"تقرير المصير" و"الوحدة أو الموت".. وجهان لعملة واحدة - طاهر شمسان
"قاتلنا ضد الحزب الاشتراكي لأن بعض قياداته أعلنت الانفصال. مع أنني اليوم أكثر قناعة بأن إعلان الانفصال هذا قد يكون دُفع إليه الحزب الاشتراكي بسبب بعض أعمال السلطة والتي لم تكن واضحة لدينا آنذاك..." حميد عبد الله بن حسين الأحمر
حقق اليمنيون وحدتهم سلميا في 22 مايو 1990. وخلال أقل من عامين تبين لقيادة الاشتراكي أن دولة الوحدة لا تسير في المسار المتفق عليه. وبعد اعتكافين صامتين لم تجد هذه القيادة من وسيلة للتصحيح سوى إخراج الأزمة إلى العلن لإجبار قيادة المؤتمر الشعبي العام على تغيير نهجها في إدارة الدولة والسياسة العامة.
ومن جانبها لجأت قيادة المؤتمر إلى تنشيط الموروث التاريخي للصراع بين الشطرين واستخدامه في الأزمة السياسية، متكئة على تفوقها البشري ووضعها التحالفي الممتاز مع التجمع اليمني للإصلاح، واستعدادها المسبق للحرب. وعندما أيقنت أنها لن تكسب المعركة في مربع السياسة أقحمت القوة العسكرية القهرية لإنهاء دور الحزب الاشتراكي اليمني في الحياة السياسية، وإعادة صياغة الوضع اليمني لأهداف أسرية عائلية أصبحت مكشوفة الآن للجميع.
عشية إعلان حرب 1994 لم تكن السلطة الشرعية للرئيس صالح، وإنما لمجلس رئاسة خماسي منقسم على أساس شطري. وسبب انقسامه خلاف ليس حول الوحدة، وإنما حول دولة الوحدة. والأغلبية العددية التي أيدت الحرب في البرلمان كانت -بحكم التفاوت في عدد السكان- أغلبية شطرية معظمها من شيوخ القبائل والعسكريين وخطباء التجمع اليمني للإصلاح. ودارت الحرب بين جيشين شطريين كلاهما يحتفظ بتركيبته وتكوينه قبل الوحدة. واليمنيون جميعا كانوا يتحدثون عن واقع اقتصادي واجتماعي لم يتوحد بعد، وعن نفوذ لشرائح اجتماعية وقبلية في الشمال، يقابله نفوذ لشرائح ذات سمات مختلفة في الجنوب.
ثم أن إعلان جمهورية اليمن الديمقراطية جاء تاليا وليس سابقا للحرب. والبيض، الذي يُتهم الآن في الجنوب بأنه تسرع في تحقيق الوحدة، هو نفسه الذي تأخر في إعلان الجمهورية المذكورة. وهو لم يقدم على هذا الإعلان إلا بعد أن رفض الرئيس صالح قبول مبادرته لإيقاف الحرب، مُصرّا على تسليم نفسه لأقرب قسم شرطة، علما بأنه لم يكن في الجنوب قسم شرطة واحد ولا حتى جندي مرور ينفذ أوامر الرئيس صالح ويعترف له بشرعية الحرب. وبالمقابل لم تكن أقسام الشرطة في صنعاء تعترف بالبيض كنائب للرئيس حتى عندما كان يسكن في القصر الجمهوري بشارع جمال. فالوحدة لم تكن قائمة فعلا إلا بصيغة العلم والنشيد بدليل أن حرب 1994 دارت لمدة سبعين يوما في أراضي الجنوب، وليس في اليمن كله، وكانت نسخة معدلة لحروب زمن التشطير.
كان الرئيس صالح يعتقد أن حرب 1994 ستخلق حالة "تعزّية" تمتد من مدينة القاعدة إلى حدود المهرة مع سلطنة عمان. لكن الحراك الجنوبي أثبت أن جميع قرى الوطن الواقعة ما بعد "الشريجة" جنوبا لها خصوصية مختلفة، وأن مائة وثلاثين سنة من العيش في ظل الاحتلال البريطاني أنست الجنوبيين عادة الدعاء للحاكم الظالم من على منابر الجمعة. والذين كتبوا قصائد المديح لأبي أحمد في حضرموت وعدن يعلمون أن أبا الأحرار استهل حياته بمدح الإمام وانتهى إلى:
إن القيود التي كانت على قدمي
صارت سهاما من السجان تنتقم
ومع كل ذلك لا أحد في الشمال يقف مع دعاوى الانفصال وما يسمى بحق تقرير المصير الذي يتحدث عنه النوبة في الجنوب. فالشعب اليمني شعب واحد بحكم الجغرافيا والتاريخ والثقافة والمصالح المشتركة. والانفصال ليس له آفاق، وسيجلب الكوارث للشماليين والجنوبيين على السواء. غير أن أحدا لا يستطيع أن يدافع عن وحدة أسستها الدبابات والمدفعية، إلا إذا كان انفصاليا بالمعكوس، لا يرى في الجنوب غير مناطق نفوذ ومصالح، أو كان مواطنا من الدهماء التي صدّقت ولا تزال تصدق أن الجنوبيين كانوا على شفا حفرة من الموت، وأن علي عبد الله صالح هو الذي أحياهم وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، وأن الحراك الجنوبي هو نكران للجميل وعض لليد الممدودة إلى الأفواه الجائعة.
إن القسر -بأي وسيلة- عمل مضاد للوحدة، فضلا عن كونه ممارسة غير أخلاقية تهدد الوحدة الوطنية للبلاد في الصميم. فالوحدة الحقيقية لا تقوم إلا على التفاهم والمصالح المشتركة. أما إذا قامت على القهر تحولت إلى احتلال عسكري يؤدي بالضرورة -عاجلا أم آجلا- إلى بروز مقاومة ضده. وإذا كان الشماليون يتعلقون بالوحدة كمصلحة عامة، فعليهم أولا أن يدينوا حرب 1994 كمفسدة خاصة ألقت بظلالها الكئيبة على الجميع، وأن يعترفوا بالطابع السياسي للقضية الجنوبية، التي لا يمكن أن تحل إلا على أساس سياسي، وليس بشراء الذمم وتوزيع السيارات والمناصب و"البقع". والحل السياسي يعني أن يتوافق اليمنيون جميعا على دولة تساوي بينهم في المواطنة وفي الحقوق والواجبات، وتنهي صراعاتهم العبثية، وتوجه طاقاتهم ومواردهم لمواجهة تحديات المستقبل. أما دولة 7 يوليو -إذا جاز أن نسميها دولة- فهي ليست أكثر من لجنة ترعى مصالح غير مشروعة لأقلية متنفذة مستبدة متغطرسة شعارها الضمني "الحكم صار لنا ومن بعدنا الطوفان".
يقال: "المنتصر هو الذي يكتب التاريخ. والحقيقة هي أول الضحايا". وقد هزم البيض وانتصر الرئيس صالح في حرب 1994، وعلقت صوره في كل مكان في الجنوب، الذي أصبح بلا رموز؛ مع أن الجنوبيين لا يزالون إلى اليوم يتذكرون ملامح زعمائهم ويحفظون نبرات أصواتهم ابتداء من قحطان وانتهاء بالبيض. ولكن ماذا لو أن جمهورية البيض صمدت أمام مدافع حرب 1994 وخسر الرئيس صالح الحرب؟ أزعم أن الشعب اليمني سيلتمس الأعذار للبيض وسيحمل الرئيس صالح مسؤولية ضياع الوحدة والعودة إلى التشطير. ولن يستطيع الرئيس صالح في هذه الحالة أن يدافع عن موقفه إلا بنصب المشانق لإشتراكيي الشمال وتسليم السلطة للتجمع اليمني للإصلاح.
السياسة مصالح. والمواطن الذي لا يعرف أين ومع من تكمن مصلحته هو مواطن مستلب يعيش لغيره من حيث لا يدري. والشيخ حميد الأحمر خير من استوعب السياسة بهذا المعنى، ومارسها بشجاعة نادرة، حتى كاد أن يقترب من الكشف عن حقيقة حرب 1994، ليجبر الحاكم على احترام موقعه كمواطن من الفئة الأولى في الدرجة الأولى، وكشريك أصيل في السلطة التي أدارها والده الفقيد من الظل لسنوات طويلة.
والأَوْلى بنا، نحن المواطنين الشماليين، أن نقتدي بهذا الشيخ المثقف والشجاع، الذي هدد بأن يكون الرئيس القادم من الجنوب، خروجا على الدستور غير المكتوب الذي لا يقبل برئيس من خارج حاشد. علينا أن نتخلص من شبكة اللغة الهابطة التي حبستنا سلطة 7 يوليو داخلها، وأن ننتج قاربا لغويا رفيعا نبحر به إلى مصالحنا الحقيقية، التي تلتقي بالضرورة مع مصالح كل الجنوبيين الباحثين عن دولة نظام وقانون تحترم خصوصيتهم المحلية وتحقق لهم المواطنة المتساوية وتحفظ ثروتنا الوطنية من النهب والهدر والتملك غير مشروع. علينا أن ندرك أن مشاعر الانفصال إن وجدت هي ردود أفعال على ممارسات سلطة انفصالية تأتمن باصرة على التعليم العالي ولا تأتمنه حتى على إدارة ناحية في حضرموت، لأن منطق الأشياء عنده يرجح مصالح مشروعة لمليوني مواطن نظيف على مصالح غير مشروعة لخمسة عشر متنفذا ملوثا.
الذين يتحدثون عن الجنوب العربي ويرفعون شعار "تقرير المصير" هم الوجه الآخر لأصحاب شعار "الوحدة أو الموت". فكلاهما يدفع باتجاه العنف والخيارات المتطرفة، وكلاهما يريد أن يخوض حربه بأبناء الناس. وكلاهما يصرف أذهاننا عن التفكير في جوهر المشكلة، المتمثل في سلطة 7 يوليو. وكلاهما تحركه مصالح ذاتية. وكلاهما لا يملك ولا يريد أن يملك مشروعا وطنيا عاما. فالنوبة الذي يتظاهر الآن برفض الاحتلال ويطالب بتقرير المصير هو نفسه الذي انتظر حرب 1994 بفارغ الصبر وشجع "المحتلـ" على خوضها وخاضها إلى جانبه ضد الوحدويين الحقيقيين. ولم يكن في هذا كله صاحب قضية، وإنما صاحب ثأر جرى استخدامه للانقلاب على دولة الوحدة.
النوبة يدمر الحراك الجنوبي باسم الحراك الجنوبي، وينفذ أجندة سلطة 7 يوليو التي تدمر الوحدة باسم الوحدة. إنهما مشهدان مختلفان يتكاملان داخل نسق مسرحي واحد. فشعار "الوحدة أو الموت" لا يتمتع بالمصداقية والحضور إلا إذا حضر شعار "تقرير المصير". فالشعاران متضادان في الشكل ومتطابقان في الهدف. وهدفهما هو التأسيس لمناخ يسمح لسلطة 7 يوليو باستخدام العنف في الجنوب والقضاء على القضية الجنوبية التي لا يمكن أن تحل إلا عبر عملية نضالية سلمية تؤدي بالضرورة إلى قيام دولة المواطنة المتساوية لكل اليمنيين.
إن القضية الجنوبية ليست جنوبية إلا من حيث الشكل. أما في مضمونها فهي قضية وطنية عامة ناجمة عن افتقار اليمنيين إلى دولة تقف على مسافة واحدة من الجميع. والطبقة السياسية التي تدير شؤون البلاد غير مؤهلة لبناء هذه الدولة ولا تريد أن تتقدم خطوة واحدة باتجاه بنائها، لأنها تعتقد خطأ أن مصالحها تحتم عليها أن تبقى مخلصة للواقع الراهن. والحل لا يكون إلا بإجبار هذه الطبقة على القبول بدولة لكل مواطنيها في إطار الوحدة.
إن شعار "تقرير المصير" معناه "الانفصال أو الموت". وشعار "الوحدة أو الموت" معناه "الاحتلال أو الموت". وأصحاب هذين الشعارين متطرفون في تشبثهم بالحياة حتى ولو على جثثنا نحن الغالبية الساحقة من اليمنيين شمالا وجنوبا. فحياتنا لا قيمة لها في أجندتهم إلا بقدر ما نبدي من انسياق أعمى وراء هذه الأجندة. فالجنوبي الذي يرفض الانفصال سيواجه بتهمة العمالة من أصحاب شعار "تقرير المصير". والشمالي الذي يستنكر الاحتلال سيلاحق بلعنة الانفصال من دعاة "الوحدة أو الموت". والأصوات المسموعة الآن هي لمن يهددنا بالموت في الجانبين.
المشكلة ماثلة أمامنا، نكاد أن نحدد طولها وعرضها بالسنتيمترات. والوحدويون في الجنوب هم الأغلبية الساحقة. والمحتلون من أهل الشمال يعدون بأصابع القدمين. ومع ذلك نرى الأغلبية تصغي لصناع المشكلة، وتجعل من أقوالهم وأفعالهم عناوين بارزة في الصحف، وكأن ملكة التفكير عندها معطلة. وأحزاب اللقاء المشترك لم تبلور حتى الآن مشروعا وطنيا متكاملا ومقنعا للناس يساوي في المواطنة بين كل اليمنيين.
أحزاب اللقاء المشترك أشبه بتجمع نقابي انصرفت عن الاشتغال بالسياسة إلى الانشغال بسعر كيس القمح غير ملتفتة إلى "سعر" المواطن الذي هبط إلى مستويات دنيا تحت الصفر في ظل سلطة 7 يوليو. واللائمة تقع على التجمع اليمني للإصلاح الذي لا أحد يستطيع اليوم أن ينكر عليه دوره كأقوى حزب معارض في إطار اللقاء المشترك. غير أن معارضته تنطوي على مفارقة ملفتة للانتباه, فهو يعارض أوضاعا شارك بقوة في بناء مداميكها وظل يدافع عنها ويبررها على مدى فترة طويلة من الزمن ولا تزال هذه الأوضاع تحمل الكثير من ملامحه وتمده بمعظم أسباب القوة التي يتمتع بها الآن.
كان التجمع اليمني للإصلاح كتيبة متقدمة في فيلق الفيد الذي خاض حرب 1994، وكانت له حساباته الخاصة في تلك الحرب التي يدين الآن انعكاساتها السلبية عليه. وأن ينبري الآن من داخله من يقول: "نحن قاتلنا من أجل الوحدة وليس من أجل النطاق الجغرافي"، فهذا يعني أنه مكبل بملفات الحرب والأزمة التي سبقتها، وغير قادر على إنتاج خطاب سياسي متحرر من تبعات شراكته في حرب أعد عدته لها منذ اللحظة التي بدأ فيها أول إصلاحي يقرأ كتاب "معالم في الطريق" ويقتنع بمبدأ القضاء على "جاهلية القرن العشرين".
كثيرون يحبون محمد قحطان وينظرون إليه بإعجاب، وأنا واحد منهم. لكن هذا الرجل ليس كل الإصلاح. وإذا جاز لي أن أشبهه بعمر بن الخطاب بعد إسلامه فإن حزبه هو عمر قبل أن يسلم. عمر في الجاهلية كان لذاته وفي الإسلام صار عزا وسؤددا لكل المؤمنين. والتجمع اليمني للإصلاح لا يزال حزبا لذاته غير قادر على استيعاب مصالح الناس الواقفين بعيدا خارج صفوفه. وإذا استوعب بعضهم فمن خلال موائد الرحمن الرمضانية وأشباهها. وبهذا المعنى هو حزب بلا مشروع سياسي، وأقصى ما يقدر عليه هو إدارة جمعيات خيرية تتعامل مع الناس كمستحقين للصدقات. وكلما ازداد هؤلاء بؤسا زاد هو تألقا وحضورا.
القضية الجنوبية لا تحل إلا من خلال مشروع سياسي مقنع لكل اليمنيين، في إطار الوحدة، يتجاوز أيديولوجيات الأحزاب و"ثوابتها". وإلى أن تبلغ أحزاب اللقاء المشترك مرحلة الرشد السياسي، وتجمع على أن الثابت الوحيد هو حرية الإنسان وكرامته، سيظل الانفصاليون، والانفصاليون بالمعكوس، يحتكرون دور "البطولة" في ساحة بلا أبطال حقيقيين. وسيظل الشعب اليمني "يشرب من ماء البحر".
tahershamsan
"تقرير المصير" و"الوحدة أو الموت".. وجهان لعملة واحدة
2008-03-27