المقرمة: الأكثر حميمية إلى قلبي من ملابس النساء، ما إن تطأ قدمي أي سوق شعبي، أتوجه فورًا إلى رفوف المقارم، أشتري تشكيلة من المقارم، ومن الصنف الواحد أشتري كل الألوان، وعندما تنفد نقودي أرهن أي شيء بحوزتي -كوني زبونة دائمة في بعض المحلات- عربونًا لبقية المقارم. وإن لم أستطع الشراء، أستأذن من صاحب المحل أو البسطة، لالتقاط صورهن، نعم تترصد كاميرتي كل ما له علاقة بتلك النقوش وأشكالها وخطوطها وألوانها، وخصوصًا عندما تُعلم المقرمة، بالصانفة.
وكم هي مبهجة تنويعات المقارم، فمنها المعذبلة والمتللة والمزركشة بالترتر والخرز الملون والمشجرة بغابات من الورود... الخ. زخرفت معظمها في "متحف الموروث الشعبي -تراث التنوع والاختلاف"، عند تأسيسه في أبريل 2004.
أما الكم الهائل منها فكانت مرصوصة في خانة الدولاب لأرتديها يوميًا، تلك الخانة الملونة، كانت حياتي وبهجتي، مثلما هي حياة وبهجة نساء اليمن، إنهن يتقنَّ بفنية عالية ربطها على الرأس والرقبة والصدر، وبعضهن، خصوصًا نساء تعز وتهامة، تكون نوعية العصبة إلى الخلف، فتظهر الرقبة مزينة بالمصوغات الذهبية والفضية، كـ"اللازم" بفصوص الياقوت، والعقد "طنج الذهب"، وعقود الخرز والمرجان، والأقراط "الوزغ" بجنيهات الذهب أو الدوائر أبو درج المزخرفة حولها، ولا أنسى زخرفة الخضاب والوشم مزينة رقاب النساء مثل وجوههن وأيديهن وأماكن مختلفة من أجسادهن، كما رأيتهن عند زياراتي لبعض المناطق اليمنية، الريف بخاصة.
بعض النساء يحجبن رقابهن بالمقارم، لكنك ترى العذابل، كوة تنفذ منها لمعة فص ياقوت ومرجانة، ونقشة مذهبة، خصوصًا في النهارات المشمسة.
كانت وجوه النساء وأجسادهن تزدان بنقوش الجمال والحياة في الريف والمدينة، قبل دخول "الأطهار" من أعداء النساء والجمال والحياة.
(2)
في ذاكرتي الحكائية والمرئية، كل مقرمة تنسل منها وعليها تقاسيم الموسيقى: خيوطها وألوانها وزركشاتها، مئات الحكايات والأغاني، كن زادي في حلّي وترحالي، حتى الكتمة الدينية ولجة الحروب لم تثنني، ومعي الكثير من نساء اليمن، خصوصًا نساء صبر وبعض الأرياف، لم تنشطب من حياتنا المقرمة بحجة الحرام ووجوب ستر العورة -الوجه بالشرشف والنقاب، نعم، لم يستطع الطهرانيون من الإخوان المسلمين -الإصلاح والسلفيين، وقبائلهم، أن يخمدوا المقرمة، في بعض مناطق اليمن، كـ"صبر"، لكنهم نجحوا وبقوة في تحجيب وشطب الملايين من النساء في كل اليمن، خصوصًا عدن والأرياف. أما الفاشية الحوثية فقد سحقت وباستحقاق إلهي ليس فقط المقارم، بل شرشفت حتى العيون، وشطبتها بـ"هويتها الإيمانية" من جسد النساء، وحولتهن إلى جعب سوداء متنقلة، والزينبيات منهن متفجرات.
(3)
إبان الحرب وحبستي في البيت لأكثر من سنتين وثلاثة أشهر، من بداية 2015 إلى 23 مارس 2017، أصبت بالعطب مثلما مقارمي، العثة الإيمانية نخرتها، ونخرت صاحبتها أيضًا. نعم، فلم أعد أخرج مع مقارمي الملونة التي كنت ألبسها حتى لو ذهبت إلى البقالة القريبة. ظلت متكدسة في خانة الدولاب، والحقيبة التي تعلوه، وحقيبة أخرى "تحت السرير".
كنت، كلما ضاق حالي، أقوم بإخراجها ونفشها على السرير، أتأملها كطفلتي الصغيرة، أحاول أن أستعيدها بلبسها في البيت، لكنها المقارم، تحتاج إلى فضاء وشمس وريح ومطر وناس وسماء وهواء، وهرد وعطر وكحل، ولا بأس قلم حمرة. أجر نهدات ودمعًا، وأعيد ما تبقى منها إلى مخابئها، نعم المقارم تموت إن لم تتنفس.
(4)
عندما غادرت البلاد، كان قلبي معلقًا بخانة المقارم والفضة، وجعلني الافتقاد الكبير والجريح أنشده إلى المقارم في الأسواق القديمة بتونس، أو عند زيارتي إلى مصر، واليوم في سوق السبت بدار مشتات -ألمانيا، في كل زيارة أفتش عن أية قماشة فيها تشكيلات مقرمتي من لون، زهرة، خط، صانفة، تل، عذابل، حبكة، لكن لا تصل إلى مصاف مقارمي في اليمن، وخانتها البهيجة.
اليوم، في حضرة الغياب، كما يقول محمود درويش، وأنا أفتش، تجدني أصاب بمس، أو "زيران" حد "اللخاج"، وأنا أحاكي أي خيط في قماش، وتتفتح الذاكرة بكرنفال من الصور، هذه الخيوط في هذا القماش تشبه خيوط المقرمة التي كانت على رأس بائعة الزيتون في باب الكبير، وتلك المنقطة تشبه مقرمة أبو كأس بحبيباتها الحمراء والسوداء لمقرمة جدتي بهية، وعمتي حُسن، وجارتنا أم مصطفى، وتلك الصانفة كأنها مقرمة مسك الحاج، ومقارم عمتي حمامة زينة شارعنا بحوض الأشرف بتعز، ياااالله، أما النقشة والمسيّمة بالوردي، فهي مقرمة الجارجييت، وتشبه صورة مقرمة أمي وقريبتنا التي كانت تأتي لزيارتنا من عدن ما قبل سنوات الوحدة وبعدها.
في بلاد الغربة، ومع التحديق وسيل الذاكرة وتتبع أشكال وألوان الأقمشة، أظل أتأمل، وأحدث نفسي، ماذا لو كانت هذه النقشة تتوسط المقرمة، وماذا لو كان الخط على واجهة المقرمة، ولو كان اللون كذا بايكون كذا، تفاصيل جمة تشغلني، وتأخذني قربًا وبعدًا، وتطرحني سماءً وأرضًا، تأخذني كالطير وخفة الريشة التي تحتمل -ولا تحتمل أيضًا- ليقطع السباحة الذكرواتية، صاحب المحل بأدب: هيا، هل ستشترين "الفولاره" بالتونسي، أو بالمصري "الإيشارب"، وبالألماني Der Schal، وسرعان ما أستعيد صور الباعة في اليمن، خصوصًا في باب اليمن، وباب الكبير بتعز: هيا "بطلي لخاج" باتشتري؟ خلينا نقصد الله، مر وقت طويل وأنت تفتشين في المقارم، تعبنا، اقطبي.
(5)
في اليمن، كانت طقوسي بلبس المقرمة في كل صباح، فقبل خروجي للعمل، أظل أحدق في خانة المقارم، بما يناسب الثوب أو البنطلون والمشقر، ألبس هذه المقرمة، أم تلك، كل تحولات وجهي ونفسيتي ولبسي تناسبه مقرمة من ترتر ولون وحبكة، وهكذا كان يتم النبش يوميًا، أما بناتي فينزعجن من تعطيف المقارم، وإرجاعها إلى الخانة.
اليوم، كنت أتمنى هذا النبش اللذيذ هنا!
هنا، واليوم، لا مقرمة، سوى الصور الفوتوغرافية، والفوتوغراف الذهني المتخيل، عن مقرمتي، ومقارم نساء اليمن، تلك الوجوه والأجساد والملبس، أظل أغرق في تفاصيل المشهد اليومي، أكان في "سوق السبت" أو "اللويزن بلاتس"، أو في التجمهرات، أحدق وأقارن، الوجوه والملبس بسيمات يمنية لشعوب مختلفة من الأعراق والأجناس والألوان، التي كانت تشبه ملابسنا ووجوهنا وزينتنا. إنه الحنين لكل تفاصيل البلاد التي غادرناها وغادرتنا، أو غادرناها معًا، ويبقى "البونكتوم" كما يقول فيلسوف الصورة رولان بارت، يقض مضاجعنا، لخانة المقارم الأنيسة.
أين أضع هذا النص:
26/5/2020 - تونس
عشرات المقارم الملونة وبالخامات المختلفة: شيفون، جرجيت، قطن، نيلون، بعذابل، بصانفة، بترتر، متللة، بأزهار محبوكة بالجُد والإبرة، مخططة، مشجرة، خطوط هندسية، خطوط متعرجة، منقطة، بطيور، غيوم، شموس، نجوم وأقمار، مذهبة، مشبكة بالأزرار، ووو...
هذه هي خانة مقارمي، تنتهي الموضة، تأتي موضات جديدة، وأواصل، أشتري وألبس، وأراكمها، كأنها ستنفد، أو قبل أن يصفد وجهي كما صفدت وكتمت وجوه نساء اليمن.
نعم، لا يمكن أن أخرج دون أن أحط مقرمة، تتناسب مع الملبس، وعقود الفضة والمرجان، وحتى لو لم تتناسب أرتديها، وأمشي مزهوة، لا أتخيل نفسي أمشي دون أن ألتحف مقرمتي، ومعها المشقر.
في المقرمة أعيش لحظة توحدي وسعادتي.
الشعب الهندي العظيم، كان يدرك معنى أن المقرمة تعادل الحياة، لا أتصور الكون بلا مقارم، ولا حياتي بلا مقارم، لكن اليوم ذاكرتي وكاميرتي تجددان معنى المقرمة.