قراءة في رسالة الإمام يحيى إلى زعماء أوروبا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية (ألمانيا -فرنسا -إيطاليا -بريطانيا) التي توضح كم هو الفارق بين حكام اليوم وحكام الأمس، حين طالب اليمن الأمس دول العالم بوقف الحرب العالمية، وبين اليوم الذي يعد فيه أبناء اليمن العاقون العدة للشمال حرب ضروس.
جاء في الصفحة الأولى من صحيفة "الإيمان" ما لفظه*:
"برقية جلالة مولانا ومليكنا أمير المؤمنين الإمام أيده الله إلى رؤساء حكومات الدول الأربعة أصحاب الفخامة الهر هيتلر والمسيو دلاديه والسنيور موسوليني والمستر تشمبرلين المحترمين
بتاريخه 9 شعبان سنة 1357
الموافق 2 تشرين الأول سنة 1938
لقد استبشرنا في اليمن باجتماعكم لفض النزاع بالطريق السلمية، وعودة الصداقة بين الشعوب التي انضوت ضمن المعسكرين المتحاربين، والعزم على وقف الحرب التي لا تليق بمكانة دولكم وتطلع شعوبكم لتحقيق حياة آمنة مستقرة في ظل علاقات بين شعوب دول العالم يسودها السلام والتعاون في عصر المدنية الحاضرة، وسياسة الوفاق بين شعوب العالم، والتعاون في خدمة الإنسانية ووقف نزيف الدماء والحفاظ على مقدرات شعوبكم. وإننا إذ نشد بأياديكم على ما بذلتموه من جهود في سبيل تحقيق السلام، وذلك جدير بالتقدير والثناء من عموم البشر، وستشكركم عليه الأجيال الحاضرة والمستقبلية، وإني لأدعو الله أن يوفقكم لإدامة التضامن والاتفاق والتعاون الدولي في سبيل خلاص البشر من الحروب، وأن تكونوا أبطالًا للسلام والتسامح وإفشاء المحبة بين البشر في العالم والتسامح بين الأمم بجميع دياناتها ومللها ونحلها. وبأعمق مشاعر المحبة والسرور أقدم لحضراتكم أخلص تبريكاتي من صميم فؤادي. وانطلاقًا من غبطتي وسروري بنجاح مؤتمركم، والتوصل إلى قرارات من شأنها أن توفق بين شعوب العالم، أبادر إلى لفت أنظار كياستكم وعواطفكم الإنسانية إلى التأمل والتفكر بأنه لا يمكن التفريق بين الغرب والشرق، فكل مصيبة في إحدى الجهتين يكون صداها مستوليًا على الجهة الثانية بدون شك ولا شبهة، وأمر فلسطين العربية المقدسة عند المسلمين والمسيحيين على العموم، ها هي حتى الآن تسيل فيها دماء الوطنيين منذ سنين على صورة لا تليق بالقيم الإنسانية، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من ظلم والاستيلاء على أراضيه بتعاون من بلدانكم وبطريقة بشعة ليس لها نظير في العصور القديمة، ولا العصور الحاضرة، فما سمعنا بقتل وطنيين في مملكة لإقامة بناء دولة لليهود، وتأسيس الدولة اليهودية في فلسطين أو تقسيم فلسطين معناه إلقاء قنبلة فتنة بين الملل الإسلامية والمسيحية واليهودية جميعها، ولن تنطفئ نارها إلى الأبد، وستكون أداة إخلال السلام في كل آن، والمسلمون في العالم كله في أشد الحزن والأسى، ولن يسكتوا على ما يتعرض له الفلسطينيون من أذى وظلم لا يجوز لشعوب العالم السكوت أكثر. واستكمالًا لمساعيكم لتحقيق السلام بين شعوبكم، نرجو سعيكم لوقف الحرب ضد الفلسطينيين أصحاب الأرض من قبل معتدين غاصبين، وإتمامًا لمساعيكم للسلام العام، ومنع الفساد، وطي أسباب الطغيان، أن تجتمعوا، وتفكروا في هذه المسألة الواجبة الفصل والختم، وأن تتداركوا مكانًا طيبًا كافيًا مثمرًا يليق باليهود في غير فلسطين الإسلامية العربية المقدسة عند المسلمين إلى الأبد، ويكفي ما أريق فيها من دماء الأبرياء إلى الآن، وأتمنى قبول استعطافي بحسن نية وحسن تفسير، فهو باسم السلام العام البشري في الحاضر والمستقبل، وتفضلوا بقبول فائق احترامنا العظيم لدولكم وشعوبكم الحرة".
*المصدر: جريدة "الإيمان" -صنعاء/ العدد 146/ شعبان المعظم سنة 1357هـ=1938 تقريبًا.
مع تصرف غير مخل بالمعنى في الصياغة عن ترجمة الخطاب من اللغة الفرنسية من قبل وزير خارجية الإمام يحيى القاضي محمد راغب بك الأسطنبولي.
قراءة للرسالة
من خلال قراءة رسالة الإمام يحيى إلى زعماء أوروبا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، تحمل دلالات عميقة تتجاوز زمنها، إذ تعكس رؤية واضحة نحو السلام والتعاون الدولي. كم نتمنى أن يستفيد منها "أنصار الله"، ويتعرفوا على تحقيق سلام الشجعان، وأن يتعظوا من التاريخ؛ فالسلام غاية إسلامية، وتحية المسلمين هي السلام؛ والسلام من أسماء الله الحسنى؛ وإن القوة والسلاح ما هما إلا للتخويف والترهيب، وأن يتعلموا من رسالة الإمام يحيى التي يبرز فيها أهمية إنهاء النزاعات من خلال الحوار، مشددًا على أن الحروب لا تتناسب مع مكانة الدول وتطلعات شعوبها نحو الاستقرار والأمان. كما يسلط الضوء على القضايا الإنسانية، مثل القضية الفلسطينية، مؤكدًا على ضرورة حماية حقوق الشعوب، ورفض الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون.
تظهر الرسالة حكمة الإمام يحيى في الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الكبرى، مما يبرز أهمية التوازن في العلاقات الدولية، ويشير إلى أن الأزمات في منطقة معينة يمكن أن تؤثر على العالم بأسره. هذا الوعي الشامل يعكس الحاجة إلى التعاون الدولي لمواجهة التحديات المتزايدة. علاوة على ذلك، تُعتبر الرسالة مصدر إلهام للأجيال الحالية، إذ تدعو القادة إلى التعلم من التاريخ والسعي نحو تحقيق العدالة والسلام.
تظل رسالة الإمام يحيى ذات صلة حتى اليوم، إذ تعكس أهمية الحوار والتفاهم بين الدول في عالم مليء بالتوترات والصراعات. إن دعوته لتحقيق السلام والتعاون الدولي تظل نموذجًا يُحتذى به في الدبلوماسية والسياسة العالمية، إذ يُظهر كيف يمكن للقادة اتخاذ مواقف حكيمة تسهم في بناء عالم أفضل.
تتعدد الوثائق التاريخية التي تعكس دعوات للسلام والتعاون الدولي، وتحمل رسائل مماثلة لتلك التي أرسلها الإمام يحيى إلى زعماء أوروبا، مثل خطابات المهاتما غاندي. تتشارك هذه الوثائق في العديد من العناصر الأساسية التي تعكس الوعي بأهمية السلم والتفاهم بين الشعوب. في خطابات غاندي، نجد دعوات قوية لرفض العنف وتعزيز التعايش السلمي، إذ يؤكد على أن الحلول السلمية هي الوحيدة القادرة على تحقيق العدالة. يتجلى ذلك أيضًا في رسالة الإمام يحيى، الذي دعا إلى إنهاء النزاعات من خلال الحوار وحماية حقوق الشعوب، مؤكدًا على أن الحروب لا تتناسب مع تطلعات الإنسانية.
كل من الإمام يحيى وغاندي يبرز أهمية حقوق الإنسان، إذ يسعى الأول لحماية حقوق الفلسطينيين، بينما يؤكد الثاني على حقوق جميع الأفراد دون تمييز. تتضمن الوثائق الأخرى، مثل رسائل الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت وبيانات الأمم المتحدة، أيضًا دعوات مماثلة لتحقيق السلام والاستقرار، مما يعكس الوعي العالمي بأهمية التعاون الدولي في مواجهة التحديات المشتركة.
تتضمن هذه الوثائق دعوات للتعاون بين الدول والشعوب، إذ يُظهر الإمام يحيى وغاندي أن الأزمات تؤثر على الجميع، وأن المعاناة في منطقة معينة تترك أثرها على العالم بأسره. يتشارك كل من الإمام وغاندي في قيم أخلاقية عالية، مثل التسامح والمحبة، ويشددان على ضرورة نشر هذه القيم في العلاقات الدولية.
تمثل هذه الرسائل والخطابات نماذج ملهمة للقيادة الأخلاقية، إذ تتضمن رؤية مستقبلية لعالم يمكن أن يعيش فيه الناس في سلام وتعاون، مما يعزز من أهمية الحوار كوسيلة لحل النزاعات. تُظهر المقارنة بين رسالة الإمام يحيى وخطابات غاندي كيف يمكن للقيم الإنسانية المشتركة أن تتجاوز الحدود الثقافية والجغرافية، مما يسهم في بناء عالم أفضل.
ومن المؤكد أن الامام يحيى اعتمد على قادة كبار كالأمير علي عبدالله الوزير والسيد عبدالله أحمد الوزير والسيد محمد بن يوسف الكبسي وسيف الإسلام أحمد بن قاسم حميد الدين، وقد أبقى على خبرات تركية في المجالين العسكري والمالي والشوؤن الدولية الخارجية، وكان من أبرزهم محمد راغب بك الأسطنبولي، وقد عده المؤرخون أنه مؤسس اليمن الحديث، حسب رأي الدكتور السيد مصطفى سالم، في كتابه "تكوين اليمن الحديث"؛ فقد كانت اليمن ممزقة على مستوى المحافظة الواحدة التي يتقاسمها المشايخ والسلاطين، ووحد اليمن لولا وقوف البريطانيين ضده لوحد الجزيرة العربية كلها، فدعم البريطانيون عبدالعزيز، وقاموا بقصف ذمار وتعز بالطيران؛ وقد قام بتأسيس أول جيش نظامي وفتح كليات حربية وطيران، وأرسل بعثات طيران وطب إلى إيطاليا، واشترى منها عشر طائرات، وأرسل بعثات عسكرية إلى العراق، واستقدم مدرسين من مصر والعراق، وبعثات إلى الأزهر وإلى لبنان. ولولا بخله وعدم قبوله للنفاق والمداحين، فقد مدحه على سبيل المثال الشاعر محمد محمود الزبيري بأكثر من قصيدة، لكنه لا يلتفت إليها، ومنها القصيدة التي قال فيها:
نور النبوة من جبينك يلمعُ
والملك فيك إلى الرسالة ينزعُ
يكفيك أن المصطفى لك والدٌ
أفضت إليك به الفضائل أجمعُ
يكفيك أن الدين وهو مشردٌ
من سائر الأقطار نحوك يفزعُ
لا غرو أن تحميه فهو أمانةٌ
من جدكم في عرشكم مستودعُ
من أين يأتيك العدو وأنت في
أرضٍ تكاد صخورها تتشيعُ
يا ابن النبوة أين نذهب عنكمُ
والغرب منتظرٌ لنا يتطلّعُ
تالله لو حاد امرؤٌ عن أمركم
لم يأوه إلا "التفرنج" موضعُ
ما للعباد سواك إلا فتنة
عمياء أو كفرٌ يضل ويصرعُ
فهو براجماتي ميكيافيلي لا يعبأ بمن هجاه ولا من مدحه، لكنه في آخر أيام حكمه انتقل من الإمامة إلى الملك، وبدأ بإقصاء من كان لهم الدور الرئيسي في نجاح سلطته، وتعيين أولاده، فعزل الأمير عبدالله الوزير من لواء تعز، وعين ولده سيف الإسلام أحمد في تعز، والحسن في لواء إب، وعبدالله في لواء الحديدة، وقد استرخى على سرير المحكمة، ما أدى إلى الانقلاب عليه.
السلام السلام السلام
تحقيق السلام، سواء على المستوى العالي أو المحلي، يعد أمرًا بالغ الأهمية لتحقيق استقرار المجتمعات وتقدمها. السلام العالي يعزز التعاون بين الدول، مما يسهم في تقليل النزاعات والحروب، ويشجع على التنمية الاقتصادية والاجتماعية. أما السلام المحلي، فيساعد في بناء مجتمعات متماسكة تعيش في تناغم، مما يقلل من العنف، ويعزز روح التعاون والتفاهم بين الأفراد.
السلام هو أساس التنمية المستدامة، إذ يتيح الفرصة للناس لبناء علاقات قوية، وتحقيق حقوقهم، والاستثمار في المستقبل. عندما يعيش الناس في بيئة سلمية، يمكنهم التركيز على التعليم والصحة والرفاهية، مما يؤدي إلى تحسين جودة الحياة بشكل عام. لذا، فإن تحقيق السلام ليس فقط هدفًا بحد ذاته، بل هو وسيلة لإحداث تغييرات إيجابية مستدامة في جميع جوانب الحياة.