في تاريخ اليمن الحديث ظهرت شخصيات سياسية عديدة، بعضها صنع التحولات الكبرى، وأخرى كانت مجرد ظواهر عابرة تلاشت مع تبدل الولاءات والمصالح.. لكن قلة منهم استطاعت أن تظل ثابتة في مواقفها، غير خاضعة لمغريات السلطة أو رهانات اللحظة في هذا السياق؛ يبرز الأستاذ محمد سالم باسندوة كواحد من السياسيين القلائل الذين حملوا مشروعًا وطنيًا يتجاوز الحسابات الشخصية والمناطقية.
في أغسطس 2022، حظيت بلقاء مميز مع باسندوة في منزله بالقاهرة، برفقة رفيقي الدائم أنور خالد شعب، هو الآخر لم يكن مجرد صديق درب ورفيق رسالة، بل كان شريكًا في الانشغال العميق بقضايا الوطن، بروحه النبيلة وحسّه الواعي.. هناك تجلّت أمامنا صورة رجل مازال يحمل همّ اليمن في صدره، رغم ابتعاده عن المشهد السياسي الرسمي، وقد بدت ذاكرته المتقدة ودموعه الصادقة علامةً على جرحٍ لم يلتئم، جرح الوطن الذي لم يفارقه رغم المسافات وتقلّبات الأيام.

في حضرة باسندوة.. أدركنا أن بعض القادة، مهما اختلفت حولهم الآراء، يظلون أوفياء لقضاياهم حتى آخر الطريق، يُعبرون عن معاناتهم لا بالخطابات المنمقة، بل بمشاعر إنسانية صادقة تشي بعمق الألم والمسؤولية. وما أحوجنا في زمنٍ تتقاذفه الرياح، إلى مثل هذه النماذج التي تبرهن على أن الوفاء للوطن أسمى من كل المواقف العابرة، وأن القيم عندما تُترجم بدمعة أو كلمة صادقة تظل شاهدةً على صدق الانتماء.
فلم يكن هذا العظيم مجرد سياسي يبحث عن النفوذ أو المناصب، بل كان مؤمنًا بمشروع اليمن الكبير، وظل وفيًا لهذا الإيمان طوال ستين عامًا دون أن يتأثر برياح الانقسامات التي عصفت بالمشهد السياسي اليمني.. فهو ليس شماليًا ولا جنوبيًا، وليس قبليًا ولا مناطقيًا، بل يمنيًا خالصًا، تجاوز في رؤيته للوطن حدود الجغرافيا والكيانات السياسية.
إن الحديث عن باسندوة ليس مجرد استعادة لسيرة شخصية، بل هو إضاءة على تجربة سياسية فريدة في بلد عانى كثيرًا من تقلبات النخب الحاكمة؛ فبينما تبدلت مواقف السياسيين اليمنيين وفقًا للظروف، ظلّ باسندوة ثابتًا على مبدأ الجمهورية، والوحدة، والمدنية، دون أن ينجر إلى الاستقطابات التي مزقت اليمن، حضر كالأباء المؤسسبن الأوائل النعمان وباذيب والجاوي والحكيمي والزبيري وفتاح وفيصل عبداللطيف وسلطان أحمد عمر والإرياني والكبسي.
مناضل بالفكر والسياسة
كما تقول مذكراته وُلد محمد سالم باسندوة عام 1935 في مدينة عدن، في وقت كانت المدينة تحت الاحتلال البريطاني، وكان الجنوب اليمني يعيش في ظل استعمار دام أكثر من قرن.. فمنذ صغره، انخرط في العمل السياسي عبر الصحافة والكتابة، إذ كان أحد الأصوات البارزة المطالبة بالاستقلال.. لم يكن مجرد ناشط سياسي، بل كان مثقفًا موسوعيًا حفظ أكثر الشعر العربي قديمه وحديثه، لم تكن مجرد موهبة، بل هو انعكاس لعمق ثقافته التي منحت خطابه السياسي بعدًا يتجاوز السطحية التي تميز كثيرًا من القيادات اليمنية يمتلك رؤية فكرية تستند إلى تاريخ اليمن الكبير.
أسهمت نشأته في عدن في تكوين شخصيته السياسية، إذ عايش تحولات كبيرة في الحياة السياسية اليمنية، بدءًا من النضال ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب، مرورًا بدعم الثورة الجمهورية في الشمال عام 1962، ثم المشاركة في تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990، وصولًا إلى دوره في الثورة الشبابية عام 2011 التي أطاحت بنظام علي عبدالله صالح.
لم يكن باسندوة مجرد سياسي تكتيكي يبحث عن المناصب، بل كان صاحب مشروع وطني يستند إلى ثلاثة مرتكزات رئيسية:
1. اليمن الموحد كحتمية تاريخية وجغرافية.
2. الجمهورية كخيار لا بديل عنه.
3. المدنية كهوية سياسية في مواجهة القبيلة والمناطقية.
دوره في الاستقلال اليمني وبناء الدولة
كان باسندوة أحد الأصوات البارزة في مرحلة الكفاح ضد الاستعمار البريطاني في اليمن، وأسهم في تأسيس الحركات السياسية المناهضة للاستعمار، مما جعله في طليعة النخبة التي ساعدت في تحقيق الاستقلال عام 1967.
ورغم كونه من الجيل الذي ناضل من أجل الاستقلال، فإنه لم يقع في فخ الأيديولوجيات الضيقة التي سادت تلك المرحلة. فعلى عكس العديد من السياسيين اليمنيين الجنوبيين الذين انخرطوا في مشروع اشتراكي متشدد أدى إلى صراعات دامية ومؤسفة في الجنوب العزيز، كان باسندوة يدعو إلى تبني نموذج أكثر انفتاحًا وتوازنًا بين التيارات المختلفة.
بعد الاستقلال لم يركن إلى المناصب أو النفوذ مع أنه كان في قلبها، بل ظل يعمل من أجل بناء الدولة اليمنية الحديثة، مدافعًا عن قيم العدالة والمواطنة، بعيدًا عن العصبيات التي سادت المشهد اليمني.
ثبات لا يتغير
إذا كان هناك مبدأ لم يساوم عليه باسندوة طوال حياته، فهو إيمانه المطلق بالجمهورية والوحدة.. فلم يكن مؤمنًا بهما فقط من الناحية العاطفية؛ بل كان يرى فيهما الخيار الاستراتيجي الوحيد الذي يمكن أن يحقق لليمن استقراره وازدهاره.
فمنذ قيام ثورة 26 سبتمبر 1962، وقف باسندوة في صف الجمهورية، مؤمنًا بأنها السبيل الوحيد لخروج اليمن من قرون من الاستبداد والإقصاء، وعندما شهدت الجمهورية محاولات انقلابية أو تحولات تهدد جوهرها، لم يتردد في الدفاع عنها.
حتى في المراحل التي تآمرت فيها بعض القوى على الجمهورية من الداخل، سواء عبر استغلالها لتحقيق مصالح شخصية، أو عبر محاولات الانقلاب عليها لصالح مشاريع سلطوية، ظلّ باسندوة صوتًا جمهوريًا نقيًا، رافضًا أية تسويات تهدد النظام الجمهوري.
موقف استراتيجي ثابت
لم يكن باسندوة من الذين تعاملوا مع الوحدة كحالة سياسية ظرفية أو كخطاب سياسي مرحلي، بل كعقيدة راسخة شكّلت هويته السياسية رأى فيها استحقاقًا تاريخيًا لشعب واحد تجمعه الثقافة واللغة والمصير المشترك. ومنذ اللحظة الأولى لتحقيق الوحدة عام 1990، كان أحد أشد المدافعين عنها، رافضًا أية دعوات للانفصال أو التشطير.
حتى عندما أخفقت النخبة السياسية في إدارة الوحدة، وأصبحت الوحدة في نظر البعض مشروعًا هشًا بسبب سوء الإدارة والفساد والاغتيالات، ظل باسندوة يرى أن الحل ليس في التقسيم، بل في تصحيح الأخطاء وإعادة بناء الدولة بشكل عادل ومتوازن.
لم يساوم على موقفه، ولم ينجرف إلى موجة التبرير التي دفعت بعض السياسيين إلى الانقلاب على الوحدة، سواء بدوافع انتهازية أو كرد فعل على أخطاء النظام.
ثبات رغم الضغوط
في بلد مثل اليمن.. حيث تتغير الولاءات السياسية بسرعة البرق، وحيث يتحول الأصدقاء إلى أعداء والعكس خلال فترات قصيرة، ظلّ باسندوة حالة استثنائية من الثبات.
بينما تهافتت النخبة السياسية اليمنية على المناصب، وانتقلت من معسكر إلى آخر بحثًا عن النفوذ، كان باسندوة رجلًا نزيهًا لم يبع مواقفه. لم يسعَ وراء وزارة أو سفارة، ولم يكن جزءًا من الصفقات السياسية التي أفسدت المشهد اليمني.
على مدى العقود الستة الماضية، شاهد باسندوة كيف أن بعض السياسيين اليمنيين انقلبوا على أنفسهم، وبدلوا مواقفهم، وغيّروا قناعاتهم وفقًا لمعادلات المصالح.. لكنّه ظلّ ثابتًا، رافضًا أن يكون جزءًا من لعبة المصالح الضيقة التي دمّرت اليمن، وظلّ سياسيًا مدنيًا خالصًا منحازًا لقيم التحرر والاستقلال والديمقراطية في بلد تآكلت فيه السياسة تحت وطأة السلاح والمصالح.
موقف باسندوة بين الإصلاح والتغيير
عندما اندلعت الثورة الشبابية في اليمن عام 2011، لم يكن باسندوة مجرد مراقب، بل كان جزءًا من المشهد، داعمًا لمطالب التغيير والإصلاح السياسي.. لم يكن من دعاة الفوضى، لكنه كان يرى أن اليمن بحاجة إلى تحول سياسي يفتح المجال أمام دولة مدنية حديثة.
كما لم يكن موقفه انتهازيًا كما فعل بعض السياسيين الذين ركبوا موجة الثورة بحثًا عن مواقع جديدة، بل كان موقفًا مبدئيًا يعكس رؤيته العميقة لمستقبل اليمن.
بعد الثورة، وخلال المرحلة الانتقالية؛ شغل منصب رئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية، لكنه سرعان ما أدرك أن المصالح الحزبية والضغوط الإقليمية جعلت من الصعب تنفيذ أي إصلاحات حقيقية.. ومع ذلك ظلّ مؤمنًا بأن اليمن بحاجة إلى تغيير جذري، وليس مجرد تبادل للسلطة بين النخب التقليدية المعتادة.
وحينما سقط كثيرون في مستنقع الصفقات والمكاسب الضيقة، بقي باسندوة شاهدًا على زمنٍ كان يمكن أن يكون لليمنيين وطن مختلف، لو لم تخذلهم نخبهم السياسية.
الرسالة الأخيرة.. كيف ينظر باسندوة إلى مستقبل اليمن؟
اليوم.. وبينما تعيش اليمن واحدة من أصعب مراحلها، يبقى باسندوة شاهدًا على تاريخ طويل من التحولات.. قد لا يكون حاضرًا في المشهد السياسي كما في السابق، لكنه يظل رمزًا للسياسي النظيف، الذي لم يغيّر مبادئه، ولم يبع وطنه، ولم يركض خلف السلطة.
في زمن يتغير فيه السياسيون كما يغيرون سياراتهم وأحذيتهم، يبقى محمد سالم باسندوة درسًا في الثبات والنزاهة، ونموذجًا نادرًا لرجل دولة لم يخن وطنه، ولم يساوم على قناعاته، ولم يبدل جلده تحت أي ظرف.
ولعلّ رسالته الأخيرة للنخبة اليمنية: اليمن أكبر منكم جميعًا، فلا تجعلوه رهينة لمصالحكم الضيقة.
سيبقى الأستاذ الكبير محمد سالم باسندوة جزءًا من ذاكرة اليمن الوطني الكبير، راسخًا كجبالها، محفورًا في ذاكرة أبناء شعبه كخطوط المُسند، يُعلّم النخبة اليمنية المهترئة أن تقسيم الأوطان عار، وأن تفتيت الشعوب خيانة.. ليس لأنه كان الأكثر نفوذًا أو سلطة، بل لأنه كان الأكثر صدقًا وإخلاصًا لفكرة اليمن الواحد. وحين تتلاشى الأسماء المتبدلة التي صنعتها التحالفات المؤقتة، سيظلّ اسمه رمزًا للسياسي الذي لم يبع وطنه، ولم يغيّر جلده، ولم يخن مبادئه حتى النهاية.