أحد الناجين من كارثة جبل الطير يروي لـ«النداء» تفاصيل مروعة: سبحت 22 ساعة وشاهدت الحمم تبتلع رفاقي
* أبلغنا البحرية طيلة شهرين بحدوث هزات مستمرة، لكنهم تجاهلونا
- محمد العلائي
بشير السيد
لقد شارف أحمد عبدالله الجلالعلى الموت. بيد أنه، ما يزال يبدي قدراً من رباطة الجأش. إنه يبذل كل ما في وسعه، كي يبدو في صورة تليق به، كجندي شديد البأس، أوشك على الموت، لكن شيئاً من الخوف لم يتسرب الى فؤاده، أبداً.
«لم أخف البحر ولا الظلام، كنت مطمئن جداً.. بس تعبت». بالتأكيد لم يرمش له جفن، كان يمخر عباب البحر. حين كانت أجفانه مبلولة بمياه شديدة الملوحة، والخطر.
النار والماء، نقيضا بعض. غير أن كلتا المادتين تتساويان في قدرتهما على إزهاق الأرواح، وإن تفاوتت مستويات البشاعة.
لابد أن الجحيم أكثر قدرة على الترويع، سيما لو كانت منبعثة من جوف الأرض. وعندما تفتق جبل الطير، ال2 ظهر الاحد، بمقذوفات قاتلة، إختار أحمد الظليمي و7 من رفاقه، امتطاء البحر. لقد كانوا امام صنفين من الموت.
كانوا في الموقع العسكري، عندما زمجر الجبل، بأصوات رهيبة. «هربنا امام البحر، ونبعنا 7 أفراد، 4 ماتوا وأنا أراهم، وبقينا 3 نحاول الفرار من الحرارة الملتهبة في البحر»، يقول أحمد، ابن ال23 عاماً، وهو يروي لـ«لنداء» بشيء من المرارة هول الكارثة التي باغتتهم على حين غرة.
ثمة تباين في تقدير الزمن الذي بدأ فيه البركان يزاول نشاطه، بعنفوان وفتوة.
فلئن كان يعتقد أحمد أن الساعة كانت ال1 بعد الظهر، قال الناجي الآخر علي سريع، أنها كانت ال.2:3.
عندما خيم الليل، بدا البحر الأحمر كمتاهة موحشة، لكنها مترامية الأطراف.
«طوال الليل، وأنا أسبح قبالة الجزيرة، كنت أميزها بنار البركان، حاولت العودة إليها لكن دون فائدة»، يواصل الحديث بتقطع. إنه يلوح كمن يحاول لملمة صورة درامية محزنة مزقها طفل عابث.
في الواقع، كان أحمد يجابه بجسارة أكثر من قاتل. فإلى الأمواج المتلاطمة، استطاع تبديد مشاعر أخرى مدمرة، كانت تتلاطم في أعماقه من قبيل: اليأس، الاستسلام للقدر. لقد احتفظ جهازه العصبي بما يلزم من التماسك.
«المقاومة، مقاومة الموت لا أدري أين أتجه.. أنظر شرقاً وغرباً. كنت أرى الجزيرة المشتعلة بالنار، وكنت أتوقع أنها قريبة. وجاء الصبح وأنا لم أبارح مكاني»، يرسم أحمد تلك اللحظة بشيء من الإنقباض، لكأنه يخشى حتى استحضارها.
المؤكد أنه رجل بحر من الطراز الرفيع. «هربت الساعة1 بعد ظهر الاحد، وأُنقذت ال10 صباح الاثنين»، أي أنه استغرق من الوقت نحو 22 ساعة من العوم في المياه بعيدة الأغوار.
أحمد متزوج. وقد أنجب طفلاً أسمه نواف، لم يكد يكمل عامه الأول. يقول بلكنة حاشدية: «كان اذكر ابني وزوجتي وأبي وأمي، واخواني وأصحابي.. كنت أقل لو يدروا اين انا لأتوا لإنقاذي».
حين شرع في الهرب، بمعية زملائهال7، كان في المقدمة. وفيما ظلت الحمم تطاردهم بدأب مخيف، سبقه زميله علي سريع.
لحقت النيران 4 من زملائه، بعدما أبتعد قرابة 50 متراً عنهم.
جزيرة جبل الطير قطرها 3 كيلو مترات، وتبعد عن مدينة الحديدة زهاء 100 كيلو متر. إنها مساحة جيولوجية غير مأهولة. كان يتمركز فيها 60 جندياً، طبقاً لأحمد. في حين أن علي سريع يعتقد، في حديثه للسياسية، أمس، أن عددهم كان70 جندياً.
وعلى كل، فلا شك أن أحمد يقول ما يعتقده تماماً. ففجائية اللحظة أضفت أجواء مربكة للغاية، لم تمكنه من التقاط التفاصيل بدقة.
يقول: «عدد الجنود 60، كحامية عسكرية. 50 اتجهوا صوب موقع آخر، ونحن قفزنا البحر». ووفقا لرواية علي سريع، فإن الجميع امتطى البحر، ساعة انفجر البركان. غير أن 50 قفلوا راجعين بعد فترات وجيزة، وانتهى بهم المطاف في بقعة آمنة، حتى تم إخلاءهم لاحقاً.
في الجزيرة 6 مواقع عسكرية. وجبل الطير يطل على كامل مساحتها بوجه عابس ومكفهر.
يقول الفريق الفني الذي كلف بزيارة موقع الكارثة: «من خلال الإستقصاء عن بدايات النشاط وما صاحبه من نشاط زلزالي تبين أنه تم رصد إشارات زلزالية (بحسب تقارير مركز الرصد في ذمار)، بتاريخ 22 سبتمبر 2007، وقد استمر هذا النشاط الى يوم انطلاق البركان».
ما يبدو أنه مؤكد، هو أن القيادة البحرية تباطأت أكثر مما ينبغي، في الاستجابة لنداءات الجنود، الملقون في مكان قصي.
يتذكر احمد :«كنت ألاحظ كل يوم 3 هزات، من قبل رمضان». وأردف بنبرة حذرة: «كنا نبلغ القيادة البحرية، وهم يقولوا: تواصلوا معنا!!».
فكرة الإقامة في جزيرة قافرة، يشوبها الكثير من المجازفة. لكنهم «حماة التراب الوطني»، وما من خيار آخر. كل ما في الأمر أنه كان يتوجب على القيادة البحرية أن تتمتع بحس عالٍ، من شأنه الحؤول دون الإنتظار، حتى تتفاقهم المخاطر.
«حدثت 13 هزة خلال 10 دقائق. حاولنا الإتصال بالقيادة وفجأة انفجر البركان». يقول احمد مرتباً، هذه المرة، المشهد من البداية.
لا ريب، تحتاج مجاورة البحر إلى ما يكفي من العتاد: قوارب نجاة، تدريباً فائقاً، أدوات سباحة للطوارئ. إن شيئاً من هذا العتاد لن يعثر عليه في جزيرة جبل الطير.
أحمد نشأ في ظليمة، التابعة لمحافظة عمران، وبالتالي ظل البحر مجالاً غير مألوف بالنسبة له. وحينما بدأ مشوار الخلاص من ميتتين محققتين كانتا تلاحقانه: البركان والبحر، كانت عضلاته وحدها، هي طوق نجاته، ولهذا أفلح في اجتياز المسافة التي كان يجب أن يقطعها كي يعثر على القشة التي ستنجيه من الغرق.
«كنت أسبح وأسبح، وأستغفر، وكنت أقول: يارب أنقذني كما أنقذت يونس»، أضاف.
يبدو أنه استحضر كل حكايات البحر. بما في ذلك القصص القرآنية..
في ال10، صباح الاثنين، التقط بصره سفينة تعبر بالقرب منه. لقد كانت قشته من الغرق: «أنقذوني الكنديين، طلعوني لفوق زورق صغير، ومنه الى متن السفينة، واعطوني ملابس وماء وأكل، ثم استحميت».
المفارقة، أن الفوهة التي تطايرت منها كتل الموت، كان يرتادها الجنود للاستشفاء من أمراض جلدية كالبهاق والحساسية.
وكانت الأبخرة الكبريتية تتصاعد منها على الدوام. علاوة على أن الجزيرة برمتها «منطقة حارقة لا يلبث فيها النعل أن يتمزق»، حسب أحمد.
لكن الأمر المثير للدهشة، هو أن الفريق الذي كلفه الرئيس بزيارة الموقع لم ينس أن يختتم تقريره ببند يخلو من اللياقة العلمية، فضلاً عن الدقة «تبين بعض المؤشرات عن احتمالات وجود ثروات طبيعية بالجزيرة والمياه المغمورة المجاورة لها». (الراجح أن هذا البند ستنفتح له أسارير الرئيس، لهد أُلحق بالتقرير).
تلزم الإشارة هناك إلى أن قطر فوهة البركان 10 كيلو مترات، و«تنبثق الحمم البركانية من أعلى الجبل بارتفاع يقدر ب230 متراً تقريباً، وبانسياب يصل إلى البحر قاطعاً مسافة تقدر بحوالي 1000 متر»، طبقاً لتقرير الفريق.
لم يتضح العدد الحقيقي للقتلى والمفقودين بعد. ففيما تتحدث أنباء عن 4 قتلى، رجحت أخرى أن العدد الحقيقي 8 قتلى. (الشيء الثابت هو أن الرئيس ساهم في عملية الإنقاذ، والإخلاء!).
أحد الناجين من كارثة جبل الطير يروي لـ«النداء» تفاصيل مروعة: سبحت 22 ساعة وشاهدت الحمم تبتلع رفاقي
2007-10-04