما تبقى منها بعد رحلة النزوح الشاقة، الحربُ لا تنتهي أبدًا أبدًا، تخرج شظاياها دومًا من أجساد الناجين منها. ربما كل الضحايا فيها هم في نعيم الجنة الآن، والناجون ها نحن نتعذب ببشاعة في جحيم الذكريات. في حرب 2015 كنتُ في مواجهةٍ شرسةٍ مع الجرذان، في إحدى الليالي الصعبة احتميت من القصف الشديد في غرفة ضيقة جدًا، فاضطررتُ لمشاركتها تلك المساحة الضيقة طيلة الليل. رغم قرفي وخوفي منها، إلا أني كنتُ أُحدّق في عيني أحدها ببلاهة. كانتا مفتوحتين على نحوٍ غريب. حاولتُ الحفاظ على هدوئي رغم الاضطراب، حاولتُ بجهدٍ الحفاظ على مساحتي الضيقة، ملتصقة بجدار الغرفة تحت السرير المهترئ، دون أن تغفل عيناي لحظة واحدة، فأقترب منها، وأجد أصابعي المرتعشة قد لامستها سهوًا.

 
اشتد القصفُ فجأة، فاهتزت جدران الغرفة وارتبكت، فازداد التصاقي بمساحتي الضيقة، أطلقتُ تشهدي الأخير وصرختُ بهلعٍ: لا أريد أن أموت مع هذه الجرذان. شعورٌ مقيتٌ بالذنب نهشني حين وجدتها تجري مسرعة نحوي تحتمي تحت قدميَّ المرتعشتين. لقد خافت من أصوات القصف، واحتمت بي! يا لبشاعة الإنسان وقسوته. أيُّ قلبٍ قاسٍ كنتُ أحمله، أيُّ شبح إنسان كان يتلبسني. شعرتُ بالخزي من نفسي، وقررتُ في ليالي القصف اللاحقة ألا أتذمر من مشاركتها تلك المساحة الضيقة، ولا حتى من ملامستها لي إن دعت الحاجة.
 
انتهت الحرب في مدينتي، ولم تنتهِ في مدنٍ أخرى. الجرذان باغتتنا من كل مكان، نزلت من الجبال والوديان، صعدت من شقوق الأرض، هطلت مطرًا من السماء. عادت للبيوت مع كل النازحين، مازلتُ أُراقبها من بعيد، تتسع حدقاتها في العتمة، لكن هذه المرة بلؤم شديد، بينما لا تمل هي من قضم أرواحنا المتعبة.
 
هذا جرذٌ يُطلقُ الرصاص، وهذا جرذٌ ينهب الممتلكات أو يبسط عليها، وهذا آخر يتحدث في التلفاز عن قيمة الوطن، وهذا يُكفّر، وهذا يُخوّن، وآخرُ يخون. هذا جرذٌ  يسخر من أصابع الأطفال المبتورة، وهذا آخر يقتاتُ من بطون آخرين، وهذا يضحك، وآخر يكذب، وهذا لم يزل يسفك الدماء ويشربها. 
 
الجرذان اجتاحت بلادنا، الجرذان اجتاحت هويتنا، الجرذان اجتاحت أرواحنا، الجرذان اجتاحت مستقبلنا.
 
إنّه الطاعون يا سادة!
 
 
 
(2)
 
اللعنة على هذه الحرب التي وشوشت لقذائفها بإحداثيات روحي، فحولت مناطق شاسعة منها إلى خراب في وطنٍ يصبح  الزفير فيه ليس ردة فعل للشهيق، ويصبح التنفس جرمًا، والهواء عدوًا، والأمل مخاطرة قد تُكلفنا غاليًا.
 
وقت الفراغ الذي تقضيه بين مجزرتين، محاولًا المحافظة على صحتك النفسية، وأنت تُحدق في عين الحزن.. تسأل نفسك: كيف تتناسل منها كل هذه العذابات؟ كيف يموت الأبرياء هكذا؟ ألم يزعج السماء بعد كل هذا الصراخ والعويل؟ ألم تشبع الأرض من شرب كل هذه الدماء؟! والضحايا لِمَ لم تتسنَّ لهم فرصة أخيرة لكتابة وصية ما على الأقل، هل ماتوا حقًا، أم أنهم مازالوا نيامًا فلا هم استيقظوا ولا نحنُ اكترثنا بنومهم الطويل..؟
 
كيف لرئتي الصغيرة أن تحمل أوجاع الجميع، كيف لها أن تبتلع كل هذا الهواء المسموم، ثم تستمر في التنفس ليومٍ آخر؟ هل من حسن حظي أني مازلتُ على قيد الحياة، أم من سوء الحظ أنني لم أزل أتلعثم في وطن يُعنفني بشدة.. يصرخُ في وجهي حين أتوسله أن يمنحني بعض الوقت، وألا يضع اسمي على قائمة ضحايا المجزرة القادمة؟
 
هذا الوقت قد يُشكّل فارقًا مهمًا في تعديل نتيجة مباراة كرة قدم، أو إصلاح ذات البين بين عاشقين مجروحين، أو ترميم أحلام قديمة وإعادة توضيبها في خزانة الذاكرة. قد يُصبح المنقذ الوحيد لطالبٍ في امتحانه الأخير حين يتذكّر كل الإجابات الصحيحة في آخر ثوانٍ منه، أو لطبيب طوارئ في إنعاشه للمريض الذي جاءه في أنفاسه الأخيرة. لكن ماذا عني؟ هل سيمنحني الوقت وقتًا آخر وكافيًا للحياة وارتداء الشجاعة الكافية لاستقبال قذائفها بابتسامة مكابرة جدًا قبل الدمار الأخير؟ الوقت في حياتي سلاحٌ قاتل، ولا أملك في مواجهته إلا مباغتته دومًا بالانفصال والرحيل عنه دون سابق إنذار.
 
استيقظت ذات ليلٍ داخل الحلم. موسيقى كمان أعشقها جدًا تُعزف من مكانٍ قريب، أبحث عن مصدرها دون أثر في الأرجاء. أقف في المنتصف حائرة من أين مصدر الصوت؟ يباغتني الموت، أراه أمامي، يبتسم بمكرٍ، يمسك بيدي، ويدعوني لرقصة فالس أخيرة.. كان الانسجام بيننا واضحًا، ابتسمت بمكرٍ أكبر وأنا أطبع قبلة على خده. في الأثناء دستُ على قدميه، فمالت حلبة الرقص بيننا، وتعثر بعيدًا. ونجوت من رقصته تلك!
 
الغضب العارم لهذه الحرب اقتنص كل محاولاتي لطبع قبلة افتراضية على وجهها المشوه كما فعلت مع ذلك الموت، أليست القبلة رسالة سلام لهذه الأرض المتعبة؟ رائحة عطرٍ تُبدد روائح الموت والبارود، وقتًا مستقطعًا نتسلل جميعًا في دقائقه.. نتعثر وننهض من جديد، لتستمر المحاولات في الدوس على قدمها، لتسقط مذبوحة، وتغادر بلادنا لنُمارس الحياة كما نشتهي.
 
 
 
(3)
 
لا شهود عيان على تلك اللحظات الأخيرة التي سبقت انفجار موتنا. ليست أشلاؤنا من تُعلن ذلك، بل أرواحنا التي تذوي بصمتٍ مخجل حين تخنقنا كل الغازات السامة، لكن الرئات لم تزل تتنفس.. الموت في هذا البلد يهوي نحو أعماق سحيقة، لكلٍّ منا ارتطامه الخاص.. تهوي أسراب البشر وتنفجر في دهشة السؤال: هل سيمنحنا الموت وقتًا بدل ضائع قبل الارتطام الأخير؟
 
إنني الآن بحاجة ماسة لتلك القدرة العجيبة على تفادي أخبار الموت المحيطة بي، كقدرتي السابقة في تفادي الموت نفسه الذي تجسد في تلك الرصاصة التي كادت أن تخترق رأسي  عند اندلاع الحرب التي فقدت فيها خمسة من أفراد أسرتي، وإحدى صديقات طفولتي، فقدتُ الكثير من أصدقاء الطفولة الذين قاتلوا في كل الجبهات، هناك من لم يعد، وهناك من عاد مبتور الأعضاء، مسلوب الروح والأمل. لا تكتب النهاية بسبب الموت وحده. أنا من تفهم هذه العبارة جيدًا. لن يجرؤ على معارضتي كل الذين يشبهونني، أولئك الذين لم تمنحهم الحياة شيئًا، ولو حتى وقتًا بدل ضائع الذي كان يمكن فيه التحكم في النتائج، وإحراز بعض التقبل والتسامح أمام كل هذه الخسارات العريضة. قال لي أخي: لقد كدتِ تُقتلين، شاهدي الرصاصة مرت من أين؟ يا لهم من أنذال كيف يطلقون النار على سيارة تقل مدنيين هاربين من جنون الحرب!
 
- لماذا لم نمت في حرب صيف 1994 عندما سقطت تلك القذيفة بمحاذاة سيارتنا ونحن نهرب من النيران.. كنت حينها طفلة غير مرئية جدًا في السادسة من العمر، كانت أمي بالتأكيد ستنجب بدلًا عني، طفلة أخرى أكثر حضورًا، على الأقل لن تكبر الآن لتصبح امرأة معطوبة بفعل الذكريات.
 
بعدها وضعت إصبعيّ داخل أذنيّ، حشرتهما بقوة. أصوات القذائف تتعالى، صراخ المصابين، أشلاؤهم كضحايا في ما بعد. مشاهد النيران تتعاظم تباعًا، صراخ المسعفين الذين انتبهوا أن وسط الركام طفلة صغيرة متكومة وسط الأشلاء، وأخيرًا أصبحت مرئية جدًا لينتشلني أحدهم دون أية إصابات جسدية. لم يكترث بعدها أحد لإصابات الروح. كبرت من يومها سريعًا، نموت في الضوء بروحٍ مهزومة وكبرياء مجروحة وأحلام عاجزة أن تتحقق كرجال مدينتي تمامًا. أخي كان وقتها في الثانية من عمره، لا يتذكر شيئًا مما سردتُ له. جعلني لامرئية مجددًا حين منعني عن سرد المزيد من الحكايات. طالبني بالصمت رغم نزق الذكريات التي أحملها، احتضنني فقط، واستسلمنا معًا لبكاء طويل لا أذكر متى توقف.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً