(١)
صبر الحارس:
في أعلى "صبر"، حيث تطل ظفائر بائعات القات على المدينة، هناك حيث تشعر أن الجبل يتنفس من قلبها. صبر ليس مجرد حارس، بل ذاكرة تمتد لأجيال. كل شجرة فيه تحمل في جذورها قصة، وكل زهرة تتفتح تعيد نسج حكاية قديمة. صبر هو المرآة التي تعكس المدينة، وكأنه يراقبها بصمت، يشهد نضالاتها وصمودها أمام كل ما جاء بها.
(٢)
مآذن المظفر:
في "المظفر"، ترتفع المآذن كأعمدة وسط الحدائق، تلمع في شمس الصباح وكأنها تربط بين السماء والأرض. هنا ليس المكان محض جدران ومسجد، بل هو قلب ينبض بالروحانيات والعراقة. كل مئذنة تقف شامخة، تحكي قصة أخرى عن المدينة، عن حمايتها للعلم والمعرفة، عن صمودها أمام كل من حاول إخماد نورها.
(٣)
شوارع صالة:
تجمع"صالة" الحداثة بالأصالة. تتداخل الأزمنة في شوارعها، ويبدو وكأن كل زاوية تحتفظ بسرٍ قديم. هناك حيث يلتقي الماضي بالحاضر، تتفتح الحكايات كزهور برية على جانبي الطريق. المارة يتركون بصماتهم في الهواء، يمرون بخفة بين الأزقة التي تحمل آثار خطوات الأجيال التي سبقتهم. في كل شارع تجد طيفاً من الذكريات يتداخل مع الحاضر ليشكل لوحة معقدة من الزمن.
(٤)
بير باشا ووادي القاضي:
في "بير باشا"، روح المدينة ينبض بإيقاع لا يهدأ. هنا يتداخل صخب الحياة مع بساطتها، كأنها لوحة ملونة بألوان الحياة المختلفة. أما في "وادي القاضي"، فالزمن يبدو أنه توقف ليحفظ قصص الأزل. هنا تجري الحياة بهدوء تحت مراقبة "جبل جرة" الذي تقف هناك منذ الأزل، حاملا معهوحكايا لا تُنسى. الوادي يحتفظ بأسراره بين طياته، ولا يبوح بها إلا لمن يعرف كيف يصغي.
(٥)
القاهرة وذكرى الرسوليين:
في "القاهرة"، تتجلى ذكرى الرسوليين. القلعة ليست مجرد حصن، بل رمز لعزة ممتدة عبر الأجيال. هنا حيث تقف الأسوار والجدران كشاهد على الماضي، تستمد المدينة قوتها من تلك الذكريات المتجذرة في كل حجر. كل زاوية تحمل في طياتها قصة عن الزمن الغابر، وتبث في الهواء روحاً من الكبرياء والصمود.
(٦)
خدير وشمير:
في "شمير"، يتنفس الجبن برائحة من الماضي، يتذوق الناس هناك الحياة بكل تفاصيلها البسيطة والمعقدة. في "خدير"، بيادر الذرة الخصيبة تشهد على خصوبة الأرض وكرمها. كل سنبلة تحكي قصة عن حياة تعيشها الأرض وتنقلها للأجيال القادمة. الأرض هنا تحمل في طياتها أسرار الخصوبة والحياة، تزرع في الناس روح الانتماء والقوة.
(٧)
الجحملية وكرامات ابن علوان:
في "الجحملية"، حيث يتردد في الهواء ما تحكيه النساء عن صاحب يفرس وكرامات "ابن علوان"، تبدو القصص كأنها خيال ينبثق من بين طيات الزمن. هنا تختلط الحقائق بالأساطير، وتتحول الحكايات إلى دروب من الخيال تتنقل بين الأجيال. "ابن علوان" ليس مجرد ذكرى، بل هو جزء من هوية تعز وروحها، يعيش في قصص الناس كما تعيش في صمت مهيب قصص الجبال التي تحيط بالمدينة.
(٨)
الحوبان والمخلاف:
في "الحوبان"، تلتقي الأزمنة في نقطة واحدة، حيث تختلط الحياة الحديثة بتلك التي مضت. هناك في "المخلاف"، يبدو أن كل حجر يحمل أثراً من الماضي، يحفظ قصص الرجال الذين مروا من هنا. الأزمنة تتداخل، والجدران تحكي بصوت عال قصصاً عن الصمود والكبرياء. المخلاف ليس مجرد مكان، بل هو رحلة عبر الزمن تحمل معها تاريخ المدينة وحاضرها.
(٩)
المقاطرة وحيفان:
في "المقاطرة"، الكرامة تتجلى في كل وجه، في كل حركة، في كل كلمة. هنا لا تميز بين صعلوك وأمير، فالكل يعيش تحت راية الكرامة. في "حيفان"، الجبال تزهو بخضرتها، تحتضنها السماء وكأنها تحميها من كل سوء. هنا تتجلى الطبيعة في أجمل صورها، تحمل معها روح المكان ورائحته.
(١٠)
عدينة ونبوءة الفجر:
في "عدينة"، تتحول الكلمات إلى وعدٍ بالفجر. هنا تنبثق النبوءات من قلب الليل، تحمل معها بشائر الصباح. المكان يتنفس الأمل، والنساء هنا يحملن في عيونهن نبض الحياة.
(١١)
مؤسسة السعيد:
مؤسسة"السعيد" ليست مجرد مكان، بل هي وعدٌ بالفرح القادم، بالأمان الذي يلوح في الأفق. تحمل في قلبها وعداً بالفجر الجديد، بالسعادة التي ستعود يوماً ما.
....................
هائل سعيد أنعم:
*
أملٌ في كل قرية:
في جبال تعز، وبين مدرجاتها، كان هائل سعيد يزرع الأمل كما يزرع الفلاح البذور في تربة خصبة. من عزلة إلى عزلة، ومن قرية إلى قرية، وصل خيره ليصل إلى كل بيت، كل عائلة، كل قلب. لم يكن فقط تاجراً، بل كان نبضاً ينبض بالحب والعطاء.
في كل محافظة، كان هناك أثر ليده المباركة، وفي كل مديرية، كان هناك صدى لخطواته الحانية. لم يترك زاوية في اليمن إلا ومر عليها خيره، لم يترك قلباً إلا وملأه بالرجاء.
لم تكن فقط شركاته التي نبتت من حلمه البسيط، بل كانت شجرة عملاقة أغصانها تصل إلى السماء، وتغطي بظلها كل اليمن.
*
ضوءٌ في الظلام:
عندما كان الظلام يغطي البلاد، كان هائل سعيد أنعم نوراً يشع في الأفق. لم يكن مجرد رجل أعمال، بل كان ضوءاً يهتدي به الناس. كانت أفعاله تلهم، وكلماته تشفي.
في زمنٍ كانت فيه الحكومات تعجز عن الوصول إلى القرى النائية، كان هائل سعيد يصل بخيره، يحمل في يده أملاً، وفي قلبه حباً للناس. لم يكن بحاجة إلى أضواءٍ تُسلط عليه، كان يكفيه أن يرى البسمة على وجوه الناس، أن يشعر بأن جهوده لم تذهب سدى.
رغم أن المال تدفق في حياته كما يتدفق النهر في الوادي، ظل هائل سعيد أنعم بسيطا، قريبا من الناس، لا يبعد عنهم بثرائه ولا يتعالى. كان يعرف أن العظمة لا تقاس بما يمتلكه الإنسان، بل بما يعطيه.
في كل لقاء، كان حاضراً بروحه، مبتسماً بقلبه، ينصت للناس كما ينصت الأب لأبنائه. كان يعلم أن الحب هو أساس كل شيء، وأن العطاء هو ما يجعل الحياة ذات معنى.
في تواضعه، كان يعلّم الناس درساً لا يُنسى: أن العظمة الحقيقية تكمن في البساطة، وأن الثراء الحقيقي هو في القلوب، لا في الجيوب.
مرت السنوات، وتعاقبت الأجيال، لكن إرث هائل سعيد أنعم بقي خالداً، يعيش في كل زاوية من اليمن. لم تكن مجرد شركاته هي ما تركه وراءه، بل كان إرثاً من القيم، من العطاء، من الحب للوطن والناس.
في كل قريةٍ، في كل مديرية، في كل محافظة، ستظل قصة هائل سعيد تروى، قصة ذلك الرجل الذي بدأ بفحمٍ في يده وحلمٍ في قلبه، وانتهى بترك أثرٍ لا يمحى في تاريخ اليمن.
هو الرجل الذي أضاء لليمنيين طريقاً من الأمل، هو الذي علمهم أن الإرادة والإيمان قادمين من جبال الأعروق قادران على تغيير العالم.
..... .....
سالم الشبزي:
حكاية حب تتجاوز الحدود
في أعماق تعز، حيث تتنفس الجبال وتتكلم الأزقة، كان يعيش سالم الشبزي في قلوب الناس. كان يهوديا، لكنه تجاوز حدود الدين ليصبح رمزا للحب والتسامح. المسلمون في تعز لم يروا فيه يهوديا فقط، بل رأوا فيه إنسانا يتجاوز الفوارق، عاشقا للمدينة وأهلها.
في كل زاوية من المدينة، ستجد من يتحدث عن سالم الشبزي بكل حب، كأنه كان جزءا من عائلاتهم. لم يكن يفرق بين الناس، كان يرى الجميع بعيون المحبة والاحترام. إنه تلك الروح التي وحدت القلوب، وجعلت من تعز مدينة تتنفس التسامح.
كان الناس يزورون قبره، ليس فقط ليترحموا عليه، بل ليأخذوا من روحه القليل من ذلك النور الذي لم ينطفئ. هو الذي عاش بسيطا، وغادر عظيما، تاركا وراءه أثرا لا يُمحى. في تعز، يظل سالم الشبزي علامة من علامات الحب والتعايش، رمزا للتسامح الذي يجمع ولا يفرق، ويبني جسورا بين الناس على اختلافهم.
*
...............
هاشم علي:
هاشم علي: وردة في الصخر
كان هاشم علي رساما، لكن لوحاته لم تكن مجرد ألوان على قماش. كانت صرخة جمال في وجه القبح، وردة في الصخر، مزروعة بأصابع فنان يعرف كيف يخرج النور من بين الظلال.
في تعز، كانت أنامله تتحرك بخفة على اللوحات، ترسم المدينة بكل تناقضاتها، بألوانها الحزينة والفرحة، بأحلامها وواقعها. كان يرى في كل زاوية جمالا خفيا، يعرف كيف يلتقطه ويعكسه على لوحاته، كأنها نافذة تطل على روح المدينة.
هاشم علي لم يكن يرسم فقط، بل كان يحكي حكايات تعز، يُظهر عذوبتها وسط قسوة الحياة، يجعل من كل لوحة رسالة أمل. لم يكن يستسلم لليأس، بل كان يزرع الأمل في قلوب الناس عبر فنه.
كانت لوحاته كأزهار نبتت في الصخور، تتحدى القسوة وتصر على الحياة. كانت تعز في عينيه أجمل مما يراها الآخرون، وكان يعيد صياغتها بالألوان، ليجعل الناس يرونها كما يراها هو: مدينةً لا تنكسر، جميلة رغم كل شيء.
في كل لوحة، كانت هناك قصة، وفي كل قصة، كان هناك أمل. هاشم علي لم يكن مجرد رسام، كان فنانا يرسم الحياة، يجعل من كل ضربة فرشاة رسالة حبٍ وتعزية، ووردةً تزهر في وجه الصخر.
****
كيف نسينا قدسَنا العتيقة،
حيث الأسطورة تقول إنها أرضُ الميعاد،
بين تلالها ترتفع الأحلام،
وادي المسيرب يروي حكاياتٍ منسية،
قرية ذالْبرَاع ترتجف في صمتِ الليل،
قَدَسْ، أرضُ الميعاد الحقيقية،
لكن من يتذكرها؟ من يحفظها في قلبهِ؟
كيف نسينا وادي المسيرب،
حيث ينحدر الماء كدموعِ السنين،
كل شجرةٍ هناك تحمل ذكرى،
كل حجرٍ يشهد على جلالِ المكان،
لكننا نسينا، تركناها تغرق في ضبابِ الزمان.
كيف نسينا الصلو وقلعة الدملؤة الأعجوبة،
حصنٌ ليهوذا، يقف على رأسِ الجبل،
يحرسُ التاريخ، يحفظُ الأسطورة،
لكننا تركناها،
نسيناها،
كما نسيَ الزمانُ أبطالَهُ.
كيف نسينا "المعافر" صوت الأندلس"
المعافريون، أبناء تعز الجليلة،
حملوا الإسلامَ على أكتافِهم،
وصلوا به إلى قلبِ أوروبا،
إلى إسبانيا وفرنسا،
هناك، حيث ترددوا أصداء الأذان في سماء الأندلس،
حيث تراقصت الكلمات العربية على ألسنةِ العاشقين.
أولئك الذين نقشوا اسم تعز في قلبِ التاريخ،
في الأندلس، حيث امتزجت الثقافات،
وحيث لمعت اللغة العربية كنجمةٍ في سماءِ أوروبا،
لكننا نسينا، تركنا تلك الحكايات تغرق في بحر النسيان.