صنعاء 19C امطار خفيفة

لحظة المساح المستقطعة من الحزن!

لحظة المساح المستقطعة من الحزن!

قبل عامين ونصف (28/10/2022) كتبت تعليقًا على شهقة أستاذنا محمد المساح العالية على فقد ولده سامح، وها هو يغادر دون أن يراه أو يسمع به.

 
تعلمنا الكثير منه، ومن عموده الذائع "لحظة يا زمن"، كيف نتشبث بالحياة من أهدابها، وكيف باستطاعة الإنسان الشغوف بأيامها تحويل ركام صنائعها الخشنة إلى جواهر مشِعّة، وحزنها القاتل إلى فرح غير منقوص، وعتمة دروبها الضيّقة إلى طريق واسع مفتوح على الشمس.
 
مرت به نكبات لا تعد ولا تحصى، لكنه لم يستسلم، وترك لقدميه النحيلتين شق مسالك الوقت الوعرة، ولذهنه اليقظ أن يلتقط أنَّات الفقراء والمتعبين والهامشيين بأحلامهم الملونة البسيطة لتصير على يديه نصوصًا حية يظفِّر بها اللحظة المستقطعة من الزمن.
 
ترك المدينة بكل بُهرجها الزائف وناسها المعلَّبين، ليلوذ بقريته البعيدة "الردع"، حيث الطبيعة البكر، ومبذولاتها البسيطة المتغلغلة في قيم الناس.. اتخذ من الأغنام والخراف رفاقًا للأيام الجدباء، التي أنتجت الحرب وتجارها المبتذلين، فيقضي معها ساعات طويلة في المراعي، ويكتسب منها الجلد والصبر.
 
الحرب سرقت من المساح ولده "سامح" في صحراء كتاف، قبل سنوات، ولم يجد له أثرًا حتى اليوم، غير أن سامحًا لم يترك طيفًا بعيدًا إلا وعاد به إلى منامات الأب المحزون.
 
استعاد المساح سامح المفقود بواحد من نصوص الرثاء الشامخة، التي تعرِّي الحرب وتجارها.. قال إن سامح ذهب إلى الحرب، لكنه لم يعد، وذهب إلى النوم أيضًا، لكنه لم ينم، لآنه لم يحن وقت النوم بعد.. الحرب والنوم في هذا (الاستقراب التصويري) وجهان لعملة الفقد الكبيرة عند أسرة مكلومة، وأب لا يتملك غير القلم لـ"تنطيف" دموع حزنه الغزير.
 
اختار سامح النوم ليكون بعيدًا عن الأهل ورفاق الدرب والصبا في القرية التي أيقظتها الحاجة، فذهبت بفتيانها إلى حيث شهوة الموت، وإلى حيث تفرك الحرب أصابعها الخشنة، ذهب إلى هناك مؤملًا في ضرع الحرب الجاف أن يدِر حليبًا قبل الفطام، مثله مثل كثير من الصبيان الذين صاروا وقودًا لها، وحطبًا لحاجة كاثرت عليها الأحزان دسوتها.
 
"سامح المتسامح"، كما يرسمه ويصفه قلم الأب، لم يكن يعرف أنه سيقع ضحية لواحد من تجار الحرب "قرصان.. مقاول أنفار.. تاجر عسل، يبيع البشر بالجملة والمفرق.. لا تدري من أي كوكب هبط".
 
باع سامح وعشرات الجنود بيعة رخيصة في معركة غير متكافئة، كان فيها أول الهاربين من بين جنود عُزَّل تقريبًا، وهو القائد الذي هبطت النسور والنجوم من سماء عالية على كتفيه فجأة، وهو الذي كان لا يفقه من خبرات الحياة وفكرة الوطن سوى ببيع العسل المغشوش والمساوك المسوّسة، ففجأة صنع منه راعي الحرب قائدًا مغوارًا، في جبهة ملتهبة على خاصرته الرخوة، مثلما صنع غيره من مئات القادة الغارقين في الفساد، الذين لا يفقهون من شرف الأوطان غير مراكمة ثرواتهم من الاتجار بكل شيء بما فيه دم الضحايا، الذين يعملون تحت أمرتهم كجنود.
 
بعد سنوات من الفُقد والبُعد، يعود سامح من أعماق الصحراء، التي ابتلعت أحلامه وأحلام رفاقه، طيفًا ينادي والده، ويقول إنه خُدع، ولم يكن يدري أن الأمور ستمضي بهذا الشكل، حينما قرر أن يكون جنديًا يدافع عن قيمة مثالية، فلا يمتلك الأب سوى تطمين فلذة كبده المفقود أن طيفه -مثل حياته القصيرة والخفيفة- سيبقى يحوم ويدور في فضاء قريته شاهدًا على زمن القتلة، حيث يرثي القتيل قاتله ولا يدري من قتله.
 
نص شاهق وباذخ يرثي ضحايا هذا الزمن الملوث، ويُعرِّي من هندس تفاصيل الموت بداخله، ويصوّر مشهدًا قياماتيًا، غطى رذاذه الأفق، وجعل من كل شيء يُستطعم رمادًا في فم المكلومين من أُسر الضحايا.
___________

"لحظة يا زمن"

محمد المساح
الإهداء:
إلى مفقودي وأسرى محور كتاف... في كل منعطفات الوطن
مرثية إلى الأشجار والأحجار
سامح ذهب إلى الحرب ولم يعد
قال لي: سأذهب إلى النوم، ولكن لم يحن وقت النوم بعد، ولازال الوقت طفلًا يحبو، وذهب "سامح" ليغفو هناك في البعيد، بعيدًا عن أهله ورفاق الدرب!
ذهب سامح ليغفو غفوته الأبدية مرتاحًا تحتضنه الصحراء.
لم يكن "سامح المسامح" يعرف أنه سيكون ضحية القرصان.... مقاول الأنفار، تاجر العسل...
إنه يبيع البشر بالجملة والمفرق، ذلك القرصان المسمى رداد الهاشمي!
من أي كوكب سقط..؟ لا ندري!
لم يكن سامح لوحده، كان معه آلاف، وليس عشرات، باعهم رداد الهاشمي بيعة رخيصة وحقيرة.
وبعد هذه السنوات يعود سامح من أعماق الصحراء طيفًا يناديني:
لم أكن أدري يا أبي أن الأمور ستكون هكذا.
وأرد عليه:
طيفك سيظل يحوم ويدور في فضاء قرية الردع، شاهدًا على زمن القتلة، حيث يرثي القتيل قاتله، ولا يدري من اغتاله وقتله.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً