صنعاء 19C امطار خفيفة

أمل بلجون: صوت يصدح في ذاكرة اليمنيين بينما يخبو في واقع النسيان

أمل بلجون: صوت يصدح في ذاكرة اليمنيين بينما يخبو في واقع النسيان
أمل بلجون-منصات التواصل

في عام 1986، كنت طفلًا صغيرًا، لا يتجاوز عمري العشر سنوات، أراقب شاشة تلفزيون عدن ببساطة طفولية.. كان بث قناة عدن يصل إلى قريتي في جبال الأعروق تعز.. لم أكن أفهم آنذاك حجم ما يجري، لكن لحظة واحدة علقت في ذاكرتي إلى الأبد: مذيعة أنيقة، بصوتها الواضح والقوي، تقرأ نشرة الأخبار وعيناها تمتلئان بالدموع. لم أفهم سبب بكائها حينها، لكن بمرور السنوات، أدركت أن تلك الدموع كانت تعبيرًا عن ألم إنساني وتاريخي هائل. كانت تلك المذيعة القديرة أمل بلجون، وهي تلقي أول نشرة أخبار بعد أحداث يناير الدموية، التي خلفت جروحًا عميقة في الجسد اليمني.

 
اليوم، أجدني أشعر بالحزن والأسى وأنا أقرأ مناشدة زميلي النبيل فتحي بن لزرق للرئيس العليمي، يناشد فيها الالتفات إلى حالة أمل بلجون، تلك الإعلامية التي أعطت لوطنها كل ما تملك على مدى 45 عامًا، لتجد نفسها الآن تعيش على فتات معاش تقاعدي لا يليق بها ولا بتاريخها: تسعون ألف ريال!
 

أمل بلجون: من الصوت إلى الرمز

 
أمل بلجون ليست مجرد مذيعة قديرة من جيل الإعلام الذهبي لعدن، بل هي رمز لأصوات لم تنحنِ أمام الصعاب، لأرواح أفنت حياتها في سبيل إيصال الحقيقة للجماهير، لأبناء اليمن الذين عملوا بكل جد وجهد ليكونوا جزءًا من النسيج الوطني الثقافي والفني. هي أحد وجوه الجيل الثاني لإذاعة وتلفزيون عدن، الذي تلى جيل المؤسسين الأوائل، وكانت حاضرة في كل لحظة مهمة من تاريخ هذا الوطن.
أمل بلجون- شبكات التواصل
لم تكن أمل بلجون وحدها في هذه الرحلة، فقد كان لشقيقها محمد عمر بلجون نفس الحضور الإعلامي القوي، قبل أن يُجبر على الهجرة إلى الخارج في السبعينيات، ليصبح مديرًا للبرامج العربية في إذاعة هولندا. وكذلك شقيقها الآخر، عبدالرحمن بلجون، الذي شغل منصب مدير إذاعة عدن حتى استشهد في أحداث يناير 1986 المأساوية. ومع كل تلك التضحيات التي شهدتها أسرتها، وقفت أمل قوية، مستمرة في أداء دورها الإعلامي، حتى أصبح صوتها جزءًا من ذاكرة كل يمني عاش تلك الفترة.
 

دموع أمل: تجسيد للوطن

 
تلك الدموع التي انهمرت وهي تقرأ نشرة الأخبار بعد أحداث يناير، لم تكن مجرد دموع حزن على وفاة شقيقها، بل كانت تجسيدًا للحزن الوطني الذي لف عدن وكل اليمن بعد تلك الكارثة. دموع أمل بلجون في تلك اللحظة كانت تمثل كل يمني فقد أحباءه في تلك الأحداث. لقد كانت تلك النشرة، بدموعها، لحظة فارقة في تاريخ الإعلام اليمني، جسدت فيها أمل معاناة وطن بأكمله.
 
منذ ذلك اليوم، ظلت أمل بلجون الصوت النسوي الذي يصدح من الإذاعة والتلفزيون، تحمل رسائل الثقافة والفن والأخبار، حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية لليمنيين. من برامج الأطفال إلى المقابلات الفنية والحوارات الإخبارية، كانت أمل حاضرة في كل مشهد، بقدرتها الفذة على التواصل مع الجمهور وإيصال رسالتها بوضوح وقوة.
 

بين العطاء والنكران

 
بعد كل هذا العطاء، وبعد سنوات من التفاني في خدمة وطنها، تعيش أمل بلجون اليوم في ظروف قاسية ومؤلمة. منذ عام 2015، تعيش أمل في شقة صغيرة مؤجرة في القاهرة، تتقاضى راتبًا تقاعديًا 90 ألف ريال يمني، أي ما يعادل 46 دولارًا أمريكيًا. هذا المبلغ الزهيد لا يكفي لسد احتياجات عائلتها المكونة من سبعة أفراد، ناهيك عن تأمين حياة كريمة تليق بتاريخها وتفانيها.
 
تلك الأرقام الصادمة لا تعبر فقط عن ظلم اقتصادي، بل تعكس نكرانًا واضحًا من الدولة والمجتمع تجاه شخصية بحجم أمل بلجون. كيف يعقل أن تُهمش شخصية إعلامية قدمت أكثر من 45 عامًا من حياتها في خدمة الإعلام اليمني؟ كيف يمكن لمجتمع أن ينكر تضحياتها، ويتركها تعيش على الهامش في ظروف قاسية؟
في الوقت الذي يعيش فيه العديد من المسؤولين في رفاهية، يتقاضون رواتب ضخمة بالدولارات، نجد أن أمل بلجون، التي صنعت تاريخًا في مجال الإعلام، تُترك لتصارع الحياة بمبلغ لا يكاد يسد رمقها. هذا ليس فقط إهانة لشخص أمل، بل إهانة للإعلام اليمني بأكمله، الذي كان جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية.
 

رسالة للقيادة اليمنية

 
أضم صوتي إلى صوت زميلي النبيل فتحي بن لزرق، وأقول:
اليوم، لا نتحدث فقط عن حالة إنسانية صعبة، بل نتحدث عن رمز وطني يحتاج إلى التكريم والاعتراف بدوره الكبير في تشكيل الوعي الثقافي والإعلامي في اليمن. أناشد الرئيس رشاد العليمي والقيادة اليمنية كافة، أن تنظر بعين الرحمة والإنصاف إلى حالة أمل بلجون.
 
هذه الإعلامية لا تطلب أكثر من حقها الوظيفي الذي يمكن أن يوفر لها حياة كريمة، حياة تليق بتاريخها وإسهاماتها الكبيرة. "نحن لا نريد بيانات رثاء طويلة بعد فوات الأوان، بل نريد الآن خطوة حقيقية تُنصف هذه الإنسانة قبل أن يغيبها القدر".
أمل بلجون لا تستحق أن تُنسى أو تُهمل، بل يجب أن تُكرم في حياتها. يجب أن تكون نموذجًا يحتذى به في التكريم والاعتراف بإسهامات الشخصيات التي قدمت الكثير لهذا الوطن. يجب أن نفهم أن التكريم الحقيقي لا يكون بعد الموت، بل في الحياة، حيث يمكن للشخص أن يشعر بالعرفان والتقدير الذي يستحقه.
 

دموع التاريخ لا تُنسى

 
عندما أتذكر دموع أمل بلجون وهي تقرأ نشرة الأخبار في تلك اللحظة الحزينة من تاريخ اليمن، أشعر بأن تلك الدموع كانت تعبيرًا عن وجع وطن بأكمله. واليوم، وهي تعيش في ظروف قاسية بعد كل تلك السنوات من العطاء، لا يمكننا أن نظل صامتين.
 
لقد آن الأوان أن نقف بجانب هذه الإعلامية القديرة، أن نعيد لها بعضًا من حقوقها التي سُلبت منها. أن نعيد لها الاعتبار الذي تستحقه، ليس فقط كإعلامية مخضرمة، بل كإنسانة أعطت الكثير لوطنها، ويجب أن يُكرمها هذا الوطن بما يليق.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً