صنعاء 19C امطار خفيفة

محارب شجاع مدنه خائفة عبر العصور

محارب شجاع مدنه خائفة عبر العصور

صورة اليمني وهيئته في مطارات العالم، توحي بملامح القادم من الريف القاحل، لا من مدن وحواضر عريقة.


تنشأ المدن بطبيعتها خائفة، كما هو شأن معظم حواضر العالم. في البداية تستند كما الإنسان الى جبل يحميها، مثلما فعلت القاهرة، صنعاء، تعز، ودمشق، أو تستلقي على الماء وتيمّم وجهها الى اليابسة، مثل القسطنطينية.


لكن لماذا المدينة في نسختها اليمنية ظلت استثناء من بين كل هذه الحواضر؟!

صنعاء أو المدن الحضرمية (1) الموغلة في القدم، بقيت تراوح مكانها؛ خائفة ومحصورة داخل جدران ترابية مركّنة، بنوبات حراسة منذ آلاف السنين. لم تتسع، لم تتطور، ولم يُسمح لها ان تنام هادئة.

إن من أسوأ حالات المدينة بؤساً عندما يحكمها رجل قادم من الريف، بينما تكون الأرياف أكثر سعادة، إذا ما أدار مصالحها حاكم آت من المدينة.

لكن مصيبة اليمني ولغزه المحير: انه لا المدينة سعيدة ولا الريف مزدهر. يعثر اليمنيون كل يوم على نقوش حفرها الأجداد منذ آلاف السنين على الصخور، لكنهم لم يعثروا على مدينة واحدة آهلة بالحياة ومستقرة.

هذه النتيجة تقودنا الى التسليم الافتراضي بهذه الحقيقة الثابتة؛ اليمن فكرة تم تركيبها على ارض ليست مستوية. لذا لا تستغربوا عندما تجدونها، غير مستقرة ابداً.

لا يبحث اليمنيون اليوم سوى عن السلام المؤدي الى دولة ضامنة للاستقرار، وهم عندما يتحاربون يتلبسهم زعم اشبه باليقين بأنهم إنما ينشدون ذلك هذا حلم قديم غير موات، يضج ويحتدم فقط، في صدور سكان هذه البلاد، التي تعصف بها الصراعات والحروب، منذ فجر التاريخ.

تبقى كل الأفكار، مجرد أماني، إذا لم يتم الحفر عميقاً للبحث عن جميع العناصر والظروف الطبيعية التي تجعلنا بلداً متجدد ودائم النزاعات.

 

الهجرة الدائمة من لعنة المحارب الأبدي


غادر المئات من المثقفين والأدباء ورجال المال الى خارج اليمن، بعد أن خسروا أعمالهم ومشروعاتهم، مشفوعين باليأس من عدم الثقة؛ اذ لم تعد هذه الأرض التي أنجبتهم صالحة للعيش ولا لمستقبل أولادهم. وهكذا تبدو اليمن: طاردة مهاجرة، ومسافرة عبر العصور.

يكاد ان يكون هذا الميراث المأساوي، ثابت كالطبيعة، إذ يدفع بسكان جنوب شبه الجزيرة العربية للنزوح والارتحال في شكل موجات جماعية، جيلاً بعد جيل منذ بداية التاريخ: تاريخ الحرب، التي تنتجها دوماً الظروف غير الطبيعية، للأرض التي يعيشون فوقها. هذا إذا نظرنا الى الأرض الموزعين فوق انحداراتها باعتبارها؛ حياة وموارد ضئيلة، شحيحة الماء، ومدرجات زراعية، تتناسق في صور واشكال هندسية مذهلة، لكن فقيرة التربة وضيقة، اذ لا تساوي مساحة الكثير من مدرجاتها، مسافة الخطوة الواحدة والخطوتين.

المتغير الجديد والأبرز، هذه المرة ان قاعدة الركون الى الجبال، بوعي الخائف غير المكتفي من عائداتها، انكسرت في العقود الأخيرة واندفع الناس يهرعون باتجاه السهول ومراكز التشكل الحضري الناشئة، في حالة موجات سباق على البناء وشراء الأرض وعلى التجارة.

تجري حالة البحث عن مهن لتغطية النفقات اليوم التي أصبحت ضمن قائمة الاحتياجات الاساسية لأفراد الأسرة الواحدة؛ الموبايل، فواتير الانترنت، الكهرباء والمواصلات وما تستغرقه حياتهم من مياه.

كل هذه النفقات التي تتم كضروريات أساسية لحياة الناس اليوم، تستجيب، اجبارياً، لحركة السوق واشتراطاته الجديدة، وبالتالي فإن كلفة توفيرها تجعل الالتحاق بالمهن قرار لا بديل عنه. المهن التي ظلت في ذهن الكثير من الاسر اليمنية، موصومة بــ "العيب". وعلى هذا النحو يجري الكسر الحتمي لكل هذه الانساق الذهنية، الذي يمكن اعتباره من وجهة نظر علم الاجتماع السياسي إحدى أكثر التحولات الكبرى نحو المدينة كنواة لفكرة الدولة الدائمة.

هذا الانفتاح على الحياة بآفاقها، الذي يتشكل، منذ ستين سنة، مثل كائن حي في طوره الأول، هي احدى العوامل التي فجرت الحرب اليمنية الجارية، وفي الوقت ذاته يمكن اعتبارها احدى تباشير زمن الاستقرار القادم ومادته الأولية. لكن من الصعب تأطير، هذا الافتراض زمنياً. لأنها عجلة تطور الحياة تمضي بخطوات حركة التاريخ وليس بقياسات البشر وحساب اعمارهم. والمثل اليمني يقول: " يوم الدولة بألف" أو: " يوم الدولة سنة. ولئن ثبت صدق هذه النظرة المتفائلة، فإنها ستقل حظوظ هواة القنال المحاربين، أمام حتمية السلام كمصلحة جماعية.

في حروب عشرينيات القرن الماضي نزح الآلاف الى أمريكا وأوروبا، حيث استقدمتهم لاحقاً، شركات صناعة السيارات الامريكية، في خضم حركة الإضرابات التي شلت قطاع الصناعة في ولايتي ميتشغن وكاليفورنيا، وأرسل "هنري" "فورد"، السفن الى "عدن" لجلب أكبر عدد ممكن من هؤلاء العمال (2) القادمين من البوادي ذين لم يتعرفوا بعد على فكرة وانشطة العمل النقابي ولم يسمعوا بها.
استعانت حكومة "تشرشل" في الحرب العالمية الثانية بالعمال اليمنيين الذين يعملون في احواض صهر الحديد وجندتهم ضمن قواتها البحرية للتصدي لـ"كارل دونيتز" قائد سلاح الغواصات الألماني الشهير وخاضت بهم معركة الأطلسي الصعبة! أسماؤهم معروضة على واجهة النُصُب التذكاري الضخم في قلب مدينة ليفربول كأبطال

ايضاً استعانت حكومة تشرشل"، بالعمال اليمنيين، الذين كانوا يعملون في احواض صهر الحديد في مدن وسط وشمال البريطاني الغنية، وساقتهم ضمن بحريتها للتصدي لقائد سلاح الغواصات الألماني الشهير "كارل" دونيتز"، في معركة الأطلسي الشهيرة" (الحرب العالمية الثانية). كانت هذه المعركة هي الأطول في تاريخ المعارك البحرية، وأصعبها، حيث ضحت بريطانيا بعشرات الالاف من جنودها فيها. أسماء هؤلاء الجنود وهم بالآلاف مسرودة على واجهة النصب التذكاري الضخم في قلب مدينة "ليفربول" كأبطال (3).

 

مئات الأسماء منهم يمنيون


لقد تبخرت أحلام الناس، في ظل الحرب الجارية، وفقد موظفي الدولة مرتباتهم. وفي تاريخها لم تستقر اليمن ولو لقرن واحد دفعة واحدة والحقيقة الجديدة التي يتوجب ايضاً على اليمنيون ان يعثروا عليها من وسط ركام كل حروبهم المدمرة هي؛ ان القول بأن "اليمن شعب مقاتل" ليست ميزة. ربما هي الكارثة التي يجب التنبه لها.

اليمني كمحارب شرس" ليست ميزة:


معجزة اليمن وامتيازها يتجلى في ظل الاستقرار وليس بديمومة الحرب والتباهي بها. ما الذي جعل الأجداد، يركنون بيوتهم في اشد الأماكن وعورة فوق أعالي الجبال ويتركون الأودية فارغة حيث مجاري السيول انه الخوف وليست الشجاعة.

سور صنعاء الطيني قبل ترميمه وتعبيد شارع الزبيري سبعينيات القرن الماضي سور صنعاء الطيني قبل ترميمه وتعبيد شارع الزبيري سبعينيات القرن الماضي (عبدالرحمن الغابري)

من هنا تبدأ المشكلة يبدد الانسان حياته في منحدرات شديدة الوعورة، وتظهر البيوت والقرى مبعثرة متباعدة ضمن تضاريس وعرة يصعب تدجينها، وهكذا هو تأريخهم قاس وممزق ومتشظٍ وعظيم في نفس الوقت، لكن يصعب العثور عليه مكتملاً في سردية شاملة. هل الصورة مقلوبة، وينبغي التحديق اليها من زوايا جديدة؟ ربما لكن سيبقى كل شيء غير ممكن دون النظر الى الحرب باعتبارها لعنة دمرت حضارة هذه البلاد عبر العصور المدن والدولة كأساس للاستقرار والتنمية المستدامة. ثم ان بقاء الانسان رهن وهم الاعتقاد الخارق كمحارب شرس خطيئة كبرى. واليمني محارب فعلاً، لكن سرعان ما ينقض على مكتسباته المشيدة ويبعثرها.

 

الجبال غير المتصالحة مع البحر


قرى معلقة في حجة قرى معلقة في حجة بعدسة عبدالرحمن الغابري

واذا كانت "الطبيعة" و"الطبع " سمتان يكتسبهما البشر بدهياً من البيئة والمكان الذي نشأ فيه، فإن اليمني بطبعه عنيد، يخوض جهاداً مع الطبيعة الصعبة بما هي جبال ووديان سحيقة وهضاب وسهول لا يغذيها نهر ولا تستقر على رؤوسها الحواضر وتتسع. وهو خائف على الدوام من نقص احتياجاته ومن البحر والمدن ومن الغرباء، ومتأهب بطبعه الجبلي، للقفز على أي مدينة ناشئة على السهول والسواحل شديدة الأهمية او على قيعانه الزراعية في الهضاب.

لم تنشأ أي علاقة ودية مكتوبة بين اليمنيين والبحر في تاريخهم، حيث لم نعثر على مدينة ساحلية كاملة على شاطئين طول شريطهما 2500كم. ولم نعثر على قصيدة غنائية أو أدب له علاقة  بالبحر وامواجه الساحرة. واذا كان الشاعر اليافعي يحيى عمر (4)، الذي عاش في القرن السابع عشر، قد غنى:

يا مركب الهند أبو دقلين.. يا ليتني كنت ربانك

باعبر بك البحر والبحرين.. واحمّل المال في خانك (5)

شبام حضرموت شبام حضرموت (بعدسة عبدالرحمن الغابري)

فإن هذه الابيات ليست سوى استثناء لحالة فردية مؤقتة، لمسافر عبر البحار، ضمن هجرة الشاعر الاجبارية، بسبب حرب القرن السابع عشر الكبيرة، حيث قاد جيوش المتوكل إسماعيل، ابن اخيه أحمد بن الحسن (6) الملقب بـ"سيل الليل".

خاض "سيل الليل" حرباً طويلة في "يافع"، ثم صاهر القبيلة في النهاية، وساق رجالها الى "حضرموت" ضمن جيشه الجرّار وعبر بهذا الجيش صحراء شبوة"، فمات المئات منهم عطشاً. كان يحيى عمر اليافعي والقعيطي ضمن هذا الجيش، لكن سرعان ما هاجر الشاعران (القعيطي ويحيى عمر) عبر البحر الى مدينة حيدر آباد" الهندية (7).

المدينة الخائفة لا تنجز حضارة:


لم يقدم لنا رسامو القرون الثلاثة الماضية، الحواضر اليمنية؛ عدن، تعز، وصنعاء، المكلا، المخا، وذمار وباجل، مثلاً في هيئة مدن العصر الحديث لا في تصميم شكلها ولا في مضامين وعيها الحضاري الراسخ ثقافياً وإدارياً، وتنوع وظائفها باعتبارها مدن ومراكز حضارية يطمئن اليها التجار ويقصدها آلاف الزائرون والهواة. لماذا؟
جولات الصراع في القرن العشرين دمرت ميناء "المخا" 5 مرات ومثله بقية المدن الصغيرة في تهامة.

رغم ان الانسان موجود على هذه الأرض منذ آلاف السنين لا شرطة ولا قانون عصري يدير مدينة مثل صنعاء، حتى منتصف السبعينيات الفائتة.

وبالنظر الى تعز في الخمسينات من القرن نفسه، فإن حالها لا يختلف كثيراً عن أي قرية يمنية كبيرة ودائخة كانت "المخا" أفضل وأوسع بأبواب منفتحة على العصر، مدينة وميناء ذائع الشهرة تجارياً طيلة القرن الثامن عشر، لكن هذه القيمة الحضارية لم تصمد.. فما ان بدأ وهج عصر الثورة الصناعية والمدن في أوروبا يسطع ويضيئ بأنواره كافة مدن العالم حتى بدأ ضوء مدينتنا يخفت وأحلام هذه الجوهرة الطرية تتلاشى على ساحل البحر الاحمر تحت وقع ضربات العنف المتلاحقة.

دمّرت وأحرقت جولات الصراع التي شهدها السهل التهامي (القرن التاسع عشر) طيلة عقود: العشرينات والثلاثينات والاربعينات على التوالي (8) الكثير من المدن التي انعشتها القهوة و"البن" المتدفق عليها من الجبال ليُساق الى "المخا" ومنها يسافر الى أقاصي الأرض كسلعة عالمية ثمينة.

الاغارات والحرب دمرت "المخا" 5 مرات (و)، لتخسرها اليمن كمركز حيوي ناشئ كانت تقصده مئات الشركات الكبيرة. وطالت المأساة نفسها مدن صغيرة أخرى: "باجل" و"بيت الفقيه" و"زبيد" و"حيس".

كانت هذه المدن التهامية الصغيرة تلعب دور الوكيل الحصري تجارياً لصالح "المخا"، أو بمعنى أدق تقوم بدور الوسيط بين البحر والجبل. لقد عمل تجارها كوسطاء بين مزارعي البن الجبالية وبين مكاتب الشركات وممثليها في مدينة "المخا".
من "باجل" و"القناوص" و"اللحية" كان الائمة القاسميون يستقدمون الى "صنعاء" المترجمون الهنود عندما يحل عليهم ضيفا قادما من أوروبا

ومن "باجل" و"القناوص"، كان الأئمة في صنعاء، يستقدمون المترجمين الهنود، عندما يحل عليهم ضيوفاً من أوروبا، كما فعل المهدي" صاحب المواهب عندما ابرم اتفاقاً مع ممثلي ملك فرنسا العظيم لويس الرابع عشر.

كان الإمام ذو السجدة الشهيرة (المهدي) (10)، الذي يحكم اليمن من داخل قرية صغيرة بدائية الشكل، شرق ذمار، يفتقر الى مترجم يمنى لفك وقراءة شفرة رسالة الملك. لقد أوصلوا اليه هدايا الملك، من بينها ساعة حائطية كبيرة ومرايا في قامة، انسان ووقعوا معه اتفاقاً تجارياً، وعادوا إلى "المخا" وبحوزتهم مئات الأكياس من أجود أنواع البن اليمني كهدايا مماثلة الى صديقه الملك (11). كان هذا هو اول اتصال تجاري لإمام يمني مع العالم الخارجي.

دمرت حروب القرن التاسع عشر التي جرت لاحقاً في السهل التهامي الخصيب كل شيء، ولم نعثر حتى على قصاصات من وحي قانون ميناء "المخا" التجاري الذي نظم حركة الصادرات والواردات على مدى أكثر من مئة عام.

لا بيانات ولا إحصاءات وثقت حياتنا المزدهرة يومها، وكم وكيف كانت تحط قوافل الجمال آلاف الأطنان من حمولات البن والصافي والعسل والسمن والجلود على دكة الميناء، ثم تعود محملة بالبضائع بأصنافها، وبالنقود أيضاً.

تعز - عقبة العرضي تصوير الألماني ويلي جوزيف ستيفن 1963 تعز - عقبة العرضي تصوير الألماني ويلي جوزيف ستيفن 1963 (أرشيف)

انتقلت الحركة التجارية النشطة لميناء (المخا) الى عدن، ورغم الاستقرار الذي حظيت به المدينة في ظل الاستعمار كأطول فترة سلام، إلا أن عين الجزيرة العربية (عدن) سرعان ما فقدت ضوءها.

في بضع سنوات تحت حكم فصائل الجبهة القومية الموحدة، اصابت رصاصة التأميم قلب المدينة واسواقها، ودفعت السياسة الاعتباطية رأس المال الوطني الى هجرة جماعية، حيث استقبلتهم مدن الخليج العربي ونقلت عدن خبراتها التجارية وما راكمته على صعيد الإدارة والتنظيم والفن الى "جدة" و"الرياض" و"الدمام" وسائر مدن شبه الجزيرة.

لقد سافرت احلامهم واموالهم بعيداً الى شرق اسيا والى الحبشة والهند، لنرى مع الأيام رجال أعمال من "حضرموت" و"يافع"، في صدارة المشهد التجاري المعاصر وحركة التنمية المتسارعة في كافة اسواق الخليج، وفي ماليزيا وسنغافورة وكبريات المدن الإندونيسية.

يتعين على اليمنيين اليوم أن يقرأوا التاريخ ضمن مادته الأولية وان يتأملوا الشواهد الحضارية مكتملة في سياقها، وهي مكتملة.
 صنعاء كمدينة موغلة في القدم ، مضت في العصر الحديث وسارت بدون شرطة ولا قانون حتى سبعينيات القرن الماضي، ومثلها "المخا" كميناء تجاري عالمي لم نعثر فيه على قصاصات من وحي قانونه التجاري الذي نظم حركة الصادرات والواردات لأكثر من مائة عام!

تحولت الهجرة والاغتراب للعمال اليمنيين، عوضاً عن عدن الى المملكة العربية السعودية شمالاً، بينما بقيت عدن وصنعاء مركزين متقاطعين، يستقبلان المعارضين السياسيين لكليهما، الذين تحولوا الى محاربين بالوكالة داخل تباينات وتقاطعات فترة الحرب الباردة. كانت "عدن" في الخمسينات تضج بالغناء والفنون والصحافة الحرة، وبالعمال. وفي العقود اللاحقة، تحولت هذه الحياة بمدنيتها الزاهية، الى جراش واسع يدرّب مئات المحاربين، ثم الى ساحة صراع مسلح يصفي الخصوم والرفاق معاً.

وإذا كانت مدينة صنعاء، قد خُرّبت وحوصرت في القرن المنصرم، سبع مرات (11)، ومات المئات من سكانها جوعاً، وتشردوا خوفاً الى الأرياف وأكلت بعضهم السباع والوحوش كما ان حصار الأعوام 1890 ، 1904 ، 1905 فإن هذا التهديد المتواصل لقيم المدينة وإرثها الحضاري لا يزال قائماً؛ اذ يعيش أهلها وقد صارت مترامية الأطراف اليوم، رعباً وخوفاً وحصاراً متواصلاً منذ 2011، واندلعت مواجهات مسلحة في بعض احيائها واسواقها التجارية المهمة، (2011، 2015، 2018)، لتكون بذلك أطول حالة خنق في تأريخ هذه المدينة الجبلية الفريدة.
تخربت صنعاء في القرن الـ20 سبع مرات ومات المئات من سكانها جوعاً وتشردوا الى الأرياف وأكلت بعضهم السباع الوحوش!

بلغت المأساة ذروتها اليوم، عندما انقطعت رواتب الموظفين الحكوميين منذ 2016، وتلاشى وهج وحيوية الطبقة الوسطى، التي ازدهرت على امتداد خمسة عقود. وبانت المدينة تعاني انعدام الكهرباء والوقود واختفى الغاز المنزلي، وحل بدلاً عنه الحطب المجلوب من البوادي الذي صار الوسيلة البديلة الذي تضج به المطابخ والافران، منذ 7 سنين في تهديد وجودي للشجر ومناطق الرعي في الريف اليمنية التي تباد بفؤوس التحطيب الجائر والوضع لا يختلف كثيراً في عدن والحديدة وتعز وغيرها. اكتسبت صنعاء في العقدين الأخيرين معالم شكلية لمدينة عصرية، من حيث عمران المؤسسات والمباني الحكومية، بتشكيلاتها الهندسية المتناسبة، وبنائها الحجري الفريد وبواباتها وأحواشها الشاسعة، لكن معظم هذه الأصول طالتها لعنة الخراب.

كان نصيب قطاع الإعلام الأوفر حظاً؛ فمبنى وزارة الإعلام شبه مدمر، ومثله مبنيي المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون بالحصبة التي تضررت فيها وكالة الانباء اليمنية سبأ" بشكل فادح في مواجهات آل الأحمر وقوات الحرس (12)."

وقصفت الصواريخ الشديدة موقع تبة التلفزيون المطل على شارع عمران، وايضاً الصالة الرياضية الكبرى والاستاد الرياضي المقابلة له. ولم تبق في وضع آمن وزارة الاتصالات وملحقاتها، حيث قصدتها صواريخ الـF16، مؤخراً. وتضررت كثيراً وزارة الاشغال العامة والطرق، وتم تدمير جهات واسعة من مجمع العُرضي" كمنشأة تأريخية محاذية لسور أقدم البيوت الأثرية في مدينة صنعاء التاريخية ثم ان القصف أجهز بشكل كلي على شموخ القصر الجمهوري المهيمن على فضاء المدينة كأحد أجمل المعالم السياسية والتأريخية للدولة في العهدين الملكي والجمهوري.

 

"صعدة" الزراعية لا تعشق العسكرة


إن مدينة كـ "صعدة" تشهد حركة عمرانية مفرطة، في ظل الحرب، لماذا يتم النظر إليها باعتبارها "المبتدأ" في الصراع، دون النظر إليها باعتبارها "الخبر" ايضاً.
يجري التركيز على "صعدة" باعتبارها "المبتدأ" في الصراع دون النظر اليها باعتبارها "الخبر" ايضاً؟!

وإذا كان البعض ينظر الى صعدة، كمحراق انطلقت منه الشرارة الأولى للحرب القائمة، فيجب إنصافها على الأقل، كمدينة يمنية قديمة درس فيها فيلسوف اليمن الأكبر، أبو الحسن الهمداني (13)، الذي ولد بصنعاء ونشأ في شمال الشمال. وفي صعدة انجز أبو الحسن، في جملة أعماله، ما يمكن اعتباره أفضل انتاج للعقل العربي، في القرون العشرة الفائتة، على مستوى التفكير الموضوعي، القائم على النقاش والتأمل والملاحظة والفحص.
غالبية صعدة فلاحون يعشقون ارضهم الخصيبة حيث لم يحدثنا التاريخ انهم كانوا ميالون للغزو الى أماكن بعيدة في عصور الأئمة!

كان فيلسوف اليمن في القرن العاشر الميلادي يتنقل مشياً على الاقدام داخل بيئات مختلفة ويتأمل النبات والمناخ والطبائع، ويمتدح المدن، ويسأل الغرباء، سعياً للوصول بأبحاثه الى نتائج عملية فريدة.

تأسست صعدة في العصر العباسي الأول، ضمن الجيل الثاني من المدن العربية حديثة التشكل التي استلهمت بغداد كمركز سياسي وعاصمة عالمية مستنيرة. كان تأسيسها، يتوازى زمنياً مع "زبيد كمدينة اختطها محمد بن زياد على السهل التهامي، بجانب وادٍ يشبه في القليل من ملامحه نهر دجلة" العظيم.

واشتهرت "زبيد"، ليس فقط كعاصمة سياسية، ولكن سمعتها الأبرز كمركز ثقافي، مواز لما أنتجته مدن عربية كـ"البصرة" و"الكوفة" و"الإسكندرية" و"بغداد" من معرفة. ومن "صعدة" و"صنعاء" جاء، الهمداني صاحب الاكليل، وذهب الى كل هذه العواصم الثقافية، ليخبر العالم

عن "صفة جزيرة العرب"، كأول بحث مسحي طوبوغرافي داخل هذه الجغرافيا الشاسعة. وفي "زبيد" كان أحمد بن موسى الجلاد عالم الرياضيات الشهير، يدرس الجبر، مبتكراً لطلابه قواعد جديدة ثابتة زمنياً، تشمل الهندسة الرياضية والتحليل ونظرية الاعداد والتبادل والتوافق. وفيها ألف كتاب " أصول الجبر والمقابلة، حيث كان بارعاً في الجبر والفلك والمساحات وسائر العلوم العقلية (14).

في المحصلة، لا "صعدة" ولا "زبيد" ولا "صنعاء"، استطاعت أن تصمد ضمن مناخ طويل من الاستقرار التام المستثنى من دوامة العنف المتجددة باتساع الزمن. كما ان الهمداني، لم يسجن في "صعدة" فقط بأمر الامام الناصر (الزيدي)، بل ايضاً رموه ملوك "بنو يعفر" الحميريين، مقيداً في سجن صنعاء ليقضي فترة أطول هناك، حيث لم يخرج الا بوساطة رجال خولان بن عامر (15).

يجب التفريق من الناحية البنيوية، بين "صعدة" كمدينة صغيرة وبينها كريف بتضاريسه الجبلية (خولان وجماعة)، والصحراوية (همدان) وائلة)، مع خصوصيات ثقافية وقبلية شأن أي بلدة يمنية؛ حيث لا لهجة واحدة يتخاطبون بها، ولا نمط موحد لما يرتديه سكانها شرقاً وغرباً وشمالاً، من الثياب.

غالبية "صعدة"، فلاحون، يعشقون أرضهم الخصيبة، حيث لم يحدثنا التاريخ أنهم كانوا ميالون للغزو الى أماكن بعيدة في اليمن في عصور الإمامة من النادر جداً أن نجد رجالها بكثرة، ضمن الموجات المتتابعة لجنود الأئمة القاسميين، الذين اكتسحت جيوشهم كل جهات اليمن في العصر الحديث واستقر الكثير من عمالهم في أخصب القيعان.

ومثلاً؛ لا وجود لـ"صعدة" في تأريخ ما استقر اليمنيون على تسميتهم بـ"النقايل" الذين نزلوا في هيئة عمالاً للإمام أو قادة لمجاميع مقاتلة، أو انتقلوا الى "اب" و"وصابين" و"عتمة" و"رداع" "العدين" و"يافع" و"وادي" تُبن، تحت ضغط الجوع من مناطقهم القاحلة، ثم حلوا مع الزمن كملاك كبار للأراضي الخصبة داخل هذه المنطقة الزراعية الوسطى من اليمن (16).

يا هارب من الموت ما بش من الموت ناجي ويا هارب من الجوع اهرب سهول ابن ناجي". تعرف اليمن هذا المثل ودلالاته المفسرة للدوافع الطبيعية والنفسية التي ركزت على "اب" الخضراء التي تجود حقولها الزراعية بـ "الذرة" الوفيرة

 

حيث تنسكب على قيعانها وأوديتها أكبر كمية امطار في الجزيرة العربية، وكيف مثلت غيرها من المنطقة الوسطى، ملاذاً للجائعين من عموم اليمن عبر العصور. هذه هجرات وانتقالات طبيعية حصلت في كل بقاع الأرض، فالـ" الجرمان؛ الفاندال والقوط، كقبائل محاربة كانوا يغزون سهل "الغال" الخصيب، ثم استوطنته الكثير من هذه الاسر المحاربة التي فضلت أن تعيش على الراين، ثم اندمجت الأجيال في النهاية مع السكان المحليون، مشكلين معاً الأساس المستقبلي لوحدة الأمم الأوربية.

ان "صعدة" كمجتمع واسع ومتنوع، لا يعشق العسكرة، حيث من النادر جداً، ان نجدها حاضرة بكثرة ضمن تشكيلات الوحدات العسكرية الحديثة. والحال نفسه في حضرموت الساحل". ويافع" و"تهامة" و"وادي" "عبيدة" و"العدين" و"الحجرية" في تعز.

والانتماء للجيش ليست ميزة أو نقطة تفوق على أولئك المتشبثين بالأرض الخصبة يحرثون ويزرعون ويأكلون منها. فقد كان أغلب المقاتلين في سلطات القرون الأخيرة، يعيش في مناطق قاحلة، مناخها خفيف المطر، وانتاجها من الذرة أقل، مثل "برط" و"أرحب" و"نهم" و"خولان العالية" و"الحداء"، أو لأن مدرجاتها وحقولها الزراعية الجبلية ضيقة ولا تكفي حاجة السكان وكثرتهم العددية كـ " آنس الغرب"، و"الحيمتين" والاجزاء الشرقية والشمالية من "ريمة" القفر" و"الصبيحة" و"ردفان".

 

"حاشد" الجديدة في قلب المدن


هناك متغيرات جديدة، يمكن قراءتها في سياق من التفاؤل الإيجابي وسط كل هذه الأدخنة. ف"حاشد" في عمران كأشهر قبيلة يمنية كان افرادها يرقصون على وقع الطبول في جبهات الحروب، بات الآلاف من شبابها اليوم ينافسون داخل سوق العمل والتجارة، مجتمع ضليع بالمهن وحركة البيع والشراء كـ"الحجرية" في "تعز" و"وصاب العالية".
"عمران" كمدينة صغيرة باتت تشهد حركة عمرانية مفرطة وأريافها المتوزعة بين"حاشد" و"بكيل" يتنافس شبانها اليوم ضمن إطار جديد: في قلب الحركة التجارية والأسواق، بينما "تعز" المدنية انتكست عندما اتجهت الى السلاح والعنف!

ينشط الجيل الجديد من هذه القبيلة حاشد" اليوم، في تجارة الموبايل ومستلزماته، وفي قطاع تجارة الأدوية والمقاولات وهي مجالات مربحة، حتى كادت ان تصبح احياء وشوارع بأكملها في الجزء الشمالي من مدينة صنعاء حصرية ومغلقة، على شبان تعود أصولهم الى "خارف" و"السنتين" و"خمر" و"ريدة" و"العصيمات".

واذا كان شارعين رئيسين مزدهران بحركة البيع والشراء في مدينة صنعاء، (شارع "جمال" و"هايل" لتجار غالبيتهم من تعز، فإن شوارع جديدة تزدهر اليوم بطبقة تجارية ناشئة وبقوة ينحدرون من حاشد" وعمران: شارع القصر، شارع القيادة، والصياح.

بالتعمق أكثر وبالتدقيق والملاحظة في ما يمكن ان نتخيل وجوده ذهنياً؛ "سجل الأحوال المدنية"، فإن اغلب صغار التجار الجدد نجدهم شبان ولدوا داخل مدينة صنعاء، في عقود الثمانينات والتسعينات وما بعدها، لآباء وفدوا من الريف ضمن محاربي ثورة سبتمبر، مطلع الستينات أو بعدها واستقروا في المدينة. هل هذه إحدى فضائل المدن التي يمكن من خلالها النظر الى التحولات الكبيرة التي يشهدها المجتمع اليمني، نحو التنمية المستدامة؟ يبقى نجاح واستمرارية كل هذه التحولات مرهون بدولة تضمن لهذه الشرائح مصالحها، وسوف لن يكون ذلك مواتياً إلا اذا استقرت هذه الدولة وواكبت كل هذا التطور النشط.

 

وبالنظر الى الحالة الراهنة لـ عمران، كمحافظة تضم حاشد وبكيل، فإن مر كزها الإداري، يشهد حركة بناء سريعة، ضمن صيت التنافس في جني أرباح حركة البيع والشراء، التي حققت نجاحات مذهلة، ينتقل صيتها الى الريف وتروى على شكل تجارب وقصص نجاح في أوساط الشباب عن أقرانهم الذين جربوا فكرة التجارة وكسبوا.

وفي "عمران" نلحظ ايضاً؛ ان تجمعات حضرية صغيرة مثل "ريدة" و"خمر"، بدأت تستأنف نشاطها وتسير بدقائق الزمن نفسه التي تتسارع فيه مع حركة البناء والعمارة النشطة لمدينة "عمران" التاريخية، واخذت في الزحف على حساب الزراعة، داخل حقل "قاع البون" الواسع والأكثر خصوبة.

الرؤوس الصاعدة من خلف "غيمان" و"عيبان" و"النبي شعيب": على اعتبار ان القبائل المحيطة بصنعاء، أكثر المناطق اليمنية التصاقاً بوظائف الدولة المباشرة كـ "الجيش" مثلاً، فإن رؤوس الأموال لبعض أسر هذه القبائل الصاعدة، بانت مركز جذب وإلهام للكثير من شباب القبيلة المتجهين نحو المهن والوظائف المدنية الحديثة.
ينظر الناس اليوم الى "الرويشان" في "خولان" ليس باعتباره زعيماً قبلياً فحسب ولكن ايضاً ؛ لاعتبارات جديدة: رجل اعمال ناجح يملك بنكاً ووكالة سيارات وبحوزته سوق يستجلب افضل ماركات الملابس والأحذية العالمية

إننا في لحظة بات فيها الرويشان"، هو الرمز الأول في قبيلة "خولان"، ليس باعتباره شيخ وازن ومكانته الاجتماعية رفيعة، وإنما لاعتبارات جديدة رجل اعمال ناجح صار يملك بنكاً ووكالة سيارات وفي حوزته سوق يستجلب افضل ماركات الملابس والأحذية العالمية.

وفي همدان" و"أرحب" يبرز "الكبوس" و"الرجوي" و"الحباري" و"الرحبي" و"غمضان" و"الأكوع" والعشرات مثلهم، الذين برزوا الى صدارة رأس المال الناشئ والصاعد بثبات ودأب، حيث تستوعب شركاتهم آلاف العمال والموظفين الإداريين، يتحدر الغالبية منهم من مناطقهم نفسها، ضمن ترتيبات محايدة متفق عليها في الشغل تتم بعقود رسمية حديثة ومعمدة، مستلهمين في تنمية هذه الثروة، تجارب البيوت التجارية الكبرى في اليمن هائل سعيد انعم كأنصع الأمثلة. لكن ما هو الوضع القائم داخل "تعز" اليوم؟

"تعز" المدينة والارياف التي انزلقت في بؤرة السلاح والفوضى، وهي التي دفع 40 رجلاً من شيوخها، ارواحهم عندما رفضوا الانصياع للتحشيد والحرب في مناطقهم، لصالح أي طرف سنة 79. هل انزلقت تعز الى غير رجعة، في دوامة العنف، وتخلت عن مكانتها على ناصية المشهد الثقافي والتجاري في البلاد لأكثر من نصف قرن؟ ربما.

 

المهن لم تعد "عيباً".


من خلال جولة قصدت بها "المعاهد الفنية المهنية" في مدينة صنعاء، التي لم تكن محل اقتناع لدى الغالبية الساحقة من شباب اليمن للالتحاق بها. لقد تغيرت القناعات: بات الإقبال عليها يتضاعف في السنوات الثلاث الأخيرة، حسب إفادات المسئولين الإداريين في "المعهد الصيني بحدة" و"المعهد المهني بشارع بغداد الذين اشتكوا فقط من قلة وانعدام المواد وتوقف دعم المانحين.

كانت هذه المعاهد مدعومة من الصين واليابان وألمانيا الإتحادية بكل تجهيزاتها المادية والنظرية بما في ذلك رواتب المعلمين والمنح للطلاب المتفوقين ما يلفت الانتباه ان اغلب هؤلاء الطلاب الذين يتعلمون النجارة والحدادة وأساسيات الميكانيك وكهرباء السيارات والشاحنات الكبيرة، والتحكم الصناعي، يحملون ألقاباً لأسر معروفة قادمة من عموم البلاد.

دوامة الحرب الأخيرة حرّكت الكثير من مياهنا الراكدة. والحقيقة ان ظاهرة الاندماج الاجتماعي تتعاظم كل يوم في اليمن المتحارب، بفضل استحقاقات العصر واحتياجاته الكبيرة أولاً، وكثمرة مستحقة للاستقرار الجزئي التي عاشته الدولة والمدينة معاً في الثلاثة العقود الأخيرة ثانياً، وليس بفضل الحرب الملعونة.

زلزال الحرب الذي خلق الاعتراف بفضيلة "الدولة الدائمة": اكتسبت الحرب اليمنية الراهنة هذه المرة خصوصية شاملة مختلفة عن سابقاتها من النزاعات. الحرب الجارية، طمرت كامل الفضاء اليمني، وتألم منها كل بيت، ولا يمكن للنازحين والهاربين منها اليوم الى خارج الحدود ان يكونوا في وضع أفضل من الثابتين في أماكنهم. تجري الحرب اليوم في السواحل والجبال وفي الصحاري، وامتدت الى الجوار، كما لو انها زلزال عظيم لا تزال ارتداداته تضرب سائر جغرافيا شبه الجزيرة. لقد بدأت السعودية نفسها، تبحث عن موارد بديلة، ضمن استراتيجية طموحة: "سعودة المهن".

ان اتساع مصالح الناس، وتشابكها الهائلة، يرغم الجميع على التفكير بالإدارة وبالتساؤل عن أفضل الصيغ التحكيمية، التي لا تحتمل سوى إجابة واحدة حصرية: الدولة الدائمة.

قديماً قال ابن خلدون ان الدولة، هي أعلى مراحل التضامن الاجتماعي (17). وفي القرن الثامن عشر، أخذ مونتسكيو، يضع الآليات والقواعد العملية للفصل بين السلطات، وكان همه الأول" كيف يؤسس لدولة تدوم " (18). هذا السؤال العملي، هو الذي يدور، في رؤوس، ليس فقط النخبة اليمنية، بل في اذهان غالبية شرائح المجتمع اليمني وفئاته.

في كل عمل تتحكم الإرادة البشرية في نصف النتيجة، ويظل النصف الآخر موكولاً الى الحظ، طبقاً لفلسفة بناء الدولة عند ميكافيلي، لكن هذا الفرضية على وجاهتها، لا تنطبق على اليمن بخصوصيته، على الأقل في لحظتها الراهنة. إذ يمكن القول ان التاريخ اليوم في هذه البلاد يجري لصالح مستقبل قادم للدولة بمعناها الواسع، حيث تنمو لأسباب موضوعية ومادية ووظيفية، وتنهار بالأسباب نفسها التي لم تستطع أن تواكب الظروف"، طبقاً لمنطق مونتيسكيو.

يتعين على اليمنيون اليوم النظر الى كل هذه المآلات بعيون واعية لأسباب وعوامل تجدّد النزاعات في بلادهم. ثم ان الحرب القائمة في البلاد منذ 7 سنوات هي الأكبر والأشمل والأكثر فداحة. فهل تكون آخر حروبهم؟ الكثير يأملون ذلك.

 

الهوامش:


(۱) المدن الحضرمية المكلا، سيئون، الشحر، تريم.

(۲) 1 - راديو ميتشغان: التأريخ المجهول للبحارة اليمنيين في منطقة البحيرات العظمى بتأريخ 29 ابريل 2019 الساعة

4:44 مساء بتوقيت شرق الولايات المتحدة، دكتورة سالي هالي أستاذة مشاركة في التأريخ في جامعة ميتشغان.

2 - سجل كاتب المادة شهادات لأشخاص يمنيين مقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية والتقى عائلات الجيل الثالث من هؤلاء العمال لدى زيارته لولاية ميتشغان ( ديترويت - ديربون - هامترامك) بتاريخ يناير 2014 في زيارة للولايات المتحدة ضمن برنامج الزائر الدولي. وقد زار الكاتب متحف هنري فورد بديربون واطلع على الكثير من المعلومات والصور الموثقة للعمال اليمنيين. راجع) تقرير شامل لكل هذه التفاصيل في مقال بعنوان هجرات اليمنيون الصامتة للكاتب علي الضبيبي، موقع خيوط" بتاريخ 1 يونيو 2020.

(۳) "الجزيرة الوثائقية": اليمنيون في بريطانيا. تاريخ - 2015 ايضاً راجع مقال منشور بجريدة "الشرق الأوسط" بعنوان: أسماء يمنية على نصب تذكاري في ليفربول للكاتب محمد جميح.

(4) يحيى عمر اليافعي (أبو معجب، هو شاعر غنائي يمني ومطرب، عاش في القرن الــ 16- الميلادي، وينتمي الى قبيلة يافع المعروفة، ثم نزح اضطرارياً من بلاده الى حضرموت ضمن جيش المتوكل على الله إسماعيل، ومن حضرموت هاجر غبر البحر الى الهند (بدر) بن عقيل " ابحار في شعر يحيى عمر اليافعي - دار النشر: مكتبة خالد بن الوليد - صنعاء "بتصرف").

(٥) كلمات أغنية يمنية تراثية من اللون اليافعي غناها العديد من الفنانين اليمنيين مثل (محمد القديمي، وعوض المسلمي، وإبراهيم الماس)، ثم غنوها لاحقاً بنفس اللحن بعض فنانوا الخليج العربي مثل ( عبدالمنعم العامري، وعلي بن محمد وآخرين). والأغنية مطلعها: يحيى عمر قال قف یا زین سالك بمن كحل اعيانك.

