باغتنا خبر رحيل صديقنا الدكتور عبدالباري دغيش، عضو مجلس النواب، قبل ساعتين، وأوجع قلوبنا.
يا له من نبأ حزين ومفجع!
لم يكن هذا النائب الجميل والمهذب يعاني من أية علل أو حتى نقول كبير بالعمر كي يرحل بهذه السرعة وفي هذا التوقيت.
ليس لدينا أي تفاصيل متعلقة بأسباب رحيله المفاجئ. لكن تلك أقدار الحياة وقانونها الحتمي: الموت!
كان الدكتور عبدالباري دغيش من أطيب وألطف أعضاء مجلس النواب اليمني على امتداد عقدين من الزمن، وربما الأجمل والأروع في كل المراحل: ألف رحمة ونور.
مثّل مديرية "دار سعد" التابعة لمحافظة عدن، خير تمثيل. والحقيقة كان هذا الرجل من خيرة رجال اليمن الذين مثلوا الأمة اليمنية كلها.
ولد عام 1959 طبقًا لبياناته على موقع البرلمان اليمني. وقد صعد إلى مجلس النواب في انتخابات 2003 بفوز كاسح لأنه كان من أشهر أطباء عدن المرموقين الذين كرسوا مهنتهم لخدمة المجتمع بعائد بسيط، ولاتزال سمعتهم وشهرتهم واسعة في كل نواحي عدن وحافاتها.
وقد رأيته ذات مرة يكتب دواء لأحد حرّاس المجلس، ويعطيه قيمة الدواء من جيبه.
وعلى مدى 21 عامًا من العمل النيابي الطويل، حل هذا النائب على البرلمان كالنسمة: كان أفضل أعضاء لجنة الصحة والسكان.. لا يغيب عن الجلسات العامة صباحًا، ولا عن حضور اجتماعات اللجان في الفترة المسائية. وعندما يطلب أحد أبناء دائرته خدمة يرحب به كضيف (وما أقل طالبي الخدمة من أبناء دوائر عدن).
أُسندت إليه مؤخرًا لجنة "الصحة"، ولكم أن تسألوا موظفي اللجنة وأن تطّلعوا على تقاريرها المهنية والمرتبة والمنحازة للوطن وللناس.
عبدالباري دغيش شخصية وقورة وهادئة ولديه الاستعداد لحضور أية فعالية مدنية يدعى إليها، وأن يسير في خدمة أي إنسان طلب منه منفعة ورآه يستحقها. ولطالما كان أحد المرشحين لتولي حقيبة وزارة الصحة العامة والسكان.
يأتي إلى البرلمان ماشيًا ببدلة أنيقة وشعرٍ مرتب بمشطة مائلة مثل أي شخصية عدنية عاش طفولته في زمن الإنجليز.
في صوره كلها كما هو على الواقع لا يظهر الدكتور عبدالباري دغيش إلا مبتسمًا. وكان من خيرة رجال اليمن وفضلائها.
كان من أكثر النواب استعارة للكتب من مكتبة البرلمان، وكان غالبًا ما يقرأ بالإنجليزية، ولم يسجل عليه نقطة غياب إلا نادرًا في حوافظ الدوام.
يتكلم باتزان وهدوء، وفي إحدى المرات -وبينما هو قد شرع في قراءة المحضر بناء على طلب رئيس الجلسة- رأى أحد الزملاء يتلهف لقراءة المحضر هو كما جرت العادة، وينظر إلى الراعي بلوم وعتب، وبإشارة إلى صدره: "ما لك اليوم؟"، فابتسم الدكتور عبدالباري ونظر إلى زميله الأكبر سنًا منه: "تعال تعال يا عم (ن) واصل قراءة المحضر، عندي مشكلة في الصوت". فرح العم ن وشكره من قلبه، وبكل هدوء عاد الدكتور عبدالباري إلى مقعده يتصفح الجريدة.
إنه النائب الأكثر تهذيبًا، والشخصية التي لا يمكن أن تكون انصدمت بأحد من زملائه أكانوا في المعارضة أو الحكم.
كان مثقفًا رصينًا وحداثيًا واعيًا لتعقيدات التطور الاجتماعي والسياسي في اليمن، لكنه كان متخففًا من التقديرات السياسية لمآلات الوضع العام في اليمن. كان يرى قبل 2011 أن "كل شيء يسير على ما يرام، ولكن ليس على ما يرام". وعندما سألته عام 2013: "كيف الوضع العام في البلد يا دكتور؟"، منتظرًا إجابته المعتادة، فكان رده هذه المرة قطعيًا: "ليس على ما يرام أبدًا يا صديقي".
رحم الله الدكتور عبدالباري دغيش، الحاصل على ماجستير طب عام، والحائز على حب كل من عرفوه.