صنعاء 19C امطار خفيفة

لماذا قد يشجع بعض اليمنيين القصف الأمريكي على بلادهم؟

برز إلى السطح بشكل لافت بعض التأييد العلني من يمنيين كثر لتلك الهجمات التي شنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الحوثيين في اليمن، سواءً عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو في اللقاءات المغلقة. قد يبدو ذلك مفاجئًا، إذ لماذا قد يرحّب أحد ما بقصف بلاده، خاصة أن ذلك يحتّم -كما ثبت في الواقع- سقوط ضحايا مدنيين، ودمارًا للبنية التحتية لبلد -هو أصلًا فقير - كاليمن.

 
لم يقتصر الأمر في اليمن غير السعيد على مجرد الترحيب؛ بل وصل إلى محاولة "تغشيش" البعض للإدارة الأمريكية -عبر الشاشات - بما الذي ينبغي قصفه وأين؟! 
 
يطرح هذا الأمر سؤالًا متكررًا عن السبب الذي يدفع بعض المجتمعات لأن تكون أكثر حسمًا تجاه أي شكل من أشكال التدخل الخارجي في بلدهم كالمصريين الذين يرفضون بشكل قاطع التدخل الأجنبي في شؤونهم الداخلية، مقارنة باليمنيين أو اللبنانيين أو السوريين حيث يبدو الرفض أقل وضوحًا أو هشًا- واليمن ولبنان هما دولتان ضعيفتان، إن لم تكونا فاشلتين. 
 
في حالة اليمن، تصبح إشكالية ومعضلة السؤال مضاعفة، ذلك أن عنف الدولة لم يكن منظمًا كما كان الحال في سوريا أو ليبيا، حيث لم تُستخدم الأسلحة الكيماوية أو تُنشأ سجون كصيدنايا. كما أنه على الصعيد الاجتماعي، هناك أعراف قبلية وإجتماعية تعيب القبول بالتدخل من الآخر وفق قاعدة: "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب".
 
يتكرر السؤال حتى في بلدان أخرى بالمنطقة مرّت بنزاعات مؤخرًا. يدعم بعض الإيرانيين توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية، في حين احتلت القوات الأمريكية العراق بمساندة شخصيات عراقية كأحمد جلبي الذي نظّر وناضل من أجل تلك اللحظة، رغم أن مسببات العراق مختلفة. في لبنان، ربما لم تكن إسرائيل لتتدخل في الحرب الأهلية لولا تعاون بعض الأطراف المحلية. وفي سوريا، رحّب الكثيرون، ليس بالقصف الروسي الداعم لنظام الأسد فحسب، بل بوجود ميليشيات أجنبية كحزب الله، بينما هي تقتل المدنيين هناك ومؤخرا بميليشات متطرفة تدعم النظام الجديد هناك. 
 
لكن بالنسبة لترحيب بعض اليمنيين بالقصف الأمريكي الأخير، هناك أكثر من سبب يمكن أخذه بعين الاعتبار. من بينها أمور تتعلق بالاستبداد المحلي وانسداد الأفق بشأنه، وإضعاف الجماعات المختلفة للهوية الوطنية لدى  اليمنيين على حساب هويات أخرى دون أو فوق وطنية، واليأس المتعلق بأي فرصة لتعقّل الحوثيين، ناهيك عن حالة النشوة داخل المعسكر المناوئ لإيران وحلفائها في المنطقة بعد انهيار نظام الأسد ومقتل حسن نصر الله في لبنان. 
 
قبل الغوص في تفاصيل أسباب هذا السلوك اليمني، يبقى القول -مع المخاطرة بمستوى من التعميم -إن التعبير عن الاحتفاء كان أغلبه من أصوات يمنية بعيدة غالبًا عن أهوال الحرب والبلاد. وحين كان هناك احتفاء بالضربات الأجنبية منذ العام ٢٠١٥، برز أغلبه في مناطق سيطرة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، فقد رأى البعض أن هذه الضربات كانت تخليصًا لهم من الحوثيين وهو ما تم فعلا، على عكس الخاضعين لسلطة الحوثيين الذين يدفعون الثمن الأكبر بسبب عيش الحوثيين وسطهم والذين لا حيلة لهم لقول رأيهم حتى بخصوص درجة الطقس. 
 

الطغاة يجلبون الغزاة:

 
لو إن ابن خلدون حيًّا اليوم، لكان على الأرجح سعيدًا معرفيًا بثبات نظريته الخالدة التي تقول إن الطغاة يجلبون الغزاة. في بلد كاليمن، تبدو الأنثروبولوجيا التاريخية للفرد شديدة الحساسية تجاه التدخلات الخارجية بشكل عام، حتى الثقافية والفنية. بل ومن النادر أن ترى اليمني حتى في خارج بلده يأكل في مطاعم غير يمنية، ذلك أن سيادته تكاد تصل حتى معدته وذائقته. بالمعنى السياسي، تمثّل هذا تاريخيًا في مقاومته الشرسة للاحتلالين البريطاني والعثماني. 
 
قبل زمن الحوثيين، كانت تُصدر عشرات الصحف الأسبوعية واليومية المستقلة والمعارضة في العاصمة صنعاء، حين كان المناخ العام ينتمي إلى عموم اليمنيين. بمجرد سيطرتهم على صنعاء، أغلق الحوثيون الفضاء العام وفرضوا دولة بوليسية هي مزيج من أنظمة كوريا الشمالية وإيران وطالبان. شرعوا أيضا في الزحف نحو المحافظات الأخرى وتحديدًا الجنوب ومأرب محاولين فرض هيمنتهم العسكرية على اليمن أجمع.
في البداية قسّموا البلد حرفيًا، ثم شنوا حربًا لم يُشهد لها مثيلًا من قبل. وخلال أشهر كانوا يسيطرون على نصف مدينة عدن في واحدة من أدمى وأشد الحملات العسكرية الوحشية المسلحة قمعًا، مستخدمين بذلك أسلحة الدولة وميليشيات غير نظامية تشبه ميليشيات حزب الله. هذا السلوك بطبيعة الحال جعل النظرة للحوثيين مرتبطة بالموت والعنف. 
 
حينها كان سيبدو من الطوباوية، بل ربما من الإجرام، التوقع من أي يمني في هذه المناطق، رفض أي دعم خارجي عسكري يحميهم من الحوثيين، كما ظهر ذلك في استقبال اليمنيين للضربات الجوية التي شنها التحالف العربي بقيادة السعودية، بالاحتفاء والتهليل في كثير من الأحيان. كان الأمر يشبه موقف أهالي بنغازي الليبية عام 2011، من تدخّل الناتو حين كانت قوات القذافي على أبواب المدينة، أو موقف الأكراد في العراق حين استخدم نظام صدام حسين السلاح الكيماوي ضدهم. بالنسبة لليمنيين في عدن وجنوب اليمن بدا الأمر أحياناً أبعد من ذلك، إذ كان يشبه مساعدة الأمريكان لتحرير الكويت بعد احتلالها من قِبل صدام حسين. هكذا فإن إجرام الحوثيين تجاه عموم اليمنيين فتح الباب على مصراعيه لسوق التدخلات العسكرية والانسياق الداخلي معها، وإن كان بشكل أقل فجاجة في العام 2015، مقارنة بالوقت الراهن. 
 

حالة التباس وطني وقومي:

 
حين سيطر الحوثيون على صنعاء عام 2014، وبعيدا عن المبادئ الوطنية والقومية معا، كان من أول ما قاموا به هو البحث عن الطيارين العراقيين الذين شاركوا في حرب العراق وإيران وفروا إلى اليمن بعد 2003، وقتلهم بناءً على قائمة أعدها الحرس الثوري الإيراني. لاحقًا، انصهر الحوثيون تمامًا مع إيران ("الفُرس" بنظر اليمني العادي) خاصة مع تحويل صنعاء إلى لوحة تمجّد قاسم سليماني، أو عمل السفير الإيراني كحاكم في صنعاء، أو فرض اللغة الفارسية والأيدلوجيا الإيرانية في جامعة المدينة. 
 
لا يمكن الاستهانة بكم أوقظ ذلك من الهويات الأخرى داخل اليمنيين، لرفض هذه الهيمنة غير العربية على حياتهم اليومية وبلادهم. كان ذلك الشعور مضاعفًا طائفيًا خاصة بعد تدخّل حزب الله وإيران في سوريا لصالح نظام متحالف مع طهران، وتحديدًا من السنّة الذين كانوا غالبية المعارضين لنظام الأسد. وفي نفس الوقت الذي كان عبد الملك الحوثي يخطب عن السيادة في اليمن واستعادتها في وجه أمريكا والسعودية، كان أحد قادة الحرس الثوري الإيراني في صنعاء يطلق الصواريخ البالستية على الرياض دون علم أو موافقة عبدالملك نفسه.
 

غياب البوصلة الوطنية

 
لم يكن  الحوثيون وحدهم من يقودون ويصنعون كل ذلك الاغتراب الوطني. في نهاية المطاف، القومية والوطنية اليمنية ضعيفة عند عموم الجماعات والأطراف اليمنية لأسباب يطول شرحها. لقد تشتت وتمزق وتفرق دم اليمنيين بين القبائل -كما يُقال - بشكل أكثر منذ أبريل 2022، حينما تشكّل مجلس القيادة الرئاسي. بالمعنى المباشر، توسّعت المصالح الضيقة غير الوطنية لتشمل أكثر من تمثيل وأكثر من جغرافيا، بما في ذلك معسكر صالح (سابقًا) وتعز (كجغرافيا وعصبوية) وغيرها، والجنوب كمشروع سياسي تقسيمي، ما عزز التيه والولاءات اللامحترمة، وجعل الانتماء لليمن المعروف استثناء.
 
خلق ذلك -من ضمن ما خلق - حالة أوسع من العصبوية والمصالح الضيّقة التي بدورها استفادت من طبيعة السلطة في اليمن المتشكلة بناءً على تدخل خارجي، حيث وسّع من دائرة التواطؤ الوطني لصالح التدخل الخارجي. إذ أصبح بعض اليمنيين مثلا ممن رفضوا وأدانوا قصف التحالف عام 2015، يتمنونه اليوم، بل باتوا مرحّبين بالقصف الأمريكي والتدخل العسكري؛ وذلك يعود لتوسّع دائرة اللا وطنية المناصرة. هذا هو السبب نفسه الذي جعل أنصار دولة قطر في اليمن يحتفون بقصف التحالف العربي لليمن حين كانت قطر جزءًا منه، ويرتدون فجأة رداء الوطنية منتصف 2017، في مناهضة التحالف، وما كان ذلك لأي سبب يتعلق ببلدهم، بل انعكاسًا للأزمة الخليجية التي تاذت منها قطر، وهذا مجرد مثال.
 
في اليمن، ينطبق هذا على السياسيين تحديدًا، فعام 2015، رفض الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح قصف السعودية لليمن، غير أنه كان من الداعين لذلك بعد فض تحالفه مع الحوثيين، وقبلها سمح هو للطيران السعودي بقصف الحوثيين في حربه معهم عام 2009. في ذات السياق، عام 2010، كان صالح يشيد -بناءً على وثائق ويكيليكس - في لقاء مع قائد القوات المركزية الأمريكية ديفيد بتريوس بقصف تنظيم القاعدة في اليمن، رغم سقوط مدنيين. علاوة على ذلك، قال وزير داخليته حينها -رئيس مجلس القيادة الرئاسي حاليًا - في نفس الاجتماع لبترويس: "استمروا في القصف بينما سنستمر في الكذب على البرلمان بأن من يقصف هو طيران يمني".
لاحقًا، وفي العام 2013، امتدح الرئيس عبدربه منصور هادي علنًا ومن واشنطن الضربات الأمريكية بالدرونز، ووصفها بأنها تسابق العقل البشري، في الوقت الذي كان مدنيون في مسقط رأسه بمحافظة أبين يسقطون ضحايا لهذه الضربات. 
 

جموح الحوثيين وتوسّع دائرة اليائسين من وطنيتهم

 
بشكل عام، وإلى جانب أسباب أخرى، كان الحوثيون وممارساتهم كسلطة أمر واقع ضد اليمنيين خاصة في مناطق سيطرتهم، هو الموجه العام لموقف اليمنيين من القصف الأجنبي لليمن (وتحديدًا للحوثيين) مؤخرًا. فبينما اصطف جزء لا بأس به من اليمنيين عام 2015، مع الحوثيين بسبب قصف السعودية والإمارات لليمن خاصة ممن يمكن تعريفهم بـ"القوميين اليمنيين"، دفع جموح الحوثيين هذه الفئة ذاتها، ليس فقط لتمني زوالهم، بل عدم إبداء أي ممانعة للقصف الخارجي على الحوثيين ولو كان أمريكيًا. 
 
للأمر أيضًا علاقة بالقناعة المحلية، والخارجية، المتصاعدة بأن الحوثيين قد دفعوا الوضع للحافة ولا يريدون إلا استمرار الحرب، ودلالة ذلك رميهم بخارطة الطريق عرض الحائط، رغم أن واحدة من فوائدها كانت دفع الرواتب لليمنيين الخاضعين لسيطرتهم وفتح الطرقات وتوقف القتال ... إلخ. وهو يأس آخر من أي تعقل وطني للجماعة، مما دفع عموم اليمنيين إلى تمني زوال الحوثيين ولو بشيطان آخر، خاصة بعد عشر سنوات من الصبر والتفسيرات -التي لا تفسير لها -لاستمرار الحرب.  
 

ترامب والشرع وحسن نصر الله

 
مع عودة دونالد ترامب، مجددًا إلى البيت الأبيض مصحوبًا بجملته الواضحة عسكريًا تجاه إيران، وسقوط نظام الأسد في سوريا، ومقتل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، الذي كان حجر الزاوية الإقليمية في محور المقاومة الذي يضم الحوثيين؛ تصاعدت القناعة اللاوطنية ببديهية قصف واشنطن لليمن،بل  وأحيانًا بتوهم أهمية ذلك كلحظة استراتيجية لدى الكثير من المحللين، يمكن أن تُقلب موازين القوى، بعد اليأس من أية مبادرة وطنية للتصدي لمهمة الخلاص منهم.
 
منحت لغة ترامب الحاسمة تجاه الحوثيين وقصفه لهم بشكل مباشر وهمًا جديدًا لمعسكر خصوم الحوثيين: أولًا بأن الولايات المتحدة يمكن أن تخوض هذه الحرب بجدية نيابة عن الطرف المناوئ للحوثيين، بل وتسليحه على الأقل؛ وثانيًا أن بإمكانها القضاء على الحوثيين عبر الضربات الجوية ـ وكأن لا أحد تعلّم شيئًا من القصف الذي شنه التحالف خلال السنوات العشر الماضية والذي أهلك الحرث والنسل والحجر والبشر في اليمن وقضى على كل شي إلا الحوثيين. وكما يُقال “الغريق يتمسك بقشة”، ساعد هذا الشعور خصوم الحوثيين في رفع منسوب وهمهم بنهاية عاجلة وسريعة خارجية للحوثيين.
من ناحية أخرى، ما يزال نموذج أحمد الشرع المتعلق بالسقوط المفاجئ لأحد محاور الأنظمة المتحالفة مع إيران في المنطقة، يحمل صداه موهمًا بعض اليمنيين بإمكانية تكرار ما جرى في دمشق في صنعاء. يمثل ذلك في الواقع تخدير ساذج لكل محاولة منطقية، إذ أن المفارقات مهولة بين كل من نظام الأسد والحوثيين من جهة، وأحمد الشرع وخصوم الحوثيين من جهة أخرى. لقد خلق ذلك مستوى غير محدود من التحليل بالتمني أصلًا، والواقع أن ذلك في نهاية المطاف، يضعف السردية والفعل الوطني تجاه الحوثيين، كونه يتماهى مع الوجهة الأمريكية تجاه اليمن ويربط مصير البلد بها، وهي في الواقع لا تختلف كثيرًا عن وجهة الحوثيين فيما يتعلق بإخضاع البلد لحسابات خارجية غير يمنية بدورها. 
 
لقد ضاعف مقتل نصرالله بتلك الطريقة هذه القناعة، حيث حقق ذلك اعتقادًا من وجهة نظر خصوم الحوثيين بأن ضربات موجهة ودقيقة قد تكون كفيلة بتغيير الملعب كاملًا، غير أن ذلك يُعد ضربًا من الأحلام والأوهام لأسباب ليس آخرها الطبيعة الجوهرية المختلفة لحزب الله ولبنان عن الحوثيين واليمن، ولا أولها اختلاف المعطيات لكل من تل أبيب وواشنطن. 
 
في نهاية المطاف، لا يقبل أي يمني محترم بتدخل خارجي أو بمخرجاته. ولم يكن القبول العام بالدور المصري عام 1962 إلا نتيجة لقناعة شعبية مباشرة في أنه انتصار لفكرة الجمهورية الوليدة في اليمن، وبالنهاية تمكين اليمنيين من تقرير مصيرهم بأنفسهم، على عكس اليوم في ظل لحظة وطنية شديدة الالتباس. وعلى حد تعبير أحدهم "ما قبلنا بالإمارات والسعودية تقصف بلدنا وهم مسلمين وعرب، عادك إلا با نقبل بالنصارى (أمريكا وبريطانيا)؟" لا يوجد غطاء وطني لأي داعي للحرب على اليمن.  
 
من المحزن والواقع، أن هذا هو ما تفعله الحروب الأهلية: تهشّم السرديات وتعيد تعريف السيادة بقوالب مشوهة وخالية من السيادة، وتخلق اصطفافات بأبعاد خارجية وادعاءات وطنية غير دولتية يجد كل أسبابه لها، وإن كانت ضد أي مفهوم للوطنية. 
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً