صنعاء 19C امطار خفيفة

أنيسة.. طاهر.. هشام.. المقالح

2010-01-19
أنيسة.. طاهر.. هشام.. المقالح
أنيسة.. طاهر.. هشام.. المقالح

لا أنعي وطناً لكني حزين من أجلكم من أجلها من أجلي
- عبدالكريم محمد الخيواني
يناير شهر حزين بامتياز هنا باليمن، منذ سنوات، على عكس العالم، نفتتح يناير على ذكرى اغتيال الشهيد المناضل جار الله عمر، ونعيش قرب منتصفه ذكرى استشهاد الثائر ورجل الدولة اللواء يحيى المتوكل بحادث مروري غامض، وبعد كلام الشيخ الزنداني قبل فترة بأنه كان سيذهب في حادثة سيارة بنفس الطريقة التي راح ضحيتها المتوكل، تبقى شبهة الاغتيال، مرجحة أكثر، خاصة لو طالعنا التقرير الأمني الهزيل عن الحادثة.
أحزاننا لا تقف هنا، لكن تتجدد برحيل آخر رجال الدولة، والرجل الشريف والنزيه فيصل بن شملان، الذي توفي بعد صراع شجاع مع المرض الخبيث، لم يكن خلاله إلا ذلك الإنسان الشريف والنزيه، صاحب الموقف، المبدئي المتراكم خلال سني خدمته، رحل واقفا، رافضا أن يتواطأ ضد ناخبيه، ولم يبارك بنتيجة انتخابات الرئاسة، فلم تتكفل الدولة التي خدمها عمره بعلاجه على نفقتها، وكان ملفتا أن السلطة لا تحترم جلال الموت، ناهيك عن تجاهل ذكر وفاته، إعلاميا، وعدم تقديم واجب العزاء، أو صدور نعي رسمي هنا أو هناك، شيعته بمفردات الحملة الانتخابية الرسمية إياها، فما الحكم لدينا سوى حملة انتخابية رئاسية متواصلة.
المقالح ما زال مخفيا قسرا، ولم يتغير وضعه بعدما كشف رئيس الجمهورية بعد مائة يوم، أنه موجود لدى أجهزة السلطة، ولا بعد تصريح بن دغر، حتى السماح لأسرته بزيارته لم يتحقق حتى الآن، ولم تجدِ كل المحاولات للحصول على إذن بالزيارة.
ما تعرضت له صحيفة الأيام والزميل هشام باشراحيل يندرج في قائمة الحزن، وتحويل التهمة من حرية تعبير إلى جنائية أو إرهاب، ما زالت وسيلة تقوم بها السلطة دون إدراك أنها صارت مكشوفة، وتلفيق التهم لم يعد مقنعا بأي حال محليا ودوليا، والواضح أن اهتمام العالم باليمن والمخاوف من الإرهاب استراتيجية ناجحة، ومربحة رسميا، ففي كل غارة، تتم ضد القاعدة، تشن غارات رسمية أخرى على أصحاب الرأي وحرية التعبير، والناشطين الحقوقيين.
محكمة الصحافة التي أنشئت في وقت أزمة إغلاق 8 صحف، في يونيو الماضي، وتمتد مكانياً إلى كل محافظة يمنية، وعلى الصحفي أن يحضر إليها للمحاكمة، دون أدنى اعتبار للحق الدستوري والقانوني الذي يكفل للمواطن حق التقاضي أمام محكمته الطبيعية، وأمام قاضيه الطبيعي.
أمس حكمت المحكمة بسجن الأستاذة الكاتبة الصحفية، أنيسة عثمان بالسجن 3 أشهر مع النفاذ، على ذمة مقال، اتهمت فيه بإهانة رئيس الجمهورية، كتبته غيرة على انتهاك حرمة بيت وترويع أسرة، وإرهاب طفلة، أغمي عليها عندما دخلوا وأخذوها ورموا بها جانبا، لتشاهدهم ينكلوا بوالدها النائم، وكان المسوغ الذي ساقه الجنود حينها أن ما يقومون به، يستند إلى أوامر وتوجيهات رئاسية، وليس لمصوغات قانونية. هكذا قالوا. لا يهم، حق أو باطل ما قالوا، لكن هذا ما نطقوا به وقالوه أكثر من مرة. كنت أنا الضحية وأسرتي. ظلت طفلتي "إباء" لعدة أشهر تغادر سريرها مفزوعة من نومها ليلا وهي تصيح، خائفة مرعوبة: الجنود. ما تزال حتى الآن تتذكر هذا الكابوس. عن هذا كتبت أنيسة بلسان المواطن والأخت وربة الطفلة، لعلها أرادت بالنقد أن يغضب الرئيس لاستخدام اسمه على هذا النحو، لكن أخذت المسألة بصورة أخرى، وبقراءة مختلفة، فإذا بها تجد نفسها متهمة بإهانة رئيس الجمهورية(!). حوكمت في صنعاء وهي ترعى والدتها المريضة الطاعنة بالسن في تعز، لم تستلم استدعاء حضور، ولم توكل محامياً، واستمرت الجلسات فصدر ضدها حكم قاسٍ بالسجن، لتكون أول كاتبة يمنية يصدر ضدها حكم بالسجن،على رأيها، على نفثة صدر مكلوم، على غائبة، على قانون، على دستور.
العالم اليوم يسقط عقوبة السجن على ذمة الرأي، للصحفي وليس الصحفية، ورئيس الجمهورية ذاته أطلق وعدا يوما ما، تناغما مع هذا، باعتباره توجها ديمقراطيا، ولكن تاه الوعد وبقيت العقوبة ومورست بشكل أوسع، ووصلت إلى الصحفية ربما كنوع من التأكيد على تنمية حقوق المرأة.
المصيبة أن أنيسة عثمان ابنة المناضل والثائر، والشهيد محمد علي عثمان، يصدر عليها مثل هذا الحكم من سلطة تحاور الخاطفين، بل وتسلم لهم الفدية، توقف القضايا في المحاكم ليصدر فيها حكم من نافذ ما. لكن لأنها من تعز؛ المحافظة المؤمنة بالمدنية، فلا مكان لشيخ ولا لنافذ أو مناضل أو رمز مهما بلغت مكانته. ثم بالله عليكم، عندما يكون رئيس الجمهورية خصما، لمواطن أو مواطنة، فما حجم الرئيس في كفة ميزان القضاء، وما حجم المواطن في الكفة الأخرى؟ وأنا هنا أتحدث عن القضاء اليمني، وعن قضاتنا، وليس عن القاضي شريح.
كان الرئيس سيبدد كل ما جاء في مقال أنيسة، برفض الوقوف خصما بسبب مقال، كان سيتعالى كحاكم، على ما صور له إساءة، بمعالجة الموقف، ورفض مثل هذا التصرف الذي يزج فيه اسم الرئيس، وهو بهذا سيؤكد حمايته للقانون والدستور والقيم الحميدة، ويستفيد لأنه يعلي من شأنها. ولا أعتقد أنه مثل هذا الحكم أو إبقاء المقالح مخفيا، ومحاكمة السقلدي وراشد، واعتقال شفيع العبد، واعتقال هشام وأبنائه، وتكميم الأفواه يخدم النظام، حتى لو كانت الحرب على الإرهاب هي أولوية أمريكا والغرب، باليمن اليوم، وأنه تحت هذا الإطار يمكن تمرير قضايا قمع حرية التعبير وانتهاك الحقوق والتعذيب، لأن هذا القمع والقسوة يخدم الإرهاب، ويبرره، وهو أكبر تحريض ضد أمريكا والغرب، وربما لم يصلوا بعد إلى هذا الحد من الغباء.
كان أمس الأول بداية أسبوع مميزة جدا، خاصة لشخص طافش، مما حوله، على هاوية أن يفقد قلبا شكل له طوق نجاة في محنة، وقتا ما.. عند المساء جاء نبأ تعرض الأستاذ القدير عبدالباري طاهر، إلى حادث مروري، بسيارة مجهولة، ثم معلومة بعد التأكد من سلامة الأستاذ، الذي كان في الأسبوع الماضي نجم برنامج تلفزيوني بثته "الجزيرة"، تحدث فيه بموضوعية ومرارة عن الإرهاب، ونجم ندوة عن المناضل جار الله عمر.
عبدالباري طاهر المناضل والحقوقي والإنسان، معروف أنه يخرج بموعده من مؤسسة العفيف، يتجه مباشرة نحو شارع حدة تقاطع الكميم، ليركب باصا يقله إلى حدة. برنامج يومي معتاد. أمس وهو في طريقه، الذي لا يخطئه، فاجأته سيارة مسرعة في مكان لا يحتمل فيه السرعة، لتصدمه، أسعفته نفس السيارة مغميا عليه، وتركته في مستشفى الحريبي، قائلا سائقها إنه فاعل خير، وغادر المستشفى، وعندما عرف أن أستاذنا طاهر، بخير، عرف من هو.
لست مع نظرية المؤامرة، لكن الهجمة الشرسة على أصحاب الرأي والناشطين تفرضها، عدم وجود تحقيق مقنع وشفاف بأية جريمة يتعرض لها الصحفيون والسياسيون يفرضها، الانهيار القيمي والأخلاقي يطرحها، السقوط الذي نعيشه ونلمسه في الحياة العامة، من جحود وخداع وفساد وزيف وتنكر، يعززها، تغليب الكره على الحب، والتحريض على الألفة، مساواة المحسن والمسيء، والفاسد والصالح، والقبح والجمال، تجعل الحياة لا معنى لها، تجعل الوطن ضيقا، بمساحة ضيق صدر الحاكم الذي تعايشه اليوم خوفا وألما وقلقا.
عاش عبدالباري داعية للمساواة، حالما بالعدالة، حقوقيا يدافع عن الإنسان، كان في حديثه بـ"الجزيرة"، يتحدث بألم عن الوطن الذي يخاف عليه، عن الحلم الذي عاشه عقوداً، عن مخزون الحب والجمال والفرح، الذي في نفسه، لكنهم استكثروا عليه كل ذلك، وبكل موضوعية ووداعة التهامي الحنون والطيب، والمثقف الواسع، وجدنا فجأة أنه لم يعد مقبولا، ولا مستساغا، إذن فأين نذهب نحن الباحثين عن أمل نتمسك به بوطن، بعدل، بمساواة؟ ما هذا الوطن الذي يجف فيه الفرح ويينع فيه الحزن، يقتل فيه الحب، وتنمو الكراهية..؟ أي مجتمع هذا الذي يضرب فيه مفكر كبير كأبو بكر السقاف، وهو صامت، نخبة، وعامة، ولا ينصف ولا يكرم، ويكرم عبدالباري طاهر على وطنيته وكفاحه من أجل الناس عقوداً من الزمن، بسيارة تصدمه، ولا يضج الناس انتصارا لحق الحياة، انتصارا للقيم، والجمال والحب والخير والعدل، ولا يحتاج أن تسوق رأسك بيدك، لتثبت أنك شهيد..! أية حكومة وسلطة تلك التي يهمها نشر الخوف، ولا تبالي بمقدار شعبيتها، ودعايتها الانتخابية اختاروني أنا أو الصومال أو العراق، أنا أو الطوفان، تقسم شعبها إلى فئات متناحرة، العرق تهمة، والمنطقة تهمة، والنجاح تهمة، والتفوق تهمة، والصدق تهمة،...! أي واقع هذا الذي يتحول فيه من تحب إلى وحش، ومن تعز إلى خنجر، ومن تثق به إلى مخادع، والسياسي إلى نخاس، والحقوقي إلى تاجر، والعالم إلى داعية عنف وحرب، والأديب إلى طبال، والفنان أيوب طارش عبسي إلى عنوان شقاء ومرض، وهو الذي أفرح الناس وغنى للوطن والحب، والوحدة التي باسمها يقمعون، وينهبون...! أي بلد المستقبل فيه لصاحب الرأي والصحفي يكون، غسالة قاذورات، أو مجنوناً أو ميت الروح، وفي أحسن الأحوال شهيداً منزوعاً عنه صفة الشهادة، ونقابة الصحفيين، إلى قسم شرطة، واتحاد الأدباء إلى معهد تعليم الفهلوة..!
السيدة الفاضلة أنيسة رمز الشجاعة والمساواة، أنت تاج على رؤوس الخاضعين والصامتين، كيف ندين جرأتك وهم يرفضون موضوعية عبدالباري طاهر؟ الحكم عليك اليوم وحادثة طاهر واستمرار إخفاء المقالح وعدم الاحتجاج على كذبة اختطافه، واعتقال هشام وضرب رداد، والحكم على الأشهبي، يوم بائس سلبني ما تبقى من وطن، وجعلني أرى أن لا فرق بين الوطن والقبر، لو كان الوطن، المجتمع، الأسرة، الصديق وضيفة لاستقلت، لكنه للأسف غير ذلك، لو كنت أملك أن أعتذر لاعتذرت عن وجودي بينكم، ولنفسي فقط.
أنا حزين بسبب الرئيس، وحروبه، وصمت الشعب على الفساد والقهر والحرب، حزين، بسبب هذا وذاك وتلك، حزين من أجلك وأجلها، حزين من أجلي، من أجلهم، من أجل الصغار.
[email protected]

إقرأ أيضاً