صنعاء 19C امطار خفيفة

مكر التاريخ

2009-12-28
مكر التاريخ
مكر التاريخ
* عبدالباري طاهر
جاءت مذكرة التفاهم عام 2000 بين العربية السعودية واليمن كثمرة أو عطاء لحرب 94 بالقدر الذي كانت اتفاقية أخوة عربية وصداقة إسلامية عام 1934 كثمن لهزيمة جيش الإمام يحيى للحرب. فبينما استولت سلطنة نجد والحجاز حينها على 3 محافظات من أهم محافظات اليمن: جيزان، نجران، وعسير، كجزء من اليمن والدولة اليمنية مئات السنين، وتحديداً منذ توحد الكيان اليمني في الدولة الحميرية.
كانت «حجة» عبدالعزيز آل سعود قوية بفضل السلاح والمال والدعم البريطاني، ولكن الاتفاقية أبقت خيطاً واهياً ربما للتذكير بالحق والهزيمة.
لا أعقد مفاضلة بين الاتفاقية والمذكرة فكلاهما قد وضع لغماً مدمراً للعلاقة اليمنية السعودية منذ البداية، وكان استيلاء آل سعود على هذه الأرض اليمنية عبر عدة حروب ابتداء من قتل 3 آلاف حاج في تنومة عام 1932 مروراً بحرب 1934، وحرب الجمهوريين والملكيين 62 - 70 والاستيلاء على الشرورة والوديعة عامي 70 و73، وتشجيع الحروب الداخلية داخل الشطرين وبين الشطرين (حرب المنطقة الوسطى) وحرب 72 و79. واللافت أن هذه الحروب الكريهة قد آلت إلى الوحدة «كمكر للتاريخ» كفلسفة هيجل.
وعندما طرحت دولة الوحدة أو قبلت بترسيم الحدود لم تستجب الدولة السعودية لأنها تدرك أن الترسيم في زمن القوة لا يحقق أهدافها.
تأخرت مذكرة التفاهم بضعة أعوام عن حرب 1994 التي وضعت الجنوب في مواجهة الشمال ووضعت الحكم في مواجهة سافرة مع إرادة وأماني أبناء شعبه. لم تعلن مع المذكرة أو بالأحرى لم يشر إلى أي «اتفاقيات سرية» أو ملاحق.
صحيح أن السعودية قد تعهدت بإنشاء معاهد فنية وتقنية متخصصة لتدريب العمالة اليمنية، وحدد لها مبلغ يصل آلاف الملايين من الدولارات، ولكن المعاهد والمبلغ ذهبت مع الريح ولم يعد يتحدث عنها أحد.
الحرب السادسة في صعدة وعمران بدأت الكشف عن جوانب من كهوف في قمة جبل جليد المذكرة المومى إليها. فقد أشارت بعض التصريحات عن وجود تحالف استراتيجي بين الرياض وصنعاء، وقد ترافقت هذه التصريحات مع دخول السعودية على خط الحرب في صعدة، والتي دخلتها بضجيج إعلامي، وخطاب حربي ناري، ومطالب بما يشبه إزاحة الجبال عن مواقعها، وإعادتها عشرات الكيلومترات للوراء. واستقبلت الحرب التدميرية السعودية الآتية من الجو والبر والبحر، والتي أتت على ما تبقى من حجر وبشر وشجر ومعالم حياة في هذه المناطق..استقبلت هذه الحرب التدميرية بابتهاج وحماس شديدين للعدوان السعودي على الأرض اليمنية، وكانت أبرز نتائجها منذ البداية تهجير العشرات من القرى واليمنيين في الجانب السعودي إلى العمق. في حين جرى الحديث عن الاستيطان وإعادة الاستيطان لمناطق الحدود في الجانب السعودي. فهل تضمنت مذكرة التفاهم اقتلاع اليمنيين في الحدود بين الدولتين إلى مناطق أخرى.
لقد أجاب العدوان السعودي على غموض في هذه الحرب المتكررة والكريهة. فلكي تطرد الدولة السعودية مئات وآلاف المئات والآلاف من أبناء عسير والمخلاف لابد من حرب في صعدة تستمر بضع سنوات. فما كان باستطاعة السعودية الحديث -مجرد الحديث- عن تهجير المواطنين في عسير الجبال والتهايم لولا حرب صعدة.
الحرب في صعدة التي تدخل عامها السادس قد استهدفت في مداها القريب والعاجل طرد المواطنين بالقتل حد الإبادة في محافظات صعدة وأبها وجيزان وعمران ومناطق من حجة والجوف. لهذه الغاية المقيتة والتي سبق إليها ستالين وأتاتورك وصدام حسين والفاشية والنازية، وفشلت كلها في اقتلاع أبناء الأرض من بيئتهم، ولكن هذه الحرب المكرورة والمتناسلة لا تزال تخبئ أكثر مما تعلن، وهي لا تدور فقط في هذه المحافظات، ولكنها تدور أيضاً في عقول وقصور الحكام الذين يتقاتلون على اقتسام «المستقبل»! في حين يضيق بهم الحاضر.
الحرب ابنة شرعية للفساد والاستبداد في البلدين الجارين والشقيقين، وهي هروب من جرائم إلى أكبر فأكبر، وتعبير مكثف عن حالات من اليأس والضعف والخوف. الخوف من أنفسهم ومن أعدائهم الحقيقيين «شعوبهم»، وهي عودة «غير حميدة» للمناطقية والقبائلية والطوائفية التي اعتقدنا أننا قد تجاوزناها.
في تصريحات مسؤولينا وخطابنا الإعلامي ووعظ «السلف غير الصالح» حرص مريب على تدويل الحرب وجر أطراف إقليمية إليها. كما أن الخطاب السياسي شديد التأكيد على طائفيتها واستمراريتها.
الكارثة أن تصبح الحروب المستدامة وجرائمها مناجم ذهب، ومصدر ثراء، وأن تكون الحروب الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الحكم أو المكوث في الكرسي أو صياغة اقتسام جديد.
الحرب في صعدة ودفع الحراك الجنوبي بالإرهاب وتهجير السعودية لأبناء عسير والمخلاف شأن الصراع الفلسطيني -الفلسطيني وحصار غزة والإرهاب في العراق والحرب في السودان ليس مؤامرة أمريكية ولا مكيدة صهيونية، ولا نزعة شيطانية، وإن كانت تحقق وتضمن المصالح الأمريكية الاستعمارية، وتخدم الاستيطان الإسرائيلي، وقد يؤذن بغروب نظام عربي فسد وفقد الرشد. فهو مكر التاريخ «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين» الآية (الأنفال: 30).
بدايات التمرد المحدود وتطوراته وامتداداته ودخول السعودية قد كشف مكر «مذكرة التفاهم».
ما لا ينبغي أن يُنسى أن حرب 34 قد بدأت بقتل 3 آلاف حاج يمني في أقل تقدير في تنومة. أما حرب مذكرة التفاهم -إن صح التعبير- فقد سبقها إحراق 18 مهاجراً يمنياً، وعلى مقربة من التنومة في خميس مشيط. وفي حين اكتفى الإمام يحيى بإثارة القضية عبر المفاوضات، ثم فوض عبدالعزيز آل سعود فإن قصة إحراق أجسام 18 مهاجراً لم تلق أي احتجاج رسمي، ومرت الجريمة بسلام.
نحن أمام إرهاب «رسمي ومتناسل» ومتوسع، فالحرب في مران قد امتدت إلى عديد من محافظات الشمال، ويجري دفع الاحتجاج الجنوبي السلمي بالإرهاب بأساليب مدمرة وخبيثة، وبدخول أمريكا الحرب لتبرر ضرب البدو الرحل بصواريخ كروز، يأخذ الإرهاب بعداً دولياً، وهو ما يريده حكم فشل في التنمية والبناء وفرض هيبة النظام والقانون والحفاظ على وحدة سلمية وديمقراطية.
الحريصون على عولمة الحرب لا يتعظون بباكستان وقائدها القوي «برويز مشرف»، كما لا يأخذون العبرة من العراق والصومال وأفغانستان، وسيجدون أنفسهم ضحايا حرب أوقدوها.

إقرأ أيضاً