صنعاء 19C امطار خفيفة

جامع

2024-05-17
ما عرفت البرية مثيلًا لحامد جامع حسين، صديق العمر القديم والجديد وإلى آخر آهاته.. المشاء كما يسمونه.. Walker، لأنه كان يحب المشي، ولأن المشي أحب صفاته إلى قلبه: باوصلك.. يقول لي.. ونذرع شوارع كريتر طولًا وعرضًا يوم كنت قادرًا على المشي! من البحر الأحمر إلى لين العسكر قرب العيدروس.. وأفزعني مرة حين قال: نطلع الصهاريج.. ومرة: نطلع جبل صيرة وقلعتها لنشاهد أقدم موانئ التاريخ.. وأفزعني أكثر حين اقترح أن نزور مهلكة الفرس في نهايات كريتر.. فأنقذنا الصديق صالح العزاني بوعد أن نركب في سيارته الكراسيدا، في وعد لم يتحقق.. كم تنفسنا تراب أزقة عدن وحوافيها.. وتنسمنا بخورها العدني في ليالي الخميس.. وكسرنا القوارير في شارع الليل قبل موت الملك!
حامد جامع حسين( الصورة من إرشيف الكاتب) حامد جامع حسين( الصورة من إرشيف الكاتب)
حامد جامع عمر من البوهيمية الجميلة واللامبالاة.. هل يصدق أحد أن هذا الرجل لا يحمل مفاتيح لأبواب بيته؟ كان بيته مضافة لأي قاصد من الأصدقاء الأقربين والأبعدين.. وباب بيته مفتوحًا دائمًا.. مفتوحًا حرفيًا لا مجازًا.. لا يغلقه خلفه بالأقفال.. ولا يملك فيه ما يخاف عليه.. وحامد لا يحفظ المال.. لا يحمله معه حتى كأنه يعاديه: لو جبت لي فلوس تجعلني أسأل نفسي ماذا أفعل بها، وتحرجني نفسي أمام نفسي!
كل الجيران أحبابه، وكل الناس أصحابه.. لكن د. عبدالرحمن عبدالله إبراهيم كان هو الأول.. الأول الأول.. وإذا حاولت سرد أسماء بقية أصحابه لن تكفيني صفحات كتاب.
- ضربوك يا حامد؟! ضربوك جامد! ما يرحموش؟ الناس دي ما يفهموش الحوار.. ها؟ ضربوك؟
كان حامد طريح فراش المستشفى.. جسمه مليء
د. عبدالله عبدالرحمن إبراهيم(صورة من صفحة الكاتب) د. عبدالله عبدالرحمن إبراهيم(صورة من صفحة الكاتب)
بالكدمات.. وبعض الأورام.. وأنفاسه مقطوعة! لم يجد جوابًا يرد به على الأستاذ الكبير عبدالله عبدالرزاق باذيب، أمين حزب الشبيبة السلفي الماركسي الهوية، الذي كان يزور حامد في المستشفى ليطمئن على أحواله.. وكذلك تعرض رفيق دربه د. عبدالرحمن للأذى.. كانوا 3 من الرجال لا تكرر النساء إنجاب أمثالهم.. وقع ذلك في أول سبعينيات القرن الماضي.
حين تولى باذيب وزارة التربية والتعليم، وفي زمنه خرجت مظاهرة طلابية حاشدة احتجاجًا على الأوضاع.. تعرضت المظاهرة لقمع البوليس.. وحتى الوزير باذيب أُنزل من سيارته البيجو بقوة البوليس.. وأظنه عزل من الوزارة إذا لم تخني الذاكرة.. لينتظر فترة زمنية تحالف فيها حزبه وحزب البعث الذي يقوده أنيس حسن يحيى، مع الجبهة القومية، ليشكلا بتحالف غير منصف ما سمي التنظيم السياسي الموحد للجبهة القومية.. وعاد باذيب إلى السلطة ليؤسس الوزارة الأولى للثقافة! حدث التحالف بعد حوار وصفه سالم ربيع علي (سالمين) بأنه أطول حوار في التاريخ في أصغر بلد!
لكن حامد وكذلك د. عبدالرحمن آثرا الابتعاد عن السلطة وزعابيبها.. واستقالا من حزب الشبيبة ذاك.. يريان أنهما ملك للناس كل الناس، وليسا ملكًا للسلطة أية سلطة، نزعة تشي جيفارية كما يبدو.. لذلك اندفع حامد بكل قواه لترجمة كتاب فيديل كاسترو عن تجربة الثورة الكوبية التي تبني نفسها على أنغام الموسيقى.
عبدالله باذيب(منصات التواصل) عبدالله باذيب(منصات التواصل)
ربما كان حامد حالمًا.. بل هو كذلك فعلًا.. وهو زاهد أكثر من زهد كل رهبان الخليقة! يتذكر حكاية جاره العدني الذي سأله حامد: تذكر يا حبيب يوم احتلت الجبهة القومية كريتر؟ فيرد الجار: كيف بانسى ذاك اليوم الأسود اللي سرقوا فيبه غنمتي؟!
حامد جامع حسين، خير من يتكلم الإنجليزية إلا أخاه سعيد جامع الذي يتفوق عليه فيها.. سعيد جامع معارض سياسي لنظام الحكم في الصومال.. يسكن في دار بخور مكسر كغيره من قادة حركات التحرر، قبيل الوحدة استنفد النظام غرضه منه.. وطلبوا منه إخلاء بيته وتسليمه.. وسعيد من أبناء عدن، تعلم وتخرج فيها.. لكنه امتثل وسلم بيته، وسكن مع أسرته الكبيرة عند حامد في نفس بيته! وحين طلب استخراج جواز سفر وبطاقة هوية أنكروه.. وقرر الرحيل.. استخرج جواز سفر صوماليًا، وعلى الفور منح له ومنحت له فيزا دخول إلى بريطانيا مع كل أسرته، وهو هناك في مكانة مرموقة في مركز أبحاث محترم، وأولاده يتلقون العلم في أفضل المدارس.. طلب من حامد اللحاق به هناك، لكنه أجابه بالقول: أنا من عدن.. ولدت فيها وسوف أموت فيها! أبدًا أبدًا لم يكن حامد يطيق الخروج من عدن.. ولا حتى من كريتر.. عاش داخلها كل حروبها، وتجرع بلاها معنا ومع أهلها الكرام الذين أحبوه وأحبهم!
يضحك كثيرًا وهو يتذكر وصف صومالي مسن أيام الاستعمار الإنجليزي، ويقول: وريا أيش هذا استعمار ما استعمار؟ وريا لو شافتي أمهري.. والله الفرنجي حاج! قاصدًا أن استعمار الإنجليز لكم هنا نعمة! فوالله لو رأيتم استعمار الأمهرا الأحباش لجزء من أرض الصومال.. لاعتبرتم الفرنجي حاجًا ورعًا!
يا حامد.. أيها المشاء العزيز.. ليت الناس مثلك.. ومثل د. عبدالرحمن.. ومثل عبدالله باذيب.. فالنساء ضنينات بأن يلدن مثلكم.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً