صنعاء 19C امطار خفيفة

السعودية وتصدير ابتكاراتها إلى اليمن

2008-05-29
السعودية وتصدير ابتكاراتها إلى اليمن
السعودية وتصدير ابتكاراتها إلى اليمن - عبدالباري طاهر
قبل أسابيع ذهب وفد من الوعاظ والفقهاء إلى رئيس الجمهورية مطالبين بتشكيل هيئة أمر بمعروف ونهي عن منكر مطلقين عليها تسمية «تنمية الفضيلة».
وترأس الوفد عبدالمجيد الزنداني رئيس جامعة الايمان، وأحد زعماء التيار السلفي المتشدد، والقريب من دوائر «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» السعودية.
قامت الهيئة في العربية السعودية كتحالف سياسي بين شيوخ العشائر من آل سعود والدعاة الوهابيون من آل الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ورغم أن نفوذ آل الشيخ قد امتد إلى التربية والتعليم والقضاء، ونشر الدعوة الوهابية خصوصاً في البلدان الفقيرة: السودان، الصومال، اليمن، افغانستان والباكستان، إلا أنها أيضاً قد أصبحت جزءاً رئيساً من الشرطة الدينية والمخابرات السعودية.
وتدلل الاعمال الابداعية السردية، ووقائع الاعتقالات والمداهمات للمفكرين والمبدعين وأصحاب الرأي في السعودية على الطبيعة الامنية لهذه الشرطة الدينية البوليسية. وإذا ما استثنينا تمرد فيصل الدويش مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي -وهو زعيم جماعة الاخوان- وتمرد جهيمان العتيبي في الحرم نهاية العام 79، واحداث 11 سبتمبر في امريكا، فإن التيار السلفي الوهابي مازال يمثل الحليف الاساس للدولة السعودية بل ويعتبر جزءاً رئيساً من نفوذها في أكثر من بلد، وبالاخص في اليمن وافغانستان سابقاً. أحداث سبتمبر فتحت عيون الحليف الامريكي على خطورة هذا التيار الذي دعمته في أكثر من قطر - لمحاربة التيارات اليسارية والقومية والشيوعية ومارست ضغوطاً على الحليف السعودي للتضييق على هذا التيار المكفراتي والخطر.
وتأرجح الموقف السعودي بين الضغط الامريكي وحليفها الذي يعتبر أهم أداة تبرير ايديولوجي وقمع سياسي وبوليسي أيضاً.
كانت اليمن هدفاً أثيراً لحملات الدعوة السلفية منذ الدولة السعودية الاولى، ولكنها لم تحقق أي نجاح يذكر إلا بعد انقلاب 5 نوفمبر 67. فقد سمحت الحكومة اليمنية للتغلغل السعودي في مختلف مناحي الحياة، وبالأخص في التربية والتعليم، والمناهج التعليمية وخطاب الجامع.
وتعتبر المعاهد الدينية، وفيما بعد معهد دماج في صعدة والمعاهد الاخرى في مأرب ومعبر وغيرها، ثمرة هذا النفوذ «المذهبي». وتعد جامعة الايمان إحدى قلاع التمدد السَّلفي في اليمن.
واليمن كمعقل من معاقل علم الكلام المعتزلي، ومذهبها (الزيدي، الشافعي) لا يميل إلى التكفير. فقد نص متن الازهار على: «لا نكير في مختلف فيه»، ويعتبر علم الكلام المعتزلي ذروة في التفكير العقلاني والجدلي، ومعروف قول الامام الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب»، وكان «صقر» مفتي الشافعية في بغداد هو من امتنع عن القول بكفر الصوفي الحسين بن منصور الحلاج قائلاً: «هذا رجل يتكلم في الباطن، وأنا لا أفتي إلا على الظاهر».
معركة صعدة ليست معزولة عن الآثار التكفيرية لمعهد دماج ودعوات المرحوم مقبل هادي الوادعي.
في الطفرة النفطية الأولى نشرت المملكة الوهابية والتدين البدوي النفطي في مواجهة الاستنارة الاسلامية، وبرز التشدد في بلدان متحضرة كمصر وتونس والجزائر، وظهرت فتاوى خرافية من نوع زواج الجني من إنسية والعكس، وإلقام المرأة ثديها للرجل الاجنبي ليجوز اختلاؤهم.
إن الملمح الأهم هو استنجاد الاستبداد السياسي بالاستبداد الديني، وتوظيفه لصالحه. والأخطر أنه كلما أشتدت أزمة النظام الفاسد، استنجد بالاسلام السياسي.
تجربة ضياء الحق في الباكستان والتحالف مع الرابطة الاسلامية في مواجهة المطالب الديمقراطية، وتجربة التحالف بين الامام جعفر محمد النميري والاسلام السياسي في البلدان العربية بعد مبايعته كأمير للمؤمنين، وسن قوانين سبتمبر التي أقامت الحدود في زمن المجاعة، وانعدام مياه الشرب في العاصمة المثلثة (الخرطوم)، أقامت الحدود على فقراء المسلمين المسيحيين وحتى الوثنيين العراة، أقامت حدود الزنا وشرب الخمر وحد السرقة. ولم يتوان الرئيس المؤمن أنور السادات عن التحالف مع الاسلام السياسي في مواجهة التيار القومي الناصري واليسار الماركسي، وبعد مظاهرات الجوع التي أطلق عليها انتفاضة الحرامية. ولم يلبث أن حج إلى القدس. وكان تحالفه مع الاسلام السياسي علامة انهيار حكمه.
 وفي حين قرأ «نافون» رئيس دولة اسرائيل حينها، وهو قارئ يجيد اللغة العربية ويحفظ القرآن الكريم «وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء، وجعلكم ملوكاً، وآتاكم مالم يؤت أحداً من العالمين. يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين» (الايتين 20، 21 المائدة). بينما قرأ الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الازهر: «وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم». (الآية 61 الانفال).
 ومزج الرئيس صدام حسين بين الاستعلاء الديني والعصبية العرقية ليصنع «الكيماوي المزدوج الحقيقي». فدمر العراق كله.
وقصة تحالف التَّيار السلفي مع السلطة في اليمن متشعبة ومعقدة. ففي مواجهة اليسار الاشتراكي وقوى التمدن والحداثة تحالف الحكم العسكري ذو الجذر القبلي مع الاسلام والتيارات السلفية ومكنها من التعليم والمناهج الدراسية. وحتى بعد التحالف مع امريكا في محاربة الارهاب فقد بقي الحبل السري بين هذه التيارات والسلطة. وحالات المد والجزر في العلاقة مرده إلى تشابك التحالفات مع قوى نافذة في الحكم.
وحقاً فإن حرب صعدة والاحتجاجات الجنوبية، وتفاقم أزمة الحكم تدفعه للتحالف مع هذه التيارات التي تمتلك التبرير الايديولوجي ذا المسحة الاسلاموية لدعم «ولي الأمر».
الحاكم المتصادم مع شعبه في أكثر من منطقة، والحكم الذي فشل في تأمين لقمة الخبز وشربة الماء، وفي بناء كيان دولة ومؤسسات حقيقية، وفصل بين السلطات، وكفالة الحريات العامة والديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير، هذا الحكم المتأكل الشرعية بأمس الاحتياج « لوعاظ السلاطين» وصناع الطغاة. فالاستبداد السياسي غالباً ما يوظف الاستبداد الديني. وتجارب المنطقة كلها تؤكد ذلك. إن هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بوليس ديني ينضاف إلى أجهزة قمع متنوعة ومتعددة لا هم لها إلا قمع إرادة التفتح والحرية والتسامح. فهؤلاء المبشرون بجهنم والمعادون للحرية والعدل والديمقراطية يستغلون الأزمة الشاملة، ويبررون جرائم الحكم، ويتغاضون عن الفساد المتغول في البلاد، ويحرصون على المزيد من الاحتراب وسفك الدم، وتعميق الصّراعات الطائفية والجهوية.
لائحة الحرام التي ينشرها منكروا المنكر تشهد على جهلهم بالواقع والحياة والدين معاً. فاليمن «غير السعيد» يعيش عام رمادة. فالأطفال يباعون بالمئات، والزواج السياحي شائع حد الظاهرة، والمرض والفقر والأمية متفشية، وحالات الثأر والاحتراب عملة متداولة.
دخول التيار السلفي في تحالف جديد قديم مع الحكم سوف يسعر الحرب في صعدة، وسيعطي لها أبعاداً طائفية واعتقادية تطيل أمد الفتنة والحرب.
داء اليمن الوبيل هو استخدام الدين سلماً للحكم وهراوة للقمع، وفرض رقابة على ضمائر الناس ومعتقداتهم.
إن هؤلاء يريدون أن يعطَو حقاً لم يعطه الله لنبيه «لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الاكبر» (الآية).
ويتذكر اليمنيون أنّ الامام أحمد بعد خلافه مع الزعيم جمال عبدالناصر ونشر الامام لقصيدته «نصيحة تهدى إلى كل العرب» في مطلع الستينات، قد استنجد بـ«المطاوعة» وبدأت الرقابة البوليسية الدينية من الحديدة. وهو ما يتكرر الآن بعد ما يقرب من نصف قرن. فالتاريخ لا يعيد نفسه، وإذا أعادها ففي صورة مهزلة. وكان الإمام أحمد حينها في الرمق الأخير من حياته.

إقرأ أيضاً