* تمتع السلطان محسن بحس حضاري، وقد أنشأ المدرسة المحسنية في لحج، وخصص ريع ألف فدان من أرضه لتحسين المدرسة
* لم يكن هناك أي تمايز بيننا نحن القادمين من الريف وزملائنا العدنيين
ولد عبدالحميد عبدالعزيز محيي الدين الشعبي في قرية «شعب»- الصبيحة، عام 1938. كان قد مضى على اندحار دولة الإمام يحيى عن مسقط رأسه نحو 5 أعوام. كانت قوات الإمام يحيى قد تمكنت من الحلول محل القوات التركية المنسحبة من اليمن، في 1919. وقد بسطت الدولة المستقلة الأولى سلطتها على الصبيحة ومناطق أخرى جنوبية باعتبارها قطعة من أرض الآباء والأجداد، بحسب المفردات المفضلة للإمام يحيى إذ يساجل العدو الخارجي (بريطانيا) في احقيته في حكم اليمن التاريخي.
تمخض الحلم الوطني (المتوكلي) عن كابوس محلي. فقد أغدق الإمام يحيى (البطل الاستقلالي لدى قوميين عرب وتنويريين في المشرق والمغرب العربيين) مكرماته على رعاياه الجدد، وفي الصدارة تعميم نظام «الرهائن» جنوباً. كان والد عبدالحميد (عبدالعزيز محيي الدين) أحد الأطفال الذين انتُزعوا من رعاية أسرهم، إذ أُخذ كرهينة إلى التربة (مركز قضاء الحجرية). والحال أن أبناء «شعب» تذوقوا الحكم الوطني المستقل باكراً.
وبعد 14 سنة فجّروا انتفاضة مسلحة ضده. انسحبت قوات الإمام بعد معارك دامية دامت أسبوعين، وبقي الحلم بحكم وطني ذي مذاق مختلف يراود أبناء «شعب».
كبُر عبدالحميد في كنف «شعب»، التي أخرجت العشرات من القيادات السياسية و«الحركية» الوطنية، وفي المقدمة قريباه: قحطان الشعبي، وفيصل عبداللطيف.
في 1957 غادر عدن إلى مصر، حيث ساقته محض تعقيدات فنية إلى مواصلة دراسته الثانوية فيها بدلاً من استئناف رحلته إلى العراق. وهناك استقطبه فيصل إلى حركة القوميين العرب، التي كانت تقترب من القيادة الناصرية باعتبارها -حسب أدبيات الحركة- القيادة الرسمية للحركة القومية العربية. وعندما قامت ثورة سبتمبر في شمال اليمن، تعززت فكرة الكفاح المسلح لدى الحركة التي كانت قد أعلنت منذ وقت مبكر يأسها من إمكان انسحاب البريطانيين من الجنوب بالوسائل السلمية. كان عبدالحميد سنتذاك طالباً في كلية الشرطة. وقد عاد بعد تخرجه إلى عدن، لكن لم يتمكن من الحصول على أية وظيفة. وقد غادر إلى القاهرة، ملتحقاً بقحطان الشعبي، الذي كان يدير حوارات ومشاورات مع شرائح مختلفة من أبناء الجنوب لإعلان جبهة قومية تتصدى للكفاح المسلح. وهما عادا إلى صنعاء، وشرعا في التحضير لحرب التحرير بعد طول عناء من أجل إقناع القيادة المصرية والسلطة الجديدة في صنعاء بدعم الكفاح المسلح ضد الانجليز. بعد ضوء أخضر من عبدالناصر، بدأ التحضير الفعلي لـ«الكفاح المسلح» في تعز. وقد أشرف عبدالحميد الشعبي مع آخرين على تدريب المقاتلين من أعضاء الجبهة القومية وأبناء القبائل. كان عضواً في المكتب العسكري، وكانت مهمته تقتضي أيضاً التنسيق مع المكتب العربي (المصري) في تعز، وتأمين انتقال المتدربين إلى الجنوب. كانت مهمة استثنائية لرجل ما يزال يصر على أنه شخص «عادي جداً». وقد انغمس، في تلك السنوات الفاصلة، في التفاصيل، فيما كان عديدون يحلقون وراء الوعد الكبير بالاستقلال الوطني الناجز. وقد رأى الرجل الـ«عادي جداً» الكثير من النقائص والمنغصات، وخبر معنى تحول الوعد إلى واقع، مستفيداً من شبكة علاقات واسعة ومعقدة. ومن موقعه القريب في تعز عاش الوحدوي «الشعبي» في الداخل الجبهوي وخارجه في آن.
كان في الشمال وفي الجنوب معاً. وكان «حركياً» مطلوباً لأجهزة المخابرات في تعز، وضابطاً مسؤولاً عن ملاحقة أعداء الثورة والنظام الجمهوري في مرحلة لاحقة. وإذْ أمكن للجبهة القومية أن تنجز هدفها الاستراتيجي في 1967، فقد توجب على عبدالحميد الشعبي أن يجرِّب مذاق الحكم الوطني في الجنوب بعد الشمال. ولئن خفَّف الوعد الكبير بالاستقلال من مرارات تجربته في تعز، فإن وعوداً كبيرة، أخرى خذلته لاحقاً، وآخرها وعد «الوحدة» الذي تنزل عام 90، ثم ما لبث أن تقزم في حرب 1994.
وبروحية مناضل «عادي جداً» يؤدي مهمة استثنائية تمكن من نسج علاقات في أكثر من اتجاه. فإلى قربه من قحطان وفيصل وغيرهما من قادة الجبهة القومية، أدار علاقات تنسيقية مع زملائه في كلية الشرطة، الذين تخرجوا معه، وصاروا مسؤولين في مواقع أمنية «حسَّاسة» في تعز وصنعاء. كما حافظ على علاقات قديمة بالعديد من الضباط الجنوبيين الذين اختاروا لأسباب عديدة مسارات أخرى في الشمال.
بعد أربعة عقود من ثورة أكتوبر، اندلعت حرب في اليمن (شماله وجنوبه)، وقُدِّر للمناضل الـ«عادي جداً» أن يخبر مذاق الحكم الوطني الوحدوي، تماماً كما قُدِّر لجده وأبيه. وقد تلقى عبدالحميد الشعبي، الوكيل في مصلحة الجمارك، مذكرة «تاريخية» من رئيس المصلحة في صنعاء، تشعره بتسري من وظيفته. حدث ذلك بعد أسابيع قليلة من انتهاء حرب 1994.
في بيته في خورمكسر- عدن أمضت «النداء» ساعات طويلة رفقة تاريخ حي من دم وأعصاب، فكانت هذه الشهادة المهمة التي تدحض الكثير من المسلمات و«المركزيات» في التاريخ اليمني الحديث.
حوار: سامي غالب - باسم الشعبي
> ولدت في قرية شعب عام 1938، وكانت هذه من المناطق التي خضعت لسيطرة الإمام بعد انسحاب الأتراك، ماذا بقي من طفولتك الباكرة من أحاديث عن تلك الفترة؟
- في 1919 انسحبت تركيا من اليمن، كانت «شعب» حينها جزءاً من اليمن الشمالي، واستمرت كذلك حتى 1933. كان الإمام يحيى يأخذ رهائن من المشائخ.
كان والدي طفلاً صغيراً، وقد اضطر والده (جدي) إلي تسليمه كرهينة في التربة (مركز قضاء الحجرية). كما كان يُقال من الكبار، شاع الظلم في قريتنا، كما هو الحال في جميع القرى في الشمال. لم يستطع أبناء منطقتنا التعايش مع استبداد الحكم الإمامي، فانتفضوا وبدأوا المقاومة. قيل لنا إن المقاومة استمرت أسبوعين، كان بعض جنود الإمام قد تمركزوا داخل بيوت في القرية قبل اندلاع. ودارت المعارك من بيت إلى بيت.
> هل سمعت عن أشخاص قتلوا في هذه المعارك؟
- أية معارك تستمر من قرية إلى قرية ومن بيت إلى بيت ينجم عنها قتلى.
> هل قُتل أحد من أقاربك؟
- لست متأكداً من ذلك، ولكن والدي أصيب في رقبته، حسبما قال لي.
> كان قد أفرج عنه قبل المعارك، أم تراه أخذ رهينة بعد ذلك؟
- كان رهينة قبل ذلك، وأُطلق سراحه لأن حالته الصحية ساءت. وخشية وفاته في الرهن، طلبوا من جدى أخذه.
> كم أستمر رهينة في التربة؟
- لم أسأل والدي عن ذلك.
> هل كان يقص عليك محنة أخذه كرهينة، وكيف كان يُعامل؟
- لم يحدث أن روى لي ذكرياته في الرهن.
> ماذا كان رأيه في الإمام يحيى؟
- لم نتطرق إلى هذا.
> متى توفي؟
- في 1973.
> درست في طفولتك الباكرة في معلامة القرية من كان الفقيه (أو السيد) في المعلامة؟
- علي سعيد راوح.
> من تذكر من رفاقك في المعلامة، وصار لاحقاً معروفاً؟
- حميد محمد سالم. وهو بعد 22 يونيو 1969، خرج (من الجنوب) إلى الشمال، ثم راح الخليج. عاد في 1992 واستمر إلى 1994 لكنه قرر العودة إلى الخليج لأنه لم يحتمل الوضع بعد الحرب.
> ومن أيضاً؟
- سعيد علي راوح، إبن الفقيه على راوح، وكان نقابياً معروفاً.
> قريتك هي مسقط رأس فيصل عبداللطيف الشعبي ( مؤسس فرع حركة القوميين العرب في اليمن)، كم الفارق العمري بينكما؟
- نحن من أسرة واحدة، وهو يكبرني ب3سنوات فقط. وكان يدرس في مدرسة جبل حديد، ثم انتقل إلى المدرسة المحسنية في لحج.
> عندما دخلت المعلامة كان قد غادر إلى عدن ثم لحج؟
- نعم، وكان يتردد على القرية في الإجازات؟
> في تلك السن المبكرة، هل كان يحدثك عن عدن، وعن الاحتلال البريطاني؟
- لا.
> ماذا عن قحطان الشعبي (أول رئيس جنوبي بعد الاستقلال).
- كان يكبرنا كثيراً، حوالى 12 سنة. هو درس في جبل حديد، وثم في السودان، وتخرج كمنهدس زراعي، وعين في عدن ضابطاً زراعياً.
> والدك كان شيخاً، صحيح؟
- هو أقرب إلى أن يكون مصلحاً اجتماعياً.
> أفهم أنه كان يقرأ ويكتب، هل كان يعرف الأستاذ النعمان، فمنطقتكم متاخمة للحجرية، كما أنه عاش رهينة في التربة؟
- كان يصغر النعمان بكثير، ولم يكن يعرفه.
> بعد المعلامة، انتقلت إلى الحوطة للدراسة في المدرسة المحسنية؟
- نعم، لمدة سنة وشهرين فقط.
> كيف كان يتم الالتحاق بالمدرسة، هل كان على أساس منح، أم أن والدك هو الذي أرسلك على نفقته الخاصة؟
- درست على حساب والدي.
> من كان معك من القرية؟
- كان فيصل موجوداً في نفس المدرسة، وكان في المرحلة الاعدادية.
> هل كان في المدرسة مدرسون مصريون؟
- نعم، وهناك أيضاً مدرسون يمنيون من أبناء لحج.
> هل تذكر أحداً أو تفاصيل معنية من هؤلاء المدرسين؟
- لا، فقد بقيت هناك موسماً دراسياً واحداً، ثم انتقلت إلى المدرسة الأهلية في التواهي لمدة 3 أشهر، ثم انتقلت إلى مدرسة النهضة واستمريت حتى الثالثة متوسط.
> ما سبب هذه الانتقالات؟
- حدثت مشكلة في لحج ما بين السلطان فضل عبدالكريم، وأبناء عمه. السلطان قتل 3 من أبناء عمه، ثم هرب إلى الشمال. أخوه علي عبدالكريم انتقل من عدن إلى لحج. وكانت الاضطرابات سبب نقلي إلى عدن.
> انتقلت إلى المدرسة الأهلية في التواهي، هل كانت مفتوحة لأبناء المحميات؟
- نعم، وكذا لأبناء الشمال.
> ألديك فكرة عمن أنشأها؟
- ليست لدي فكرة، ولكن أذكر الاستاذ علي عثمان مصفري، كان يدرِّس فيها، وهو من أدخلنا فيها. أمضيت 3 أشهر، ثم نقلني فيصل إلى مدرسة النهضة بسبب عدم توفر مسكن لي هناك.
> أكان المستوى الاجتماعي رفيعاً شوية؟
- نعم، لأن الميناء هناك، وكان عدد المساكن قليل جداً.
> وربما لأن مركز السلطة هناك، وكانت الطبقة الراقية تقطن هناك؟
- لا. الانجليز كانوا يسكنون في مناطق خاصة بهم. كنت اسكن في حجيف (التي كانت تمتد حينها إلى القلوعة). كان أحد ابناء القبيطة يعمل حارساً، وهو صهر والدي، وقد سكنت عنده 3 أشهر.
> النهضة كانت مدرسة أهلية إبتدائية وإعدادية، بينما كنتم محرومين من دخول المدارس الحكومية؟
- كنت هناك صعوبة كبيرة في الالتحاق بالمدارس الحكومية، وكان الذين لدى آبائهم قدرة مالية يلتحقون بمدارس أهلية، وقد التحقت على حساب والدي، وكنت أدفع 10 شلن شهرياً.
> يمكن أن نقول أن اسرتك كانت ميسورة الحال؟
- كان أبي يملك أراضي.
> مدرسة النهضة موجودة في الشيخ عثمان، وهي كانت مستقر الوافدين من المحميات والشمال، هل كنت تلحظ تمايزات فيما بين طلاب المدرسة؟
- إطلاقاً، لم يكن هناك أية تمايزات، ولم يكن في وسع أحد أن يُميِّز الشمالي من الجنوبي.
> ماذا بشأن اللهجات ألم تكن تواجه صعوبة في استيعاب لهجة بعض زملائك؟
- ليس دائماً. في عام 1955 التحق مدرسون قدموا من الشمال، وكان أحدهم ينطق القاف على الطريقة المصرية، فإذا أملى علينا كلمة «قال» نطقها «آل» فأكتبها بالألف.
وعندما استلمت ورقتي اكتشفت أنه أشَّر عليها بعلامة خطأ. ذهبت إليه محتجاً على اعتبار أنني كتبت الكلمة كما ينطقها. ولاحقاً أبلغ مدير المدرسة محمد سعيد مسواط قحطان الشعبي بالواقعة، وقد أوضحت لقحطان أنني كتبت الكلمة كما نطقها المدرس.
> كان معكم كثر من مناطق في الشمال، هل كنتم تعرفون من أي مناطق هم بالضبط؟
- لم نكن نسأل عن تفاصيل المناطق. كنا نعيش كأسرة واحدة.
> هل كان في المدرسة سكن داخلي؟
- لا. كنا نسكن في دار الضيافة في الشيخ عثمان الذي كان مخصصاً لوجهاء الجنوب: سلاطين وغيرهم. وأتذكر أحد السلاطين كان يأتي إلى الدار حاملاً «كمبل» (بطانية) ومخدة.
> المدرسون كانوا عدنيين ومن الشمال؟
- درسني محمد مرشد ناجي. وحينها كان قد بدأ يحترف الغناء.
> ماذا درسك؟
- اللغة الانجليزية.
> كيف كانت علاقتكم كطلاب به؟
- كنا نحترمه ونقدره. وهو درسنا 3 سنوات: أولى وثانية وثالثة متوسط.
> إلى مسواط والمرشدي من تتذكر؟
- عبدالرزاق معتوق، وعلي احمد ثابت لاعب الكرة الشهير الذي كان يلقب بـ«بساط الريح».
> كان المنهج يشمل الرسم والرياضة، أكنت تمارس رياضة معنية؟
- لا. كنت أهتم بالدراسة فقط.
> في تلك الفترة (52-55) نشأ حزب الرابطة، هل لمست حضوراً حزبياً أو استقطاب من أي نوع في المدرسة؟
- كنا ما نزال بعيدين عن السياسة.
> في 1948، وكنت في العاشرة، وقعت نكبة فلسطين، أتذكر شيئاً عن ذلك الحدث؟
- كنت ما أزال في القرية. لا توجد أجهزة راديو، ولم أسمع شيئاً عن ذلك.
> سواء في القرية أو في لحج هل كان هناك أية معالم عن حضور بريطاني؟
- لا. كان سلطان لحج هو الذي يدير العلاقة مع البريطانيين.
> حدثني عن سلطان لحج علي عبدالكريم، أكان محبوباً؟
- كان حضوره شكلياً.
> لكنه كان مهتماً بالثقافة والتعليم؟
- طبعاً. سلاطين لحج هم من بدأ بإقامة المدارس. على سبيل المثال المدرسة المحسنية. السلطان محسن تبرع لبناء المدرسة، وبعدها خصص ريع حوالى ألف فدان من أراضيه لتحسين المدرسة. كان لديه حس حضاري؛ من يعمل هذا الآن؟
> برزت شخصيات فنية وأدبية حينها في لحج، من يمكن أن تذكر؟
- عبدالله هادي سبيت.
> لاحظت صورة تجمعكما في القاهرة نهاية الخمسينيات؟
- كان لاجئاً في القاهرة.
> ماذا يمكن أن تقول فيه؟
- كان شخصية وطنية. هو غني عن التعريف. كنا نحترمه. وكان يهتم بالجلوس مع الطلبة ويزورهم. سلوكه راق جداً.
> ماذا عن الفنانين، فلحج اشتهرت بفنانين كبار؟
- لم نكن نختلط بهم أو نسمع تسجيلاتهم.
> ربما في قريتك، ولكن في عدن، كما تعرف، كانت هناك محال تسجيلات شهيرة، يسجل فيها فنانون من المنطقة وحتى من الخليج.
- في تلك السن لم نكن نهتم كثيراً بالأغاني، ونكرِّس جهدنا للدراسة.
> يبدو لي أنك لم تكن تعاني في تلك الفترة المبكرة في المدرسة من اختناقات مالية أو أية مشاكل في تدبير مستلزمات مصاريفك وأقساط المدرسة؟
- لا.
> ماذا عن فيصل عبداللطيف، أين كان خلال النصف الأول من الخمسينيات؟
- هو أكمل الدراسة في مدرسة جبل حديد، ثم انتقل إلى المدرسة المحسنية في لحج. أكمل الاعدادية هناك، ثم انتقل إلى القاهرة في 1954.
> في مدرسة النهضة، من كان يصمِّم المناهج التعليمية؟
- الأهالي أنفسهم، المشرفون على المدرسة: مسواط وآخرين.
> في مادتي التاريخ والجغرافيا ما هو الوطن الذي كان في المناهج، هل اليمن، الجنوب، عدن، ما هو بالضبط؟
- لم يكن يظهر له أثر، لا جغرافيا ولا تاريخ.
> ألم تدرسوا موضوعات محددة، جغرافية عدن مثلاً؟
- لم يكن هناك شيء إسمه جغرافية عدن، ولا جغرافية الجنوب؟
> جغرافية ماذا إذاً؟
- العالم كله. لكن اسم اليمن لم يكن حاضراً في المناهج، لا جغرافيا ولا تاريخ.
> وماذا كانت مواقف أو إشارات المدرسين باتجاه دفع الروح الوطنية، مثل محمد مرشد ناجي، وهو مثقف وصاحب رأي، ومنخرط في السياسة؟
- لم يكن يحدث هذا، خاصة في تلك السنوات.
> من تتذكر من طلاب مدرسة النهضة، وعرفتهم لاحقاً في حركة القوميين العرب، أو في الحركة السياسية عموماً، أو برزوا كفنانين أو رياضيين أو فدائيين؟
- لا أتذكر أحداً من دفعتي.
> وماذا عن المدرسين غير محمد مرشد ناجي؟
- محمد سعيد مسواط كان له دور سياسي. محمد أحمد ثابت برز كلاعب كرة قدم، وكان يطلق عليه وصف «بساط الريح».
> هل كنت تهتم انت بمتابعة أو بممارسة أية رياضة في تلك الفترة التي شهدت فيها عدن طفرة في النشاط الرياضي؟
- لا.
> أكنتم تدركون فروقاً بينكم أنتم القادمين من الريف وزملاءكم العدنيين؟
- أبداً، لم يكن هناك أى تمايز.
> هل السبب أن سكان الشيخ عثمان معظمهم وافدين على عدن، وليسوا من السكان القدامى؟
- ربما، ومع ذلك في الفترة التي أمضيتها في عدن حتى نهاية 56 لم ألمس أية تمايزات.
> في 1956 انهيت المرحلة الاعدادية، ومباشرة بعد ذلك ذهبت لإكمال الدراسة في ثانوية حلوان في مصر. حدثني كيف تم الترتيب لذلك؟
- ذهبنا عن طريق سلطنة لحج. كنت أحمل رسالة إلىالعراق للدراسة هناك. عندما وصلنا القاهرة حدث العدوان الثلاثي (اكتوبر 1956)، فلم اتمكن من المغادرة من مصر إلى العراق. فيصل عبداللطيف كان موجوداً في القاهرة، وقد اتفق مع مشرف البعثة التي تتبع السلطنة اللحجية أن يرتب لي وضعي في القاهرة، وتم تدبير مقعد دراسي لي على حساب المؤتمر الاسلامي الذي كان مسؤولاً عنه محمد انور السادات. تم استيعابي في القسم الداخلي بمدرسة حلوان، وكنت أحصل على 2 جنيه شهرياً كمصاريف جيب.
> قبل أن تغادر إلى القاهرة، بالتأكيد كنت قد سمعت عن إذاعة «صوت العرب»؟
- بعد الثورة المصرية (يوليو 1952)، كنا نسمع الراديو، ونسمع عن صوت العرب.
> هل سمعت عن شخص اسمه محمد نجيب؟
- نعم. كنا نسمع عنه وعن جمال عبدالناصر وآخرين.
> كيف كانت صورة عبدالناصر، ومشاعرك تجاهه؟
- كان يمثل لنا نموذج (الزعيم)، لكن لم يكن حينها بعد البعد السياسي للإلمام بشخصيته.
> من كان معك في البعثة؟
- احمد علي العقربي، سعيد عبده، وعلي بن علي، وهو الآن مسؤول عن فرع حزب الرابطة في لحج.
> كانت تلك أول مرة تركب فيها طائرة، ما كان نوعها؟
- كانت طائرة مصرية. اعتقد ان الطيران المصري كان لديه رحلة أسبوعية إلى عدن.
> ماذا تتذكر من الرحلة، وكم استغرقت؟
- بعد اقلاع الطائرة فجراً بفترة قصيرة، حصل فيها عطب، واضطر طاقم الطائرة إلى الهبوط في ميناء عصب «الاريتري»، وبعد إصلاح العطب، عدنا إلى الطائرة واقلعت من عصب، لكنها أصيبت مجدداً بعطب آخر، فهبطت في بور سودان، وتم اصلاحها، ثم أقلعت باتجاه القاهرة التي بلغناها بعد العصر.
> كيف كانت مشاعركم، هل أصابكم الذعر، أم أن طاقم الطائرة لم يشعركم بوجود أعطاب؟
- كانت تلك أول مرة نركب طائرة، ولم يكونوا يبلغونا بوجود عطب، كان الأمر بالنسبة لنا عادياً.
> حدثني عن كلفة انتقالك إلى القاهرة، ونفقات المقعد الدراسي؟
- كانت السلطنة تتولى تغطية تذكرة الطيران ذهاباً وإياباً. المقعد الدراسي كان مجانياً، وكان المؤتمر الاسلامي يوفر لنا 2 جنيه شهرياً كمصاريف.
- هل كان المبلغ يكفيك؟
> طبعاً. كنت أنفق حينها جنيه ونصف، وأوفر نصف جنيه شهرياً.
> لحظتها وقع العدوان الثلاثي؟
- نعم، وتوقفت الدراسة لمدة شهرين، واستؤنفت الدراسة في مطلع عام 1957.
> وقتها كان المد القومي صاعداً، وبدأ تمجيد القومية العربية والتبشير بقيم جديدة حداثية في العالم العربي، كيف كان وقع ذلك عليكم كطلاب يمنيين في مصر؟
- بعد العدوان الثلاثي بدأنا ندرك أبعاد الاستعمار، ونستكشف واجباتنا كأبناء العروبة.
> هل سمعت عن شباب يمنيين تطوعوا في المقاومة الشعبية في القاهرة أو بور سعيد؟
- تطوع بعض الشباب، ولكن في القاهرة. فيصل عبداللطيف كان أحد هؤلاء.
> من الواضح أن فيصل كان له تأثير في مسارات حياتك في محطات مختلفة، حدثني عن علاقتك به في تلك الفترة المهمة؟
- كنت في حلوان وكان في القاهرة يدرس في كلية التجارة. كنت أسبوعياً أمضي الإجازة في بيته في القاهرة. كان يسكن مع طلاب آخرين بشقة في جاردن سيتي.
> أليس غريباً أن يستأجر طلاب شقة في أحد الأحياء الراقية في القاهرة؟
- كان الحي راقياً فعلاً، ولكن الإيجارات كانت رخيصة، لا تتجاوز الستة جنيهات.
> من كان يشاركه الشقة؟
- اتذكر صالح حرسي، وأحمد سعيد صدقة، وكانا يدرسان الطب، وهما من لحج.
> كانوا أكبر سناً منك، ماذا كان يلفت انتباهك في الشقة؟
- لا أتذكر شيئاً لافتاً. كان فيصل منخرطاً في السياسة في حركة القوميين العرب. لكن رفيقيه في الشقة لم يكونا مهتمين بالسياسة.
> ألم يلفت نظرك شيئاً، صورة زعيم, كتباً معنية...؟
- أبداً لم تُعلق في الشقة صورة أي زعيم، لا يمني ولا عربي. كان هناك كتب تثقيفية لأعضاء الحركة، لكنه لم يكن يلتزم قراءة كتب الحركة فقط، كان يقرأ كثيراً من خارج المنهج التثقيفي.
> كنتم يومي الخميس والجمعة تخرجون للنزهة، وتذهبون للسينما، وكنت بالطبع تعرف السينما من عدن..؟
- لم أدخل السينما في عدن، فكنت أكرس وقتي وجهدي للدراسة. وفي القاهرة دخلت السينما لأول مرة.
> متى انضممت إلى حركة القوميين العرب؟
- في عام 1957.
> هذه مرحلة مبكرة جداً، على ما يبدو فأنت أيضاً من أول من التحق بالحركة من اليمنيين بعد فيصل.
- فيصل كان اليمني الأول، وبعده سلطان أحمد عمر ويحيى عبدالرحمن الإرياني وعبدالحافظ قائد.لا استطيع الجزم بتاريخ التحاقهم بالحركة. لكنهم سبقوني، وكانوا في القاهرة. كان معنا أيضاً مطهر الإرياني. كنا في خلية واحدة، إلى جانب عبدالحافظ قائد وعبدالله محمد نعمان القدسي.
> كيف انضممت إلى الحركة؟ ومن استقطبك إليها؟
- فيصل هو من استقطبني. في البدء أعطاني كتاب «معركتنا العربية»، وهو كتاب صادر عن الحركة. وبعدها انضممت إلى الحركة.
> هل أديت قسماً محدداً؟
- لم يكن هناك قسماً.
> كيف كان تأثير انضمامك إلى الحركة على شخصيتك أنت الطالب الذي كانت اهتماماته عادية، وطرأ تحولاً مهماً على حياته بانضمامه لحركة قومية عربية في تلك الفترة؟
- أولاً، العدوان الثلاثي كان له تأثير هائل عليَّ. كنا نرى الطائرات البريطانية تقوم بعمليات قصف رهيبة، فتحوِّل القاهرة إلى كتلة نار. كان لذلك وقع شديد علينا. وقد تأثرنا كثيراً أثناء العدوان بوقفة عبدالناصر، وجسارته، في مواجهة العدوان.
> لا شك أن ذلك دفعك إلى الانتماء للحركة التي انحازت وقتها إلى قيادة جمال عبدالناصر؟
- نعم.
> هل كانت زعامة عبدالناصر، وتأثيرة الهائل، أحد أساليب الاستقطاب للحركة؟
- كان المدخل هو الحديث عن فشل الأحزاب القائمة وقتها أو قبل الثورة المصرية.
كانت الحركة لا تعرِّف نفسها باعتبارها حزباً بل حركة، وعلى هذا الأساس التحقنا بها. ولاحقاً بدأت الحركة تميل إلى عبدالناصر، خصوصاً بعد الوحدة المصرية - السورية عام 1958.
> كنت بعدها كطالب تعود إلى عدن ولحج سنوياً أو كل سنتين، وكانت زعامة عبدالناصر قد تكرست في العالم العربي، كيف كان المزاج الشعبي هنا، في عدن ولحج، تجاه عبدالناصر؟
- كان الناس يعتبرونه زعيماً عربياً، وليس زعيماً مصرياً فحسب.
> في مدرسة حلوان، هل لمست تمايزات في مواقف زملائك المصريين تجاه عبدالناصر؟
- لم ألمس ذلك وسط الطلاب المصريين، لكن بعض المدرسين كانوا يبدون تذمراً من وجودنا كطلاب عرب. أذكر أن أحد المدرسين قال لنا بالنص محتجاً: انتم تحتلون مقاعد أبنائنا. وقد تصديت له بالقول بأننا عرب، وعبدالناصر لا يقر ما تقوله. لم يرد عليَّ وقد استغربت موقفه خصوصاً أنه كان يدرس مادة اللغة العربية. وبدأنا نعرف بوجود قلة من المصريين تناوئ عبدالناصر. تجنب هذا المدرس توجيه أية انتقادات لاحقاً. وأذكر موقفاً ظريف له، إذ أن أحد زملائي المصريين كان يعجز عن نطق حرف الثاء بشكل صحيح، كان ينطقة كما غيره من المصريين مثل حرف السين، وقد زجره المدرس قائلاً: كسَّر الله من أمثالك.
عبدالحميد الشعبي - عضو المكتب العسكري للجبهة القومية يروي تفاصيل مثيرة عن الكفاح المسلح في الجنوب: (الحلقة الأولى) خضعت «شعب» لسلطة الإمام يحيى، لكن أبناءها لم يستطيعوا التعايش مع استبداده، ف
2008-04-26