(٦) أحمد بن الحسن بن القاسم محمد قائد جيوش الامام المتوكل إسماعيل ( حكم اليمن من عام 1644 وحتى 1676). تولى الحكم بعد وفاة عمه المتوكل وتلقب بالمهدي وكان مركزه حصن الغراس" شمال شرق صنعاء بمسافة 20كم، ودام حكمه من سنة 1676 الى عام 1681 بتصرف من كتاب تاريخ اليمن الحديث والمعاصر، تأليف الدكتور حسين العمري - دار الفكر المعاصر بيروت صفحة 65). (۷) المصدر نفسه

(۸) راجع الكتب التالية: التأريخ العالم لليمن المؤرخ محمد بن يحيى الحداد، المجلد 2 صفحات 128-127-126.. كتاب الدكتور حسين العمري مائة عام من تاريخ اليمن صفحة رقم 102 101

(۹) 1- المدافع الإنجليزية الكبيرة تقصف المخا من البحر سنة 1817 (راجع التاريخ العام لليمن. الحداد- مجلد 2 صفحة 126.

2 - عام 1820 (بعد عامين من القصف (الأول) الاسطول الإنجليزي بقيادة الكابتن "لوملي" يقصف مدينة المخا والجنود الانجليز ينزلون الى اليابسة مكتسحين المدينة فاضطر الإمام في صنعاء ان يعزل حاكم المخا ويستبدله بآخر (المرجع السابق). 3- القوات المصرية تسيطر على المخا بقيادة "خليل" "باشا" وتنتزع تهامة بأكملها من الشريف" حمود ابي مسمار" قادمة من "الدرعية معقل الوهابية بعد تدميرها المرجع نقسه).

4 - الضابط التركي "بلماز" يتمرد في "جدة" وينسحب الى تهامة في عملية اجتياح شاملة تخللها نهب وحرق لكثير من المدن التهامية وصولاً الى المخا التي اكتسحها بحرب وتمركز فيها (1833).

-5 أمير عسير علي ابن مجتل بتنسيق مع القائد المصري إبراهيم باشا يخوض حرباً مع " بلماز" ويحاصره في المخا ويجبره على الهروب بحراً الى البصرة مخلفاً دماراً كبيراً في المدينة. بعد سنيتن قوات إبراهيم باشا تصل المخا وتلتحم بأمير عسير ثم تنسحب بعد 5 سنوات (1840).

(۱۰) هو الامام محمد بن أحمد بن الحسن (حكم اليمن من سنة 1686 وحتى (1718 وتلقب بالناصر ثم المهدي ثم الهادي وهو نجل المهدي احمد بن الحسن. ويعرف بصاحب المواهب نسبة الى القرية المواهب " - شرق مدينة ذمار، التي اتخذها عاصمة لحكمه. وفي عهده از دهر ميناء المخا وتجارة البن (مائة عام من تاريخ اليمن، دكتور حسين العمري).

(۱۱) (1 حصار صنعاء عام 1890 احمد بن قاسم حميد الدين يطوق صنعاء من جهتها الشمالية بقوات ضخمة بأوامر ابن عمه الامام المنصور محمد بن يحيى، الذي يقود ثورة واسعة النطاق متمرداً على سلطة الاتراك ومتخذاً من قفلة عذر الحاشدية مقراً له راجع كتاب الواسعي تأريخ اليمن المسمى فرجة الهموم والحزن - مكتبة الارشاد صنعاء صفحات: من 266 وحتى (274).


عام 1903 الامام يحيى يحاصر صنعاء أشهراً ويجبر الاتراك على الانسحاب الى مناخة (المصدر نفسه صفحة 2 (295 294 293 و3 الوالي العثماني احمد فيضي باشا يتقدم من الحديدة بجيش كبير لاستعادة صنعاء التي تحاصرت مجدداً ويجبر الامام يحيى على الانسحاب الى شهارة (المرجع نفسه صفحة (296).


-4- حرب شعوب سنة 1910 استخدمت فيها المدفعية واستمرت اياماً بين الاتراك والقبائل اليمنية (المصدر نفسه صفحة 306).


5 - الامام يحيى يحاصر الوالي العثماني محمد علي باشا في صنعاء بقوات كبيرة من القبائل تعرضت فيها المدينة لمجاعة شديدة 1912 (المصدر نفسه صفحة 304 و305).


6 - 1948 الامام أحمد يقتحم بقبائل حجة وعمران مدينة صنعاء ويأمر بنهبها انتقاماً لمقتل والده الامام يحيى ويسقط الانقلاب مستعيداً الحكم من يد عبدالله الوزير.


7 - حصار السبعين يوماً بعد خمس سنوات على قيام ثورة 26 سبتمبر 1962 وتطويق القوات الملكية لها من جميع الجهات بعد انسحاب القوات المصرية المساندة للثورة اليمنية.


(۱۲) مشاهدات ميدانية للكاتب، حيث زار بنفسه كل هذه المنشآت المدمرة الكاتب يسكن في صنعاء).

(۱۳) هو أبو محمد الحسن بن احمد بن يعقوب بن يوسف بن داوود بن سليمان الهمداني (280) - (336)، عالم ومؤرخ شهير وشاعر وجغرافي. من مؤلفاته " الإكيل 10/ج - الجوهرتين العتيقتين 2 / ج - - صفة جزيرة العرب سرائر الحكمة وغيرها).

(١٤) مجلة الفيصل، العدد 354 ذو القعدة 1425

(١٥) هجر العلم ومعاقله في اليمن، المؤرخ إسماعيل الأكوع (بتصرف).

(١٦) لم يعثر الكاتب في كتب مؤرخي القرون الثلاثة الأخيرة في اليمن على أي حادثة غزو لقبائل من صعدة الى مناطق اليمن الخضراء الزراعية وسط اليمن كاب ووصابين وريمة وآنس وغيرها.

(۱۷) مقولة مأثورة تنسب الى المؤرخ العربي الشهير ابن خلدون.

(۱۸) مونتسكيو تأملات في تأريخ الرومان - أسباب النهوض وعوامل الانحطاط صفحة 11. ترجمة عبدالله العروي - المركز الثقافي العربي.

 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً