صنعاء 19C امطار خفيفة

في الذكرى الخمسين لاغتيال محمد أحمد نعمان.. ذكريات فترة قصيرة معه

في الذكرى الخمسين لاغتيال محمد أحمد نعمان.. ذكريات فترة قصيرة معه
محمد أحمد نعمان(ريشة رقمية النداء)

اغتيل رجل السياسة والدبلوماسية والوطنية الفذ محمد أحمد نعمان، في بيروت، في ٢٨ يونيو ١٩٧٤، وهو غني عن التعريف، فهو نجل الأب الصانع الأول للقضية الوطنية. كان الشهيد مدنيًا حتى العظم، ووطنيًا لا يبارى، ومناضلًا حقيقيًا، ولا يضيره وصفه بكلمة مناضل التي يساء استخدامها، وينعت بها اليوم حتى الجلادين والمخبرين ولصوص المال العام، مع إضافة كلمة جسور. أقتبس من المرحوم السفير حسن السحولي الذي رافق فقيد الوطن في القاهرة قبل ثورة ١٩٦٢، واشترك معه في طباعة المنشورات والكتيبات بدار الهناء للطباعة، ضد النظام الملكي، على حسابهما، قوله بأنه كان أول من نادى بتغيير النظام الملكي إلى نظام جمهوري، وأضاف السحولي أن محمد النعمان وجار الله عمر صنوان في الوطنية، وتجمعهما قواسم مشتركة إضافية كثيرة جدًا، منها الثقافة الموسوعية.

 

 

النعمان في الثقافة الشفهية المدمرة

 
رأى البعض في النعمان لنبوغه وحدة ذكائه وسعة ثقاقته وبعد رؤيته وبصيرته الثاقبة، خطرًا وخصمًا يجب تشويهه وتهميشه، واستخدام سلاح الطائفية ضده، بينما هم في الواقع الطائفيون الذين لم يكونوا يرون في الجمهورية سوى ديمة قلبوا بابها، ومصالح خاصة تنقذهم من فقر مزمن، وبقاء جوهر نظام الإمامة ولو ببنطلونات وقبعات عسكرية ونفوذ مشيخي حليف.
تطرف البعض حد الطعن بوطنية الشهيد، لأنه كان يبزهم في كل شيء، بما في ذلك النزاهة. وكنت ككثيرين من ضحايا تلك الثقافة الشفهية التي لاتزال ملاذًا لكثيرين حتى اليوم، بمن فيهم حملة شهادة الدكتوراه الذين لم يحصلوا عليها إلا بعد دراسات وأبحاث وتدقيق وقراءة العديد والعديد من المراجع.
 

أنا والنعمان من بُعد

 
كتب الراحل د. بطرس بطرس غالي، أستاذي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، عرضًا لكتاب النعمان "الأطراف المعنية في اليمن"، في مجلة "السياسة الدولية" الشهرية، التي كان يرأس تحريرها. وبعد قراءتي للعرض استأذنته في التعليق على ما كتبه، وليس على الكتاب غير المتوفر حينها، ووافق، ونُشر ردي في عدد المجلة رقم ١٧، بالصيغة التالية تقريبًا، وهي أني أرى أن حل مشاكل اليمن يكمن في تحالف قوى الشعب العاملة.
و على ما أتذكر أن ما نشر لم يرد في تعليقي، ولكن محررًا في المجلة قاله نيابة عني. ظل النعمان في ذهني ذلك السياسي الذي شيطنته ثقافة شفهية مطاطة وقذرة، هي بنت مجالس القات، وأداة من أدوات قوى التخلف ومقاومة التغيير.
 

مع النعمان عن قرب

 
تعين النعمان نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للخارجية في حكومة القاضي عبدالله الحجري، في ديسمبر ١٩٧٢، بعد عامين وشهرين من التحاقي بالخارجية بدرجتي المتواضعة جدًا، سكرتيرًا ثالثًا، التي لم أكن أستحق غيرها.
لم أقترب من النعمان إلا بعد سجن زميلي في المهنة ورفيقي في الحزب الديمقراطي، الراحل أحمد أمين زيدان، الذي يصفه رفاقه بأنه من أسرة تهامية كل أفرادها من ذكور وإناث حزبيون. ولأن قضيته كانت غير رسمية، ذهبت إلى منزله بمعية الراحل غالب علي جميل، وكيل وزارة الخارجية، حاملًا ملفًا به مذكرات تحتوي على توقيعات مزورة لزيدان، قام بها زميل لا يود حتى اليوم أن أشير إلى اسمه، للتغطية على غيابه لحضور مؤتمر سري للحزب الديمقراطي، انتخب فيه عضوًا في اللجنة المركزية. كان الهدف هو دحض الاتهام، والبرهنة على تواجده في الوزارة من واقع
توقيعاته غير الحقيقية.
عندما قدمني الوكيل للنعمان، رد عليه بعبارة: "أشهر من نار على علم".
لم ارتح للرد، وساورتني الظنون، ولكن كان ذلك غير مهم، لأن هدفي كان حثه على المساعدة على إطلاق زيدان الذي عانى من تعذيب قاسٍ جدًا في الأمن.
بعد ذلك اللقاء توطدت علاقتي به لما لمسته كغيري من شباب الخارجية، من رغبته في تطويرها، أو على الأقل الحفاظ على ما أنجزه الأستاذ الراحل محسن العيني، الذي مأسس الوظيفة الدبلوماسية، وحدثها، بعد أن ظلت على حالها تقريبًا منذ عام ١٩٦٢، إلا من مستشار مصري، وسادها مناخ غير صديق للخريج حامل الشهادة الجامعية، والتغيير. زد على ذلك نظرتنا السلبية كشباب للقاضي الحجري الذي كنا نرى فيه امتدادًا لـ"العهد البائد".
كنت عرفت الحجري في الكويت، وهو سفير فيها، ولأنه كان عاملًا في النادرة، مسقط رأسي، فقد قال لي بأنه عرف والدي وعمي ووالد زوجتي، وعندما أجبت على سؤاله عن درجتي، جاملني بالقول بأني أستحق درجة أعلى منها.
وعند اختياره لرئاسة الوزراء، تشاءمنا منه كما كنا نتشاءم عندما يصبح الفريق حسن العمري رئيسًا للوزراء، لأنهما من قماشة واحدة، ولا يختلفان إلا في المهنة.
كانت الخارجية منقسمة بوضوح بين الشباب الطموح الحريص على تطبيق اللائحة نصًا وروحًا، والكف عن التجاوزات، وبين ذوي الخبرة. وقد انحاز النعمان والحجري كل إلى جيله. علمنا بجدال حامٍ حدث بينهما في مجلس الوزراء، عن الخارجية وطرفي الصراع فيها، وأن النعمان قال له إذا كان الأمر متعلقًا بالسن، فإن قائد الأسطى يستحق أن يحل محلي. الأسطى -رحمه الله- كان كبيرًا في السن، ومن السلك الإداري، وكانت وظيفته الوحيدة متابعة الأمور المالية للخارجية في وزارة المالية.
وبرغم وقوفه معنا كشباب، فقد شكوناه ببرقية إلى القاضي الإرياني، لتعيينه سلطان القرشي سكرتيرًا ثانيًا في نيويورك بدون امتحان وقضاء عامين في الديوان العام، طبقًا للائحة. وقد وجه القاضي رده إلى "الولد علي محسن الخ.."، لأن الزميل يحيى الشرفي رأى أن يرسل الشكوى باسمي بدون أن يستأذنني، وقد علم النعمان بالشكوى وتجاهلها، ولم يلم أحدًا.
عندما تقرر ذهاب لجنة السلك الدبلوماسي والقنصلي برئاسة غالب علي جميل، وعضوية أحمد الإرياني وأنا، وهي إحدى لجان الوحدة الثماني التي اتفق عليها في قمة طرابلس، بين رئيسي اليمن الإرياني وسالمين، في نوفمبر ١٩٧٢، زارته اللجنة عشية سفرها إلى عدن، لعقد أول اجتماع لها هناك، لأخذ توجيهاته، ولم نسمع منه شيئًا يسيء إلى الجنوب وقياداته التي وصفها فقط بـ"التحدي الشاب لنا". وكانت مقولته تلك إدراكًا نبيهًا منه بالشيخوخة المبكرة التي أصابت النظام "الجمهوري" في صنعاء.
 

أحمد أمين زيدان بين النعمان والحجري

 
تحرر زيدان من السجن، وتعين في السفارة في براغ. وعندما علم الحجري جن جنونه، وأمر بعودته إلى السجن. وقف النعمان له بالمرصاد. أما أنا فقد ذهبت إلى شركة البرق واللاسلكي (كيبل أند وايرلس)، وأرسلت له برقية بألا يستجيب لأي أمر يطلب منه العودة، ووقعتها "خالد" اسمي الحركي الذي يعرفه. ومن حسن الحظ وقتها أن البطاقات الشخصية لم تكن صدرت في الشمال، وأن الموظف لم يسألني حتى عن اسمي، لأن الدولة كانت لاتزال تحبو.
أما النعمان فقد قال للحجري إن إدارة الخارجية من مهامه وحده، وعزز هذا -كما قال لي الزميل العزيز حسن شكري- بالتواصل مع القائم بالأعمال في براغ، شقيقه محمد شكري، بألا يقبل أي أمر يصدر من غير الخارجية، يخص وضع أحمد أمين زيدان. ونتيجة لموقفه المهني والوطني، بقي زيدان في براغ حتى انتهاء فترة خدمته.
عندما كان النعمان وزيرًا للخارجية، ضبط أوضاعها، وطلب من دبلوماسييها أن يوحدوا ملبسهم، فإما أن يختاروا جميعًا اللبس التقليدي، أو أن يلبسوا جميعًا بدلات إفرنجية، وطلب بعض الموظفين للعمل معه في المساء، وكنت منهم، وفوق ذلك كلفني بعمل إضافي أنجزه في بيتي في المساء والصباح، بدون مقابل، وهو الاستماع السياسي للإذاعات العربية والناطقة بها، وتقديم رصد إخباري صباحي يعرض عليه كل صباح، ويومها لم تكن نشرة الاستماع السياسي لوكالة سبأ قد صدرت، وقد أعطاني راديو ومسجلة لهذا الغرض. أحد التقارير الإذاعية سبب لي تعبًا خفيفًا في الأمن، عندما سجنت في مايو ١٩٧٣ للالتباس بين اسم قيادي بعثي سوري، وبين الراحل سيف أحمد حيدر، اليساري المعروف.
بعد انتهاء العمل في المساء، كان النعمان يتكرم أحيانًا بتوصيلي بسيارته الفوكس واجن (البيتلز) التي كان يسوقها بنفسه، إلى أقرب مكان من بيتي في حارة مُعمّر التي لا تدخل بعض شوارعها السيارات. وربما مكافأة لي عرض عليّ النعمان العمل في السفارة بطهران، ثم ما لبث أن طلب مني الانتظار، لأن الزميل الراحل محمد مانع استدعي قبل توليه الوزارة بطريقة غير قانونية من إحدى السفارات، ويود تعويضه بتعيينه في طهران، وقبلت عن طيب خاطر، لأن التعيين لم يكن من همومي، بالقياس إلى قضيتي الأكبر كحزبي. وفي مايو ١٩٧٣ سُجنت في الأمن الداخلي، وزارني المرحومان عبدالوهاب العرشي ومجاهد حسن غالب، اللذان كنا نرى كشباب، بدون دليل، أنهما يقفان مع الحجري، برغم أن مجاهد (الوالد) كان من ثوار ٤٨، أما العرشي فكان متفتحًا ومثقفًا ومتواضعًا وودودًا، ولكن لجفاء لا سبب له بين الشباب وجيل الآباء المؤسسين، كان كل طرف يرى في الآخر الخصم الشبح.
سألا بحضوري المقدم عبدالله السنحاني، نائب رئيس الأمن الداخلي، رعاه الله إذا كان لايزال حيًا، لحسن تعامله معي، عما إذا كان محمد أحمد نعمان هو السبب في سجني، وكان الرد بالنفي، ولا يعلم إلا الله الباعث على السؤال، ولماذا ذكرا النعمان فقط، مع أن جميل جمال جميل كان من الأسباب؟
بعد خروجي من السجن، زرت النعمان في مقيله، وقد أجلسني على يمينه، وعند وصول رئيس الأركان العقيد حسين المسوري، سأله عن الأخ الجالس بجانبه، وكان رده هذا علي محسن حميد، صديق محمد خميس. وعندما استأذنته بالمغادرة طلب مني الذهاب في إجازة لزيارة والدتي في النادرة، وأمر بصرف مرتب شهر لتغطية نفقات الإجازة. وعند عودتي خيرني بين العمل في سفارة، وبين الذهاب إلى جامعة أكسفورد للحصول على دبلوم في الدبلوماسية، وقد اخترت الدراسة.
ومن دمشق بعث لي الزميل أحمد الإرياني، قبيل اغتيال النعمان بأيام قليلة، برسالة قال فيها بأن النعمان كان في دمشق، وأنه قال له إن في الخارجية ثلاثة فقط، هم أحمد أمين زيدان، وهو، وكاتب هذه السطور.
إن الذي اغتاله كان له/ لهم طموح سياسي كبير ومصلحة أكيدة في إنهاء حياته، ولو كان الاغتيال بسبب موقفه من اتفاقية الطائف، لكانت البداية بالحجري الرأس المدبر والمفكر الذي اغتيل في لندن بعده بأكثر من ثلاث سنوات.
لقد لخص القاضي عبدالرحمن الإرياني رأيه في النعمان الابن، في الجزء الثالث من مذكراته، بما يلي: ولد بار حاربه سوء الحظ، ونَفَس عليه الآخرون كفاءته النادرة، فوقفوا في وجهنا كلما أردنا أن نسند إليه منصبًا يليق بكفاءته وقدرته على التنظيم. وكم كنت أطرح إسناد رئاسة الوزراء إليه، قاصدًا من وراء ذلك إلى تجديد وتحديث وتنظيم الحكومة، ولكن المعارضة كانت حادة، وتبلغ إلى حد غير مألوف، وبدوافع مختلفة. إنها الغيرة مما يتحلى به من ذكاء وكفاءة وطاقة على العمل لا يوجد نظير لها بين الشباب المثقف، ومنها طموح الطامحين، واستئثار المستأثرين، ومرض المرضَى بالطائفية المقيتة، ولكن كلها كانت تلتقي عند كلمة "لا". وكان وهو يرى أن من دونه قدرة وكفاءة ورصيدًا في العمل الوطني، وهو العامل في هذا الحقل منذ نعومة أظفاره، يرى ذلك فيحز في نفسه، وحُق له ذلك. ولكنه لم يقل ما قاله الطغرائي:
لئن علاني مَن دوني فلا عجب
لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً