ما أصعب تناولي للحديث عن صديق عمر طويل أثير حبيب لصيق بمسيرة حياتي، كان له الفضل الأكبر في تكوينها وتوجيه دفتها إلى مسار جديد كنت أتوق إليه وأتشوق وأتمنى وأراه مستحيلًا إلى أن جعله الصديق الحبيب المحب الصادق الصدوق الوفي لحياة كثرت في طريقها العثرات، وامتدت في مساراتها أحلام المستحيل!
محمود علي الحاج، شاعر كبير، أديب ومثقف وإعلامي كبير ترك بصمة لا تنكر في مسارات الإعلام اليمني طولًا وعرضًا.. بعد انقطاع دام نحو 50 سنة، فوجئت بمحمود يدفع عربة أطفال، ويتجه نحوي حيث كنت أمضي أماسي عدن بجوار فندق البحر الأحمر... يااااه يا محمود.. عمر كامل مر وانقضى في لمح البصر.. ابنه الصغير كان في "الجاري" وتصافحنا.. ماذا أقول عن محمود الذي تملأ سيرته العطرة كتبًا وبرامج وفيديوهات جاهزة في أكثر من محطة!
لم يبقَ لي للحديث غير ذلك الشطر الذي جمع بيننا في أجمل صحبة، وشكلت كما أسلفت الشطر الأهم في مساري الحياتي..
كان محمود الحاج شاهدًا على محطات فارقة في حياتي.. فقد شهد المهاترة التي جرت معي في حضرموت، ونحن نؤدي عملنا في توثيق ممتلكات الجيش.. وعصيت أمرًا بتحية العلم، وقال لي الضابط الخصم: لو أن هذا العلم كان بريطانيًا لاحترمته، فأجبته في غيظ: نعم...! وكانت تلك عبارة الفصل التي أدت إلى تسريحي من الجيش!
بعد أن أنهيت دورة دراسية في بريطانيا 1967م، كلفني العقيد رئيس الأركان محمد أحمد السياري لتولي إدارة نحو 20 مدنيًا من أفضل كفاءات وكوادر الخدمة المدنية في بلادنا، كان النظام الجديد قد استغنى عن خدمتهم.. كلفت بالعمل كرئيس قلم، أو باشكاتب أو Chief Clerk، مع هذه الصحبة الجليلة من الكفاءات.. ومن بينهم كان الصديق العزيز محمود علي الحاج..
بعد طردي من الجيش بقيت صداقاتي مع جلهم حميمة، وألصقها كانت صداقتي بمحمود.. وكنت بلا عمل.. قال لي محمود -وكان هو الآخر قد ترك الخدمة في الجيش، والتحق للعمل في صحيفة "14 أكتوبر" كمدير تحرير- قال لي: ما رأيك بالعمل عندنا بالصحيفة؟ استغربت العرض الذي ظننته مستحيلًا باعتباري شخصًا غير مرغوب لما جرى معي في الجيش.. لكنه قال لي بعطف: اترك لي الأمر.. وسأكلم الأستاذ سالم زين، رئيس المؤسسة.. وأرد عليك.. وقد كان.. وفي الموعد ذهبت إلى المؤسسة، ودخلت لسالم زين دون أن ألقى محمود.. قال لي زين: ماشي معانا وظايف شاغرة! وخرجت.. كان محمود قد رجع من حيث كان، وسألني وأجبته.. فقال انتظرني.. ودخل لسالم زين الذي اعتاد على ترديد الأغنية "يا حبيبي كم شكا البين قلبي و... تمتحني بس ليه تمتحني"، في لحظات سروره.. وخرج محمود يكركر بضحكة حميمة أسمعها منه دائمًا، وقال: تمتحني بس ليه تمتحني! وكركرت ضحكته، قال: من بكرة تبدأ العمل.. قلت: بل من اليوم.. ونرجع الشيخ معًا!
بعد سنوات قليلة جدًا سافر محمود مع محمد سعيد جرادة، وفضل النقيب، في وفد أدبي إلى صنعاء.. ولم يرجع من الوفد غير الجرادة الذي قال: الرجعي رجع والتقدميون تقدموا.. وهي الحكاية التي رواها محمود في سردياته.. وبقي في صنعاء!
عام 1980م تلقيت دعوة كريمة من وزارة الإعلام في صنعاء، لاستكمال بحثي في تاريخ المسرح اليمني الذي أردته أن يشمل المسرح في الجنوب والشمال.. واقمت في فندق اسمه "سام سيتي" كان وقتها هو الأفضل، فحجزوا لي فيه.. وفي ليلة مفترجة فوجئت بزيارة كريمة من محمود، وبصحبته صديقه الفنان أحمد فتحي.. وأمضينا سهرة جميلة مع الذكريات.. بعدها وكان الأستاذ محمود مديرًا للبرامج في تلفزيون صنعاء، طلب إجراء حوار تلفزيوني معي لتلفزيون صنعاء، استغرق قرابة ساعة، أيام موضة الشعر الطويل والبناطيل الواسعة!
وتوسعت مسافات بعادنا طيلة نصف قرن، إلى أن شرفني بزيارته وهو يصطحب طفله، حيث التقينا قدام البحر الأحمر! وكما كرمني في بداية عمر من الصحافة.. فعل ذلك أيضًا على عتبات ثقافة كان على الدوام هو سيدها.