في تصريح لافت قال وزير الخزانة البريطاني، دارين جونز، إن "العولمة كما عرفناها خلال العقود الماضية قد انتهت".جاء هذا التصريح عقب إعلان إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل أيام عن فرض رسوم جمركية جديدة وواسعة النطاق شملت بريطانيا، في خطوة وصفها ترامب بـ"يوم التحرير"، فيما تعتبرها أوروبا والصين موجة ضارية من الحروب التجارية.
دفعت هذه المستجدات الحكومة البريطانية إلى التفكير بشكل مختلف عمّا اعتادت عليه في عالم كانت فيه التجارة الحرة هي القاعدة، والعولمة هي المحرّك الرئيسي. رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، أشار بوضوح في مقالة له إلى أن "العالم كما نعرفه قد انتهى"، معلناً عن توجّه حكومي جديد نحو تدخل الدولة لحماية المصالح الاقتصادية الوطنية، خاصة في ظل ما قد تسببه هذه الإجراءات من ركود عالمي.
لطالما ارتكزت العولمة على مبادئ مثل تقليص القيود التجارية، وتوسيع سلاسل التوريد الدولية، وخفض التكاليف من خلال التصنيع في الخارج، وهو الأمر الذي استفادت منه الدول الكبرى والصغرى من خلال استيراد المنتجات الرخيصة وزيادة الفرص الاستثمارية عبر الحدود.
لكن التحوّلات الأخيرة في الأعوام القليلة الماضية، بدءًا من الأزمات الجيوسياسية إلى تأثير جائحة كورونا، ومروراً بتصاعد الحمائية الاقتصادية (Economic Protectionism) التي تتبعها الحكومات لحماية المنتجات المحلية من المنافسة الأجنبية، من خلال فرض قيود على الاستيراد، كل هذا أظهر هشاشة النظام العالمي، وأصبح من الواضح أن الدول لم تعد ترى الاعتماد المتبادل كقوة، بل كنوع من الضعف الاستراتيجي.
ردود بريطانيا على ما يحدث كانت أكثر هدوءً من غيرها حتى الآن، إذ فضلت الحكومة السير في طريق التفاوض على اتفاق تجاري جديد مع أمريكا يخفف من وطئة الرسوم الجمركية على صادراتها لأمريكا، وفي الوقت نفسه -كما أعلن ستارمر- العمل على تعزيز الإنتاج المحلي، والاستثمار في المهارات والقطاع الصحي، إلى جانب بناء علاقات تجارية أكثر "أمانًا" مع حلفاء موثوقين.
قد يرى البعض أننا أمام نهاية فعلية للعولمة، أو حتى أننا بصدد تشظٍ عالمي يعيد رسم خارطة الاقتصاد الدولي، ويؤسس لما يُعرف بـ"العولمة الانتقائية" (Selective Globalization)، حيث تختار الدول شركاءها بناءً على المصالح الاستراتيجية، لا على الانفتاح المطلق.
غير أن البعض يقول إن ما يحدث الآن ليس بالضرورة أن يكون "انهياراً للعولمة" بقدر ما هو تحوّل عميق في فلسفتها، فبدلًا من السعي لتحقيق الكفاءة الاقتصادية القصوى (Maximum Efficiency)، أصبح التركيز الآن على المرونة والسيادة والسيطرة، ومع هذا يظل السؤال مفتوحاً: هل ما نشهده هو النهاية الحقيقية للعولمة، أم أننا أمام نقطة إعادة تشكيل لعالم اقتصادي (وبالتالي سياسي) أكثر حذراً وتوازناً؟ وقد يكون السؤال الأكثر أهمية: هل النظام العالمي كما عرفناه القائم على احترام سيادة الدول ومبادئ حقوق الانسان والقانون الدولي بات هو الآخر مهدداً؟ هذا ما سنراه في قادم الأيام.