ذلك الدكان مهوى الفؤاد، وكأنه الباب إلى الجنة!
كانت تعز تُكْبِر يومها تلك الليالي، ليالي الاستعداد لاستقبال العيد
يضج شارع 26 سبتمبر:
الدمنة، فوفلة
وعند باب موسى تكون فرزة السيارات تضج هي الأخرى:
التربة باقي نفر!
والكل يمنّي نفسه الركوب بسيارة أبو زيد الهلالي
وأبو زيد يدري كيف يلبس الكوفية، ويدري كيف يجعل الريح تُخرج خصلات شعره، لتستريح على جبينه، طالما قارنت بينه وبين "رام" بطل الفيلم الهندي "سانجام"
في سينما 23 يوليو، كانت السينما الهندية يومها مسيطرة على الخيال العام، و"عبد اللاهي" البطل مزروع في ذهن كل مراهق!
وعلى طول الشارع، وبالذات بعد الغروب، تسمع العبارة الأثيرة تتردد: "عيد يا من بلاده بعيد"، تثير الشجن...
وأنا شجني وبالي هناك في ذلك الدكان في شارع المصلى، حيث تقف سيارة عبدالله علي، وكلما تذكرت تلك العقبة المنحنية، أحس بغصة، وأردد الدعاء:
يا رب يقدر عبدالله علي يمر منها ولا ننقلب
عندما نضجت وقدت سيارة، مررت منها، وضحكت كثيرًا، كان خيالي يكبرها وهي لا تتعدى الأمتار!
يا رب ونحصل على حمار عند بيت الحَوِش
من تلك النقطة كان الناس بمجارفهم وأيديهم قد أوصلوا السيارة إلى حيث هبطت طائرة "جون ستيوارت"، ذلك الأمريكي الشجاع الذي وجدها وقد غمرت بالأتربة على أرضية مطار الإمام غرب تعز! فاستفاد من خبرته السابقة كطيار حربي، ورماها وجهزها للطيران، فأقنعه صديقه المهندس محمد نعمان، بالذهاب بها إلى كدرة قدس، وكانت حكايتها حكاية...
في اللحظة التي أطلت من على الجبال ممتطية الريح مستعدة للهبوط التدريجي، حيث أصلح حماس الناس تلك البقعة المسماة "الموكب"، وهي تشبه حاملة الطائرات لو طالت عليها من جبل جبران المجاور الذي لو كان في الصين لربطوه بالموكب بجسر معلق عظيم!
تلك اللحظات كانت فارقة، فبسبب هدير محركها الوحيد هربت الأبقار والخراف، ونبحت الكلاب، ذاهبة بأصواتها نحو السماء تلك المرة، وأسرعت النساء عائدات إلى بيوتهن، والشباب يقفزون بين "الأحوال"، يتمنون أن يلمسوها... وإذا هبطت تجمع الكبار والصغار حولها، وإذ يذهب ستيوارت إلى ديوان الشيخ، يعكف "الرز" قاسم صالح على الإتيان بحجرين كبيرين، يربطها في الليل إليهما خوفًا من أن تنقض الرياح، وتحملها إلى المصلى أو المفاليس!
بعد سنين طويلة سألت محمد نعمان عن غرض الأمريكي من الإتيان إلى كدرة قدس، قال حزينًا:
كان معه صور من وكالة التنمية الأمريكية من الأقمار الصناعية لقدس كلها، كان يخطط لمشروع مياه وكهرباء للمنطقة كلها، لكن الحزبية والتخوين والإمبريالية حالت دون تنفيذ المشروع، ويوم أحرق المتظاهرون "النقطة الرابعة"، أحرقت تلك الصور، وذهب ستيوارت إلى غير رجعة!
يطل عبدالله علي نعمان بقامته المهيبة:
بتسافر معنا يا ابن الشيخ؟
كنت خجولًا، وأهز رأسي موافقًا، وحالي يقول:
أسرع يا عم عبدالله، روحي قد سبقتني إلى الكدرة، وأصوات مرافع العيد تدوي في النفس...
قبل الغروب بلحظات تتحرك السيارة "لاندروفر حبة ونص"، ونحن فوق الحمل الكبير، وبعضنا معلقون على جوانبها وترسة المؤخرة!
يستقبلنا الليل في منتصف الطريق، يذهب بنا إلى السمسرة على طريق التربة، تنعطف يسارًا نتأرجح قليلًا قبل أن نغوص في الماء، ونسابق القمر الذي بدأ في التشكل هناك في الأفق... وصوت العم عبدالله يقوى ويضعف بفعل هبة الريح:
ارجعوا يمين، ارجعوا شمال
واللاند روفر تتمايل يمينًا وشمالًا، أنينها يبدد وحشة الليل، وخرير مياه وادي ضباب الفضول يحيط بها من كل اتجاه، تارة نطحس، وأخرى نستقيم، والتعب يحتل الجسم قطعة بعد أخرى، لكن الشوق يبدد كل تعب...
نمر على تلك الانحناءة التي نحسب لها حسابًا من بداية السفر، و"الليل يا بلبل دنا غلس واسمر عندنا".
يجتمع الأنين والحنين في تلك الليلة التي ينتهي فصلها الأول عندما يطل علينا وجه القمر من على كتف نقيل مُعَادِن، ذلك النقيل الذي يعرفه الجَمّالة الذاهبون من بني شيبة ودبع وبني حماد والأخمور والأيفوع، الذاهبون نحو مصلى ومفاليس عدن! عدن عدن يا ريت عدن مسير يوم...
تتهلل الأرواح عندما تعتلي السيارة تلك العقبة الصغيرة نحو باب "الحَوِش"، هنا أطرح المرحلة الأولى من الفرح.
تحمل الحمير أشياءنا، يتقدمنا ذلك الرجل المهيب الذي بعد أن أغلقت طريق عدن حيث اراق عرقه سنين طوالًا، ذهب إلى طريق تعز يطوعها كل أسبوع، بحثًا عن الرزق الحلال.
كان عبدالله علي نعمان حكاية الكدرة الأطول، ترى الجميع يتحدث ويسألون بعضهم عنه:
متى بَيَرُوح؟
متى بَيُرَوّح؟
تهل تباشير الفجر لأهل القرية أمامي في الأفق:
هناك عمتي
هناك رفاقي
هناك أنا
ومع بزغة الصبح تتهادى رائحة الخبز الملوّح، وقلص شاهي عمتي أحسن شاهي
وعند المفرق يتجه حمار إلى حيث دار بجاش
وحمير تصعد المرتفع الصغير نحو بيت ودكان عبدالله علي آيبة
في ركن قريب من الدكان والمسجد الصغير، تسترخي بقايا سيارته التي تستحق تمثالًا على مرتفع نُعَامة، ليحكي قصة رجل طوع كل شيء من أجل الرزق، وسيارة لم تخذله أبدًا...
وعيد يا من بلاده بعيد.