صنعاء 19C امطار خفيفة

رواية السلاحف العرجاء لسمير محمد "قراءة واحدة لا تكفي"

في البداية وقبل كل شيء، أحب أقول إن سمير محمد هذا الكاتب الشاب أو الشاب الكاتب هو بحد ذاته اكتشاف، واكتشاف يشي بالحب والدهشة في آن معًا، فهذه هي المرة الثانية التي أقرأ فيها للروائي سمير محمد، فقد قرأت له روايته "موكا سيتي سيرة ذاتية للبن اليمني".

الكاتب سمير محمد مؤلف الرواية
وهذه القراءة الثانية لي لأعماله التي للأمانة وقعت أسيرها وفُتنت بها أكثر من رواية موكا سيتي، لربما لأنني لست متبحرًا بقراءة فن الرواية بعد، أو لأن "الناس في ما يعشقون مذاهب"، لست أدرى أيهما أصدق وأحق.
 
على أية حال، أنا هنا أحدثكم وأفكر معكم بصوت مسموع عن هذه القطعة الأدبية الفاتنة فائقة الجمال والسحر، رواية "السلاحف العرجاء"، ولست بناقد ولا بأديب ولا أكاديمي متخصص، إنما أنا شخص قرأ الرواية وأحب أن يكتب عنها.
وفعلًا أقول إن "السلاحف العرجاء... قراءة واحدة لا تكفي". فهذه القراءة الثانية لي أثناء كتابة هذه الكلمات كانت سبقتها قراءة أولى، وأعتقد أن هذه القراءة لن تكون الأخيرة.
 
رواية السلاحف العرجاء جاءت في 275 صفحة من القطع المتوسط، والنسخة التي بين يدي هي الطبعة الثانية 2021، صادرة عن دار نشر عناوين BOOKS.
رواية السلاحف العرجاء
تحكي الرواية عن بطلها "مختار" ابن عدن الذي ينتمي إلى فئة المهمشين، ويسكن في كوخ خشبي مع أمه وأخته، سوف أكتفي بهذا التعريف للبطل حتى لا نحرق أحداث الرواية لمن يحب أن يقرأها.
 
مختار متفوق دراسيًا، ويتوق إلى السياسة وممارستها مستقبلًا، ولكن كيف السبيل إلى ذلك وهو من فئة المهمشين، ووالده كان يعمل عامل نظافة قبل أن يختفي في ظروف غامضة؟ "ربما حين يشعر الجميع بأنك أعلى منهم وأقوى يسقطون في أنفسهم أي اعتبارات أخرى تربوا عليها، فالوضيع بمجرد أن يصبح قائدًا فهو أشرف القوم وأعلاهم نسبًا وقيمة".
 
تمضي الرواية تحدثنا عن مختار وكيف يتفوق على أقرانه في الثانوية سواء في الدراسة أو في الأنشطة الطلابية الأخرى، والتي لها علاقة طفيفة بالسياسة.
 
في هذه الأثناء نتعرف نحن على "الرفيق مُثنى الردفاني" الذي سيصبح أستاذ مختار وأباه الروحي في ما بعد، وذلك بعد سلسلة من الأحداث التي نعيشها في الرواية.
ندخل إلى بعض مضامين الرواية:
 

التسمية:

في الحقيقة لم أجد في نص الرواية ما يشير إلى "اسم الرواية" تحديدًا، ولكنني خمنت أن المقصود هي عبارة 1994م "حرك السلاحف"، ليتضح لنا في ما بعد أن السلاحف باتت عرجاء ولم ولن تتحرك.
 

الزمن:

يمتد زمن الرواية من بداية ثمانينيات القرن الفارط تقريبًا إلى 1994، وبالتحديد صيف يوليو من هذا العام. لتصل ذروة الأحداث في 85 و86 مرورًا بـ90 ووصولًا إلى 94.
 

الأماكن:

واسمحوا لي أن أتوقف مليًا عند الأماكن، وأبدي فائق الإعجاب باختيار سمير محمد للأماكن، كيف استطاع جعل البطل يتنقل ويربط بين عدن كمدينة اشتراكية وربطها بموسكو وكييف كمدن اشتراكية، مع وجود البون الشاسع بين اشتراكيتهم واشتراكية عدن وردفان كقرية وريف، وربطها بقرية فينيتسا في أقاصي الريف الأوكراني. ويعرج على ذكر أفغانستان وفلسطين، ثم ينتقل إلى صنعاء فتعز. أتصور أنها براعة وإبداع قل نظيره.
 

الشخصيات:

تعيش مع إبداع سمير محمد وبطل روايته "مختار"، مع مجموعة من الشخصيات كلها مهمة، لن تجد شخصية هامشية أو شخصية تم إقحامها في مجريات الأحداث بدون هدف، أو لتعبئة فراغ مثلًا.
 

الحب:

وللحب قصة أخرى، بل قصص في هذه الرواية، وكم أعجبني أن "مختار" هنا إنسان من لحم ودم ومشاعر وأحاسيس تصورته وأحسست فعلًا بوجوده وبأنه إنسان طبيعي لم يتصنع الحب الأفلاطوني، أو يعش راهبًا متبتلًا يبكي على أطلال حبه العذري الأول، بل في كل مرحلة من حياته وفي كل منعطف يخوضه، هو يخوض غمار حب جديد، ويشعر بشعور لم يألفه من قبل، فحبه الأول أيام الصبا لم يكن حبًا بما تحمله الكلمة من معانٍ، بل إن شئت فقل إنها كانت مغامرة صامتة لشاب خجول في أول تعارف له مع بنت أقرب إلى عمر الطفلة (وكانت هنا سناء).
ثم يخوض تجربة الدراسة والاغتراب والعالم الخارجي الذي يختلف عن عالمه المحلي، هنا لا بد له من حبيبة تصهره في هذا العالم الجديد بكل ما فيه من لغة ومشاعر وطريقة حياة وأسلوب تفكير، بل حتى تجربة سياسية. (فكانت هنا كريستيا). وأعترف هنا أنني حزنت للغاية، وسألت عن مغزى فقدان علاقة الحب الجميلة هذه، ذلك البريق الذي كانت عليه وهي في أوج زهوها، إلا أنني فهمت كل ذلك حين عشت قصة خروج مختار من البلاد، هذه القصة التي قلبت أحداث الرواية 180 درجة.
ومع ذبول زهرة حب كريستيا في قلب مختار، تظهر "عبير"، ولكن عبير هي استثناء، ويا ليتها لم تظهر! وبالمناسبة أود إخباركم أن مختار تزوج، ولكن من هي سعيدة الحظ هذه؟ سوف تكتشفونها عند قراءة الرواية.
 

الحوار:

