الحديث عن رؤوفة حسن حديث ذو شجون، ولدي ما أقوله ويملأ صفحات...
أحتار أحيانًا من أين أبدأ، لكنني سأحدد نقطة في وجه السماء الزرقاء وأكتب:
لاحظت أنها جاءت وبيدها ثلاجة شاهي كبيرة وكأس مشجر جميل
تكرر الأمر عصر كل يوم، كان ذلك يحصل في مكتبي وأنا مدير تحرير صحيفة "الثورة" المرة الأولى؛ إذ توليت إدارة التحرير مرتين؛ الأولى عامين والثانية 12 عامًا، قلت:
أيش الحكاية رؤوفة؟
قالت وبلهجة صنعانية أعلم معها أنها "زعلانة":
"بِه في صنعاء مثل يرددنه النسوان: إذا ضاق حالش زغفتيليش قهاو"، كانت قد انضمت إلينا واحترت فيم أكلفها، ضحكت أنا بشدة لأن الرسالة وصلتني: "ضاقت روحي يا بجاش"، كان الأستاذ يحيى العرشي وزير الإعلام والثقافة يومها قد أرسل توجيهًا إلى الأستاذ الزرقة مازلت أحفظ مضمونه وأحتفظ به في بطن كتاب ضاع في غابة كتبي:
"الأخ مدير عام مؤسسة سبأ العامة للصحافة والأنباء، أبارك لكم انضمام أول فتاة إلى صحيفة الثورة، اتخذوا الإجراءات لإكمال انضمامها". كان الجميل يومها أن المؤسسة كانت مهنية حقًا، فكان الصحفي يلتحق بمطبوعاتها مباشرة بدون الخدمة ولا المالية، ومن خلال إعلان في الصحيفة... ثم أعادوها مثل مصلحة الواجبات!
ذات مساء همست في أذني:
"أنا مسافرة وسأترك لك الثلاجة" علقت سريعًا: "لكن لم يضق حالي"، ضَحكت، لأسألها: إلى أين؟ إلى فرنسا، قلت: بالتوفيق، ذهبت..
يا بجاش، يا أحمد ناشر، يا محمود "إبسروا أنا شلعب معاكم، بس "جوّالة"، وأشتي برهان يلعب دفاع، كانت تلعب الكرة معنا في مدرسة سيف وبالشرشف، كان برهان بعدنا بصف هو وعباس المنصور المشاغب اللطيف ونعمان السميري، قال أحمد ناشر رحمهم الله:
ليش إلا برهان دفاع؟
قالت: "إبسر لو ما يكون برهان قدامي ماتوصلش الكرة لاعندي أنا صُغَيِّرة ولو ضربتني الكرة عدموت"! كان أحمد ناشر يموت من الضحك ويعلق: خلاص برهان دفاع، ذات نهار غاب برهان، رفضت أن تكون جوالة، سألنا عن برهان، قال عوض يعيش الذي لحقه: سار يلتحق بكلية الشرطة، خسرنا الجوّالة ليربح عبدالرحمن مطهر الذي كان يأتي ويأخذها إلى الإذاعة لتشارك في برامجه، حتى إن أهلها قالوا لها:
"إحنا بنسمع كل يوم صوت من الإذاعة يشبه صوتش"، قالت: ماشي هو بيشبهني.
كانت صنعاء حنونة يومها، ولم تداخلها الشكوك بعد! لدرجة أن كوكب حمود زيد عيسى كانت تأتي بالدراجة الهوائية إلى المدرسة التي كان جيرانها يصعدوا إلى "الأجبي"* ليشاهدونا نلعب الكرة، كانت سيف تضم يومها عائشة أبوراس ونورا السلامي وكوكب وإيمان العاقل وهدى الضبة... لم نسمع من يحلل أو يحرم وبالمطلق...
قالت ضاحكة:
يا أستاذ محمد شاهر -وهو زميل دراستها في القاهرة- أنت وبجاش غدوة معزومين عندي غداء في البيت، قلنا سمعًا وطاعة...
اتفضلوا اخلعوا الأحذي وادخلوا "الحَر"، نظر إليَّ شاهر، ابتسمت، لم يكن لديَّ لحظتها فكرة حول الحر...
حولت "الحَر"* إلى آية من الجمال، فكفكت الجدران، وفرشت الأرض بالحصير، وحولت غرفة معتمة إلى غرفة مريحة للنوم، وأتت بقناديل بأشكال تراثية جميلة، وحولت الحطب التي عليها الزجاج إلى ماسات جميلة للقهوة والشاي، ووزعت سماعات الموسيقى الصغيرة على الزوايا...
يا الله، قلت ما هذا؟!
من هناك من الطبري كانت تأتي راجلة إلى المدرسة، ويكون شارع عبدالمغني يصفق بحرارة وقتها للبنت التي تتعلم وزملائنا الذين يتدفقون من صنعاء القديمة إلى المدرستين سيف وعبدالناصر...
في مدرسة سيف كانت هناك إدارة متميزة، وكان هناك أحمد سيف القدسي، زعيم المدرسة، وعلي البروي، قائد الكشافة، وأركانه محمد فاخر، وأحمد الإبي وعبدالجليل نعمان ومكي السنيني وعلي نعمان الحكيمي.. ولم تكن لغة مطلع ومنزل قد كشفت عن وجهها، كانت اليمن في المدرسة وأحمد سيف قائدها، وبالقرب منها منزل الوزير أحمد جابر عفيف، وفي المدرسة تميز خالد أحمد جابر ببنطلونه ذي الفتحتين الأماميتين، وجاء به من بيروت!
في الفترة القصيرة التي ظلتها هنا تكونت شلة جميلة، وكنا قد انتقلنا إلى المقر الجديد في الجراف، شلتنا ضمت:
رؤوفة
محمد المكي أحمد
مجدي الدقاق
عبدالملك السندي
بهاء الدين عبدالرحمن
كانت صنعاء يومها لا تحلل ولا تحرم، كانت بريئة جميلة حنونة، كنا بعد أن نخرج من الصحيفة نذهب إلى أقرب مطعم أو إلى قصر الروضة للعشاء، لينضم إلى شلتنا الشاعر الجميل محمد علي الشامي ونبيلة الزبير، طالما قضينا أجمل أيامنا... وبسفرها تفرقت أيدي سبأ...
ذات مساء وقفت أمامي:
ها أنا عدت، نورت صنعاء هكذا قلت
لم تبقَ في صنعاء طويلًا، اتصلت بي، ذهبت إليها:
أنا مسافرة أمريكا
قلت سنفتقدك
قالت تعال معي
بدأت أتحجج بثمن التذاكر
قالت لا تدور أعذار ولا شيء، اقطع تذكرة إلى أقرب بلد أوروبي والباقي عليّ، أسقط في يدي، قلت والوطن، ضحكت:
مشهو عليك
وندمت لاحقًا
عادت
بدأت تكتب اليوميات
افتتحت مؤسستها
نشطت على صعيد توحيد الزي الرسمي
طافت البلاد طولها والعرض
تعرضت لحملة شديدة القسوة حول "الجندر" من الجماعة، تضايقت جدًا حين بدأت المساجد تدخل على الخط، اتصلت بي، ذهبت الصباح التالي إلى مؤسستها في التحرير، حكت لي ما هو حاصل، وطلبت مشورتي، قلت:
كيف هي علاقتك بالشيخ عبدالله؟
على خير ما يرام
اذهبي إليه
تقريبًا نفس اليوم دُعيتْ إلى حفل استقبال في الرئاسة، كنت أتابع نشرة الأخبار في المساء، شفتها في الطابور الذي يسلم على الرئيس، كان الشيخ عبدالله هناك، توقفت أمامه، أطالت الوقوف، فهمت أنا..
صمت الجميع أبواق في الصحف وفي الجامعة وعلى المنابر
ذهبت إلى هولندا، عادت
عادت مؤسستها إلى النشاط
حان موعد انتخابات نقابة الصحفيين (آخر انتخابات)...
شممتُ رائحة البيع والشراء
كان لديَّ محاضرة في السعيد بتعز حول الضفاف الأخرى لشارع علي عبدالمغني، بعد المحاضرة ذهبت إلى القرية
كان لديّ تليفون وآخر تركته في البيت في صنعاء
كتبت تستشيرني في أمر الترشح لنقيب الصحفيين
لم أرَ الرسالة بالطبع
عدت لأجدها غاضبة
حاولت أشرح لها لم تتراجع
اسودت الدنيا في عيني "إلا زعل رؤوفة"..
ذات مساء اتصلت، ذهبت إليها، صعقت عندما رأيت وجهها
اتفقنا على موعد آخر
ضاعت مني
سألت وسألت وسألت بدون جدوى
أرسلت يومياتها
وأرفقتها برسالة مطبوعة إليّ:
الإخوة الزملاء الأعزاء في "الثورة"
الزميل عبدالبرحمن بجاش -هكذا كتبتها- أيقنت أنها النهاية لأن يدها لم ترتعش أبدًا من قبل...
قرأت مادتها في صحيفة "البلاد" السعودية، كانت تغني عن أي خبر
هذا غيض من فيض الرؤوفة
أيام... ذهبت بدون وداع...
أصاب صنعاء اليباس...
""""""""""""""
الأجبي: السقوف.
الحر: الطابق الأول المخصص للحيوانات.