في عام 2015 قادت السعودية تحالفًا عسكريًا باسم "عاصفة الحزم"، بهدف إنهاء تمرد الحوثيين في اليمن، ودعم شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي. وبعد أقل من عقد من الزمان، اضطرت الرياض للانحناء أمام العاصفة القادمة من حدها الجنوبي، وبدأت فعليًا إعادة النظر بعلاقاتها مع حلفائها في الحكومة المعترف بها وفقًا لأولوياتها الجديدة.
الخروج من دوامة الحرب في اليمن، يأتي على رأس الأولويات السعودية الراهنة، لاعتبارات عدة، من بينها تنامي القدرات العسكرية للحوثيين المدعومين من إيران، وتجنب الانخراط كطرف في حرب إقليمية قد تتوسع في حال التصعيد الإسرائيلي في غزة ولبنان، فضلًا عن رغبة ولي العهد السعودي التفرغ لرؤية المملكة، 2030، خلال السنوات الخمس المتبقية من عمرها.
بدأت السعودية التفكير جديًا في الخروج التدريجي من الحرب اليمنية، نهاية العام 2019، وتحديدًا بعد تعرض منشآتها النفطية التابعة لشركة أرامكو، لقصف تبنته جماعة الحوثي، وأدى إلى تعليق إنتاج نصف النفط السعودي.
مطلع أبريل 2020، أعلنت السعودية وقف إطلاق النار من جانب واحد، لمدة ستة أسابيع، واستمرت في السعي، للبحث عن مخارج آمنة من الحرب اليمنية. في مارس 2021 أعلن وزير خارجيتها مبادرة للحل الشامل تتضمن وقفًا لإطلاق النار وفتح مطار صنعاء وميناء الحديدة، بالإضافة إلى بدء مشاورات سياسية لإيجاد حل للأزمة.
وفي مارس 2022 أعلنت السعودية وقف العمليات العسكرية في اليمن من جانب واحد، أعقبها إعلان المبعوث الأممي إلى اليمن، هانس غروندبرغ، استجابة أطراف النزاع في اليمن، لهدنة لمدة شهرين قابلة للتجديد، وهي الهدنة المستمرة حتى اليوم، وإن بدت هشة من وقت لآخر.
ثمن الخروج من الحرب
لم تكن إدارة بايدن حليفًا جيدًا للرياض في حربها على الحوثيين، وهو ما كشفه الموقف الأمريكي المتخاذل بعد الهجمات التي تعرضت لها أرامكو في المنطقة الشرقية، فضلًا عن قرار بايدن برفع الحوثيين من قائمة الإرهاب وإلغاء القرار الذي أصدره ترامب قبل مغادرته البيت الأبيض.
تلك الإشارات الأمريكية السلبية دفعت الرياض للاستعانة بالحليف الصيني الذي اسهم في خفض التوتر، وأنتج مصالحة تاريخية بين السعودية وإيران، في مارس 2023م.
استثمر الحوثيون الرغبة السعودية للخروج من الحرب، ونجحوا في تحقيق مكاسب كبيرة من خلال فرض الإملاءات والشروط التي تزامنت مع التهديد بمهاجمة مصالح حيوية سعودية.
وعلى حساب الحكومة المعترف بها، والتي بدت مؤخرًا الطرف الأضعف في المفاوضات، استجابت السعودية للكثير من مطالب الحوثيين، آخرها الاتفاق المعلن نهاية الأسبوع الفائت، بخفض التصعيد الاقتصادي، والذي تضمن إلغاء قرارات الحكومة الشرعية الخاصة بإصلاح القطاع المصرفي، فضلًا عن استئناف رحلات الخطوط الجوية بين صنعاء وعمان، وزيادة عدد الرحلات اليومية، وتسيير رحلات من صنعاء إلى وجهات جديدة.
تضمن الاتفاق أيضًا عدم اتخاذ الحكومة المعترف بها قرارات اقتصادية مماثلة مستقبلًا، الأمر الذي عُد ضربة موجعة للحكومة التي تعرضت لضغوط كبيرة من الحليف السعودي الذي لوح بوقف الدعم المالي واللوجستي عنها، ما لم تتراجع عن قراراتها.
كما تضمن الاتفاق موافقة الطرفين على البدء بعقد اجتماعات لمناقشة كافة القضايا الاقتصادية والإنسانية بناء على خارطة الطريق، وفقًا لما أعلنه، الثلاثاء، المبعوث الأممي إلى اليمن.
لم يحدد المبعوث الأممي مكان وزمان عقد اللقاءات المعلن عنها، وكذلك الحال بالنسبة لخارطة الطريق اليمنية، التي لاتزال مبهمة البنود، إلا من تسريبات تكشف عن مزيد من التمكين للحوثيين على حساب الحكومة المعترف بها.
وفي الغرف المغلقة، تدور مفاوضات غير معلنة، بين السعودية والحوثيين، على حدة، للتفاهم حول عدد من القضايا المزمع مناقشتها على طاولة مفاوضات تضم لاحقًا الحكومة الشرعية.
استجابة السعودية لمطالب الحوثيين المتعلقة بخفض التصعيد الاقتصادي، دفعتهم للتوسع في المطالب، انطلاقًا مما اعتبروه خوفًا سعوديًا. وبحسب مصادر "النداء" طالب الحوثيون في المشاورات التمهيدية، الحصول على حصة من عائدات تصدير النفط، مقابل موافقتهم على استئناف عمليات التصدير التي توقفت العام 2022، بسبب هجمات الحوثيين على موانئ التصدير. واقترحوا أن يتم تحديد نسبتهم من هذه العائدات، وفقًا للكثافة السكانية في مناطق سيطرتهم، بدلًا من الاعتماد على نسبة المساحة الجغرافية التي يسيطرون عليها، والذي اقترحه الجانب السعودي.
وضمن البنود الإنسانية، يطالب الحوثيون بفتح مطار صنعاء وبقية المطارات والموانئ دون قيود، مع تشغيل رحلاتهم الجوية دون العودة إلى إدارة شركة اليمنية في عدن، ويبدو الهدف من وراء هذا المطلب الحصول على حصتهم من الناقل الوطني، وإدارته بشكل مستقل.
وفي ما يتعلق بمرتبات موظفي الدولة، يطالب الحوثيون بعدم تحميلهم أي أعباء، على أن تتولى الحكومة الشرعية والسعودية مسؤولية صرف المرتبات، مبررين ذلك بتحصيل الحكومة في عدن كامل إيرادات النفط خلال سنوات ما بعد الحرب. وتعقيدًا للحل تشترط جماعة الحوثي مقابل موافقتها على دفع مرتبات الموظفين في مناطق سيطرتها، الحصول على حصتها من عائدات تصدير النفط خلال سنوات ما بعد الحرب، وبأثر رجعي.
وفي محاولة لحل هذه المعضلة، أبدت الرياض موافقة مبدئية على تحمل فاتورة المرتبات لمدة عام كامل، على أن يتم استئناف تصدير النفط وتقاسمه بين صنعاء وعدن، وفقًا لحصص يتم التوافق عليها، شريطة أن يتم خلال هذا العام وضع تدابير لتوحيد البنك المركزي اليمني والعملة، وتحديد حساب موحد لتوريد نسبة من عائدات صادرات النفط، وتخصيصها لصرف مرتبات الموظفين في كافة أنحاء اليمن.
خارطة الطريق التي سترعاها الأمم المتحدة، تتضمن أيضًا محور إعادة الإعمار، وأبدت السعودية موافقتها على التمويل من خلال مركز سلمان للإغاثة وإعادة الإعمار، لكن جماعة الحوثي اشترطت تسليمها 70 بالمائة من المبلغ الذي سيتم تحديده لاحقًا للإعمار، بالإضافة إلى مبالغ التعويضات وجبر الضرر. وتبدي الرياض مخاوف من استغلال الحوثيين لكل هذه الأموال لتعزيز ترسانتهم العسكرية.
ومن بين بنود خارطة الطريق المرتقبة، الإفراج عن جميع الأسرى من الطرفين، وانسحاب القوات الأجنبية من اليمن، في غضون ثلاث سنوات يتم خلالها التوافق على شكل الدولة اليمنية، واختيار قيادة موحدة تمثل مختلف أطراف الصراع، لإدارة مرحلة انتقالية، وصولًا لإنهاء ملف الحرب وإعلان السلام.
وبالنظر إلى تعقيدات الوضع في اليمن، يستبعد مراقبون التوافق على تنفيذ الملفات الشائكة التي تتضمنها خارطة الطريق، لكن الرعاية السعودية للمفاوضات المرتقبة، قد تفضي إلى حلول جزئية لعدد من الملفات، مثل توسيع الرحلات الجوية من مطار صنعاء، وإنهاء القيود على الموانئ، واستئناف صادرات النفط، والتوافق على حلول مؤقتة لدفع مرتبات الموظفين، وغيرها من المعالجات التي تؤدي إلى استدامة الهدنة ووقف التصعيد.
من المرجح ترحيل قضايا الحل الشامل، إلى جولات جديدة، وربما تكون بعيدة، لكن ما يهم السعودية راهنًا هو استمرار تعليق الحرب، إن لم يتم توقيفها.
وعدا الأسباب المشار إليها آنفًا عن رغبة السعودية في عدم التصعيد، يمكن اعتبار انصياع الرياض لجماعة الحوثي، بمثابة تخدير مؤقت، إلى حين توقيع معاهدة دفاع ثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية، تمنح السعودية ضمانات رسمية للدفاع عنها، وتمكينها من الحصول على أسلحة أمريكية متطورة.
وهي الاتفاقية التي اقتربت الرياض من التوقيع عليها بعد أن أنهى الجانبان كافة الترتيبات الخاصة بها خلال الشهور الماضية، ومن المتوقع إبرامها عقب الانتخابات الأمريكية المزمع إجراؤها في نوفمبر المقبل.
حينها، ستكون جميع الخيارات مائلة نحو الرياض، إما بالانصياع الحوثي للسلام، أو دخول معركة كسر العظم، ارتكازًا على معاهدة الدفاع الثنائي مع الأمريكان الذين قد يرونها فرصة مواتية للقضاء على الحوثيين، وإنهاء تهديداتهم للملاحة الدولية في البحر الأحمر.