كل حوار ورد في ثنايا هذه الرواية، هو نوع من السحر، هو حوار مفرط في الواقعية والحقيقة والأهمية. من بداية حديث مختار مع أمه وهو يسألها عن لهجة الرئيس الذي زارهم في اجتماع الطلائع.
"- أمي، أمي
التفت إليه صامتة، فاستطرد:
طريقة كلامه مختلفة عن كلامنا، لماذا؟
......
نعم، هو من منطقة أخرى بعيدة عن عدن، وطننا به عدة مناطق ومحافظات، وكل منها تحمل لهجة مختلفة".
إلى أن نصل إلى إجابته على سؤال زميله في مقر الوزارة حينما سأله:
"ـ من هو الذي انتصر نحن أم أنتم؟".
ومرورًا بكل حوار في الرواية، سواء كانت حوارات مختار الداخلية بينه وبين نفسه، أو حواراته مع كل الشخصيات في الرواية.
الحوارات التي تمت في مقر الحزب الاشتراكي اليمني في تعز، كانت مهمة للغاية، ومنها كلمات الرفيق مكرد لمختار:
"مرحبًا بك في تعز، وللإجابة على سؤالك يجب علينا أولًا فهم طبيعة الناس هنا، فهم بطبعهم اشتراكيون، ولكن دون اشتراكية، على العكس من عدن، وحديثي هنا عن عدن المدينة، فهم قد عاشروا الاشتراكية، ولكنهم ليسوا اشتراكيين".
بدأ شخص آخر يسأل الأستاذ مكرد عن مدى ما يمكن الوصول إليه، وإلى أين يمكن أن تصل الوحدة؟
أجاب بهدوء كما هي عادته:
"لا أستطيع أن أخبرك بالدقة أين ستقف المحطة الأخيرة أو حتى استمرار الطريق، لكني سأخبرك بأن الأمر يعتمد على مقدار التنازلات التي يقدمها الحزب، أما الطرف الآخر فهو يريد التهام كل شيء، ولا جدوى من هذه المسرحية التي يسمونها كذبًا بالديمقراطية، ولو كانت حقيقية لما كنت في تعز بشكل متكرر وقد تلقيت تهديدات وتلميحات عديدة من صنعاء، وقد لاحظتم عمليات الاغتيال الممنهجة في صنعاء ضد كوادر الحزب ومقراته، وفي مناطق أخرى كذلك".
النقلات ونقاط التحول والإشارات:
حوت الرواية العديد من النقلات ونقاط التحول التي تشدك كقارئ، وتضعك أمام ألف سؤال وسؤال. وفي الحقيقة لا أتذكر كم عدد المرات التي كتبت في رأس الصفحات (مهم)، أعتقد أن 99% من صفحات الرواية هي مهمة، ولولا أن المقام هنا لا يتسع لكنت سردت لكم كمًا مهولًا من الاقتباسات التي خضبت بها صفحات الرواية، وأنا أضع أقواسًا، وأكتب في أعلى الصفحات كلمة مهم.
هناك إشارات يجب أن يلتقطها القارئ منها:
من الإشارات المهمة التي ترد على لسان مختار "موسكو ليست ميناءً بحريًا، لكن لا يمكن المقارنة بينهما (يقصد بين موسكو وعدن)، فموسكو مدينة ساحرة وعملاقة، وعدن أشبه بالقرية الصغيرة، كما أن كل القصور والمنازل القديمة في موسكو مازالت على حالها وتحولت لمتاحف مليئة بالآثار والمقتنيات العتيقة، على العكس من عدن التي أصبحت معظم المباني القديمة وقصور السلاطين فيها منازل للرفاق أو مقرات حكومية، فالاشتراكية طورت من موسكو، بينما لم تستطع أن تضيف لعدن أي شيء، فكانت هذه المقارنة هي الأولى، وكانت صادمة إلى حد كبير".
ومن أهم النقلات والحبكات التي تضمنتها الرواية هي: كيف تحول مختار من مختار ابن الفئة المهمشة في إحدى مناطق عدن، إلى الأخ مختار الردفاني؟ لماذا أصر الرفيق مثنى أن تكون خدمة مختار في ردفان؟ وهل كانت هذه تهيئة لشيء ما في المستقبل؟ كيف تحول مثنى من الرفيق مثنى إلى الأخ مثنى؟
ما علاقة "الهادي" بالفندم؟ وهل "الهادي" يمثل الطغمة؟
ما أستطيع قوله وأنا في نهاية هذه الأسطر التي حاولت من خلالها إبداء إعجابي، وتشجيع الكل على اقتناء وقراءة هذه التحفة الأدبية النادرة، أنه فعلًا قراءة واحدة لا تكفي وكتابة واحدة عنها لا تكفي أيضًا، فأنا كنت مقيدًا هنا بقيد عدم حرق الأحداث أو تحليلها كلها، وهذا في الحقيقة كان أكبر عائق أمامي لمواصلة الكتابة عن الرواية.
لكن في المقابل عزائي الوحيد هنا أنني حاولت قدر المستطاع الكتابة عن الرواية، والقول إن ٫رواية السلاحف العرجاء لسمير محمد... قراءة واحدة لا تكفي"، وكتابة واحدة عنها لا تكفي أيضًا.
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً