أول حوار معه بعد صدور روايته الأولى "أجواء مباحة"
الروائي أحمد السلامي لـ"النداء الثقافي": لم أجعل الذات محورها كما تورط كثيرون
حاوره: محيي الدين جرمة
على سبيل التوطئة:
"كان هاجسي الاختلاف والإضافة" كما يقول، غير أن ما يلفت في تجربة الشاعر والكاتب الروائي اليمني أحمد السلامي، هو أنه من النوع القليل والنادر، ممن يولون موهبة "الإصغاء" لإحساس ونداء التجربة من الداخل أهمية وشأوًا كبيرًا من التأمل النقدي والاستنتاج الذي لا تهمه النتيجة المحضة، بقدر ما تفضي إليه "المغامرة" من بون شاسع في الرحلة عبر الكتابة والتجريب المتقن في مختبر الكاتب، ومراكمته وبطئه بالأحرى في تمحيص تجارب الآخرين وفحصها لأخذ الدروس: كمعطى ثقافي ومعرفي ونسقي قابل للرؤية المتحولة في ثقافة الآخر القريب والبعيد.
وتبقى مضمرات الخطاب الأجناسي المتعدد، ما نلمسه في سياق ومحطات تجربة السلامي التي تصعدت على مدى ما يقرب من عقدين ونصف، درجات سلم القراءة ومتعة التجربة والفهم لعوالم ما يحيط به، وبدرجة أولى عالم الكتابة التي يصفها بـ"اللذيذة" رغم كل ما قد يشوبها من مرار أحايين، ومتاعب "غالبًا".
هوذا الروائي السلامي ينتزع الصفة من خلال "مفاجأة" صدور روايته الأولى "أجواء مباحة"، الصادرة مؤخرًا عن دار الآداب البيروتية الطليعية والرائدة في النشر، وفي انتقاء ما تنشره أيضًا في غمار دورها النهضوي المتقادم والجديد في عالم النشر وصناعة الكتاب.
يشارك السلامي على هامش معرض الشارقة الدولي للكتاب، وإن كانت مشاركته في شأن لا يتعلق بالسرد على الأرجح، لكنه غير متوجس كما جرت العادة مع كتاب وكاتبات آخرين حد الفوبيا مما سيعقب ذلك، أي ما قد يوالي صدور رواية أولى لهم. ولعل مرد شجاعة الكاتب هنا واستبساله راجع إلى كون تجربته قد خبرت ودرست أبعاد الخوف والتوجسات لدى كثيرين، على صعيد محلي وطني وعربي، ولماذا التوجس إذن، من مغبة الخسران إذا ما علم أن الرهان في الكتابة للخاسر دومًا؟! لكن ليس بالمعنى السلبي والقهقري للكلمة، أو بحساب الأسهم، فالكتابة رصيدها الحقيقي تجربة صادقة وواثقة مع النفس، وفي حقل الرواية، بالأخص يكفي الكاتب أن يكون معتدًا بنفسه، وقارئًا حويطًا، قبل كونه روائيًا.
يدرك أحمد السلامي أن كثيرين تورطوا في إلصاق "صفة" الروائي بهم، كون تورطهم بالأحرى ربما جاء بعد صدور أكثر من عمل ورواية، وليس "رواياتهم الأولى" فحسب،
غير أن السلامي ينطلق من رؤية مدركة تمامًا لمعنى السير في فخاخ وأشراك "لذيذة"، كما خبر "جماليات اللحظة الشعرية" طيلة عقدين وأكثر، ومايزال، لكنه هنا لا يفارق الشعر إلا ليتجاور معه لغة وفطنة تعي جيدًا مغبة طغيان الشعري على السردي، في لحظة ما أو فصل من شقاقٍ حميم.
قد يوقع السرد الشاعر في مصائده، لكن بعيدًا كما هو "القصد" من كل اجترار وتكرار، إذ يشدد السلامي على ضرورة نأي الكاتب عن: تأثيرات ذاته السالبة في عدم التخفي بعيدًا عن ركوب موجة شخصيات ورقية مصنوعة من لحم الورق الحي كما يفترض.
آمل أن تتبع "أجواء مباحة" أعمال أخرى تذهب إلى مناطق مستبعدة في السرد محليًا وعربيًا
* كيف وجدت شعور القارئ وتفاعله بعد خوض غمار تجربة جديدة لك في كتابة أجواء روايتك الأولى، والتي غدت مباحة للقراء هي الأخرى؟
القارئ متخم بالسرد يحيط به من كل جانب، روايات عربية وروايات عالمية مترجمة من ثقافات الشرق والغرب، وأفلام ومسلسلات على منصات المحتوى الرقمية، وأمام كل هذا يجد كاتب الرواية نفسه في تحدٍّ أكاد أصفه باللذيذ، لجهة ما الذي سيقدمه من اختلاف، والحقيقة أن هذا كان هاجسي: الاختلاف والإضافة ومقاربة موضوعة إن لم تكن سقطت سهوًا فهي من بين المسكوت عنه أو من المحاذير التي لا يضمن السارد أن يقاربها دون الوقوع في أكثر من فخ. هذا التحدي أعجبني، خصوصًا أنها روايتي الأولى، لم أجعل الذات والتجارب الشخصية محورًا لها كما يتورط كثيرون في العمل السردي الأول. ويكفيني أن رواية "أجواء مُباحة" أيقظت لديّ الشغف بالسرد الذي نستهلكه بكثافة في مشافهاتنا وعبر القراءات والتأملات، إلى أن قررت خوض التجربة، وأنجزت هذه الرواية التي آمل أن تتبعها أعمال أخرى مدفوعة بالمزيد من الشغف والحرص على الذهاب إلى مناطق مستبعدة من السرد المحلي والعربي.
* هل كانت كتابة الرواية مغامرة لديك، خيارًا مفاجئًا، أم أمنية مؤجلة؟
كل الافتراضات التي طرحتها في سؤالك المكثف، كانت حاضرة، فالمغامرة كانت موجودة لجهة أن الشاعر الذي اعتاد النص القصير والمكثف سيواجه نوعًا مختلفًا من الكتابة. عندما شرعت في تدوين أولى سطور الرواية، اكتشفت أنني أدخل إلى عالم آخر، وإلى حياة ممتدة لديها مرونة التحرك في الزمن، واستدعاء شخصيات، والتخلي عن أخرى، والإبقاء على غيرها، ونسج مآلات ومصائر، وتأمل حيوات، وسبر أغوار طبوغرافية بلاد لها طباعها التي تتنوع مثل أسواقها ولهجاتها، وهذا التفصيل الذي يتاح للشاعر يجعله يدرك الفرق فورًا بين القصيدة التي تشبه الرشق السريع بالكلمات، وبين الرواية التي تبني وترسم وتتذوق وتقيم حياة موازية، لهذا السبب نعم كانت كتابتي للرواية مغامرة، وكانت خيارًا مفاجئًا لجهة اللحظة التي قررت فيها البدء بتحقيق ما كنت أحسبها أمنية مؤجلة. ثم إن الشروع في كتابة الرواية جاء في الوقت المناسب عندما عرفت أنني قادر على تجاوز الذاتي، وتحرير السرد من التمحور حول التجربة الشخصية لصالح انتقاء موضوع للكتابة يقودها إلى المسلك الذي لا يجعلني أندم على الرواية الأولى أو أستبعدها من لائحة أعمالي في المستقبل إن حالفني الحظ والوقت بإنجاز أعمال أخرى.
حاولت العزف لكنها هواية أنانية تطلب مزيد وقت وتمرين
* خضت في تجريب أنواع أدبية مختلفة، فهل ذلك جاء نتيجة قراءات ومصادر ثقافية متنوعة، أم نتيجة عوامل وتراكمات تخص تجربتك وشروطها الفنية؟
الفن غواية، وربما تتحدث عن فنون الكتابة فقط، والحقيقة أنني حاولت العزف أيضًا، لكن هذه الهواية تعطلت لأنها أنانية، وتطلب المزيد من الوقت والتمرين. وبشأن الأنواع الأدبية لم أكتب سوى الشعر والمقالة النقدية، وأخيرًا جئت إلى الرواية، وما يدفع إلى هذا التنويع ليس بعيدًا عن تنوع القراءات والحاجة إلى استكشاف ممكنات الذات وطرائق التعبير، ولكل منها مساحة في استنطاق الذات وإشباع الشغف بالكتابة، وهي الخيار الوحيد أمامي للتعبير عن الغضب في أحيان وللنقد والتفكير والتأمل في أحيان أخرى.
* هل يقف مزاج الكاتب عند حدود النوع الأدبي، أم يتعداه إلى انزياح دلالات أخرى من الرؤية الواسعة لما حوله، وما أكثر ما تضيق الخيارات الفردية بذلك؟
تأتي أوقات أرى في المشافهة أو التأمل الصامت أو الإصغاء للموسيقى خيارات مناسبة فيها مساحات مختلفة تخلو من المكابدات التي تشترطها الكتابة، لكن الكاتب محكوم أكثر بذلك الصوت الداخلي الذي يخبره أن هذه الفكرة يجب أن تولد على هيئة قصيدة، وتلك مكانها في مقالة، وذلك الهاجس بحاجة إلى رواية ذات مسار زمني يسمح بالتنفس والحياة في أزمنة مختلفة. ومهما تعددت الخيارات تبقى الرغبة في الإبداع البوح وقول شيء للعالم هي المحرك الذي لا يهدف إلا إلى إيقاظ المزيد من الكتابة أو تلقيحها بكتابة أخرى.
* ما الذي يحدث كما تراه في ظل واقع التحولات السلبية لمواقف الكثير من الكتاب والمثقفين العرب تجاه أحداث وغليانات ما يجري من عدوانات في المنطقة العربية؟!
الصمت والاختباء والتجاهل هو الآخر موقف صريح وواضح، ويعبر عن صاحبه، وفي هذا العصر الذي تحولت فيه المخاوف على الرزق والخشية من خسارة الامتيازات المعلومة وغير المعلومة، أصبح إعلان المواقف يرتهن لهذه الحسابات، وأصبح الإبداع حرفة معزولة عن صاحبها، كأنه يبيع سلعة يقولبها باحتراف ناشئ عن عمق خبرته وتجربته في إنتاج المحتوى الإبداعي، بينما يتناقص لديه ذلك الشعور بالواجب الإنساني الذي يحتم الاصطفاف إلى جانب من يطاله القهر والظلم والاستهداف.
يبدو أننا أمام كائنات أدب اصطناعي ينتجه حرفيون اختزلوا مهمتهم في إجادة الصنعة والحفاظ على اشتراطات التسويق والحذر من احتمال التعرض لعقوبات قد تطال حضورهم في المشهد، فيلجأ الأغلبية إلى التخلي عما يحسبون أنها صارت من القيم والأخلاقيات التي تجلب الخسارة، وتدخلهم في صدامات مع آلهة سوق الترفيه في المنطقة والعالم.
العنف الذي نشهده بمفاعيل "صدام الحضارات" ينتقل من المفهوم إلى التطبيق!
* حسنًا، ما الذي ينطوي عليه كل هذا التنويم والتناقض والارتكاس الثقافي والسياسي الذي نشهده في الراهن البئيس لبلداننا ومنطقتنا؟!
هذا العنف الذي نشهده ينطوي على تطبيق لمفاعيل صدام الحضارات الذي تم التنظير له غربيًا، ويراد له أن ينتقل من خانة المفهوم إلى التطبيق. نحن أمام سعي محموم لإقصاء مفهوم الحق لصالح القوة، وأمام جنون العظمة والسعي الحثيث لتعويم القيم والهويات والاختلاف الطبيعي والتجذر بالأرض وما تورثه في أرواح أهلها من الحكمة والإلهام، ويراد لنا الغرق في التشابه، وتجنب الصدام مع الحضارة الغربية التي تعتقد أنها الأعلى والأكثر سموًا من غيرها، وهي التي انبنت أحدث مظاهرها في عصرنا الحالي على حساب السكان الأصليين في أكثر من قارة ومساحة من مساحات العالم.
المواقف صارت مرتهنة لحسابات المصالح والمخاوف على الرزق من خسارة الامتيازات!
قادة الرأي والسياسة والفكر صاروا بلا رؤية وبلا تيار يمتلك زمام المبادرة!
وسائل التواصل: اسفنجة للبوح والفضفضة تمتص الغضب قبل أن يذهب الجميع إلى النوم
* كأنما نعيش ونعتاش على اللامبالاة وزمن الفرجة وغياب العقل، وقبل ذلك غياب الموقف الجمعي، هل أكون أخطأت، ما التفسير الذي يمكن أن تلخصه الحالة الفلسطينية ولبنان تحديدًا؟!
هذه التساؤلات تحاصرني مثلك، وأشعر أن البشر أصابهم خلل فاتني أن أصاب به لعلي أنجو من تأنيب الضمير ومن الشعور بالعجز تجاه ما يجري. وفي الواقع أعتقد أن الجميع لم يبلغوا هذه المرحلة من اللامبالاة إلا بعد أن أرهقتهم الأزمات والحروب والكوارث التي طالت في ظل الشعور بالعجز، وبالتالي يستدعي الناس اللامبالاة، وأتحدث هنا عن العامة، لأن هذا الاستدعاء لا يليق بمن عليهم واجب إنكار ما يحدث ولو بكلمة.
دعك من المجتمعات المنشغلة بهمومها اليومية وحياتها الأكثر من قاسية. من يبلور الرأي الجمعي هم قادة الرأي وأهل السياسة والفكر، وهذا الإطار بلا رؤية وبلا تيار يمتلك زمام المبادرة، في ظل التشتت الذهني وتعدد المصالح وانعدام السوية الفكرية، وسيطرة عديمي الفكر على منابر تشكيل الرأي العام وصناعة المواقف من أدنى إلى أعلى المستويات. ولا تنسى أن لدينا الآن الإسفنجة التي تمتص الغضب قليلًا، وأعني بها وسائل التواصل التي أمست نوافذ افتراضية للفضفضة والبوح قبل أن يذهب الجميع إلى النوم، بعد أن يكتبوا منشورات لا تحمي الضحايا من القصف، ولا تنتشل من يصرخ من تحت ركام البيوت التي تهدمها الغارات على الرؤوس. نحن بحاجة إلى إعادة بناء الوعي الجمعي لتجاوز حالة الفرجة، والانتقال إلى مرحلة الدفاع عن وجودنا الإنساني والأخلاقي.
* إذن، ما الذي يتبقى للأدب من موقف، أو لغة، في ظل تواري رؤوس كثيرين من الكتاب العرب كالنعامات؟
يتبقى للأدب الكثير في معركة من نوع آخر يخسر فيها من يتداعى بأسلوب مباشر بحثًا عن صك البراءة وتسجيل الموقف، لأن منطق الأدب يختلف. الأدب الحقيقي لا يمكنه إلا أن ينتج مواقفه، ولكن بأسلوب الأدب نفسه بعيدًا عن الخطابية والصراخ والشكوى المفتعلة، حتى أولئك الذين دفنوا رؤوسهم إن كانوا أدباء حقًا ستحاصرهم لحظات الكتابة، ولن يملكوا إلا مواجهة ما جرى داخل النصوص بعد أن عجزوا عن المواجهة في الخطاب اليومي والمواقف الإعلامية والمناسبات.
أحيانًا أقول إن الصمود وعدم الإصابة بالانهيار والاستمرار في مواصلة أداء ما علينا من مهام تجاه أنفسنا وتجاه عائلاتنا وتجاه التزاماتنا العملية يعد موقفًا مسؤولًا، لأن الخيار الآخر الأقرب للإهمال والإحباط والتبرير لتوقف الحياة الاعتيادية في الجدول المعتاد والاضطراري لأحدنا يتسبب في عواقب غير جيدة على المدى البعيد، ولا يحقق شيئًا أكثر من مراكمة المزيد من اليأس وتسييجه داخل الروح.
نشهد مظاهر توظيف "الذكاء الاصطناعي" في استهداف سكان غزة والتحول التقني يتزامن مع تسليع الجسد وبيع التفاهة
* التغيير السريع الذي يقوده "السيد جوجل"، وهذا وصف أدق وباكر لك منذ أكثر من عشرين عامًا، هل غدا المثقف الآلة أو الوسيط الرقمي هو البديل الأكثر تأثيرًا وحضورًا لاستلاب مجتمعات الاستهلاك؟
نسيت ذلك، وربما سمعتها من شخص آخر، أظنها شائعة عندما نؤنسن جوجل ونصفه بالسيد، بينما هذه التقنيات ماضية في اتجاه آخر لا نعلم سوى أن أحدث تجلياتها تقبل خدمة المزيد من حروب المستقبل، وقد شهدنا مظاهر لتوظيف الذكاء الاصطناعي في استهداف سكان غزة. ومع كل ما يحدث من تقدم في عالم الإنترنت، نحن من يتغير ومن يستجيب لهذه التطورات، أما الآلة فهي في المتناول، وتقبل القواعد التي يضعها لها المستخدم، ولا يمكن أن تتمادى من تلقاء نفسها ضد من يقرر توظيفها في خدمة المعرفة أو التدمير.
الإشكالية تكمن في أن هذا التحول التقني المتزايد يتزامن مع حالة التسليع وبيع الجسد وتسويق التفاهة وإغراء الناس بأن يصبحوا من اللاهثين وراء تكوين قاعدة جمهور للتأهل إلى مراتب ضمن صفوف المؤثرين. ومفهوم التأثير هنا يرتبط بالقدرة على الانزلاق إلى مستويات من الأداء الذي يرفع رصيد المستخدم من المشاهدات، ولو بتحدي التهام وجبة تكفي عشرة أشخاص في وقت قياسي، وغيرها من الغرائب. لكن بوسع الفرد استدعاء سكينة تهذب روحه، وتجعله ينتفع بهذه التقنيات بصورة إيجابية مبدعة إن أراد ذلك.
هناك فجوة بين عالمين أحدهما يتعرض للانتهاك والمحو الممنهج والإغراق في تبعات الحرب والتفتيت!
ما يحدث يجري تطبيقه لتكريس البعد الآلي والجمود المتغلغل في الحياة بأشكال فردية وجماعية
الروبوت: فاقد للمعنى وتركيزه يضاعف أرباح تخلو من أي التفات للقيمة في بعدها الإنساني
* في عالم اليوم ما الذي تراه ككاتب نشط ومواكب لهذه الفضاءات والموضات المتعددة الأغراض والأبعاد في الهيمنة؟
هناك فجوة بين عالمين؛ أحدهما يمثل الطرف الذي يتعرض للانتهاك، ويقع في خانة المستهدف الذي يواجه المحو الممنهج والإغراق في تبعات الحرب والتفتيت، وما يخلفه انعدام الاستقرار من تداعيات الجوع والفقر والمرض واللجوء، واستمرار ترقب اعتدال مزاج العالم الذي يدعي الحرية وحماية الحقوق. وفي الطرف الآخر أرى عالم الوفرة والقوة يكتنز بالرغبة في محو الاختلاف، والعمل على قيادة الناس إلى مستنقع التشابه المخيف، ابتداء من استنساخ ملامح الوجوه وانتشار معامل قولبة البشر من حيث الشكل، وإفقادهم ذلك التمايز في الملامح، وصولًا إلى تعميم روح الاستهلاك وإخصاء الوعي والتفكير بمنطق جماعي يرى فيه الناس أنفسهم باعتبارهم موظفين في شركة عملاقة مهمتها الدفع باتجاه زيادة الإنتاج التي تقابلها زيادة الاستهلاك، وما يجري مؤسس له نظريًا، ويجري تطبيقه لتكريس البعد الآلي والجمود الذي يتغلغل في الحياة بأشكال فردية وجماعية. وهذه العدوى منتشرة ومفعّلة لتؤدي دورها بشكل استراتيجي حتى داخل المؤسسات والحكومات، الكل يتحدثون مثل الروبوتات عن النمو القادم والازدهار، ولكنه من ذلك النوع الفاقد المعنى، لأنه يتركز حول مضاعفة الأرباح الخالية من المسؤولية الاجتماعية، ومن الالتفات للقيمة في بعدها الإنساني.
الإنسان لم يتوقف عن التصوير بالريشة والكاميرا ظلت بحاجة إلى من يدير اقتناص المشاهد بعين إنسانية
* هل يزداد توجس الكُتّٙاب والأدباء في العالم من منافسة زميلهم الروائي الروبوت أو "الذكاء الاصطناعي" الذي يهدد بكتابة الرواية وتغيير خارطة وتوقعات بيانات ومعارف كتاب السرد وصناعة النشر والكتاب؟
منذ أن بدأ الجدل بهذا الشأن ضربت مثلًا، وقلت إن اختراع كاميرا التصوير الفوتوغرافي أزاح قليلًا فن البورتريه، ونقل الرسم إلى مناطق أخرى برزت عبرها مدارس جديدة في التعامل مع اللون والفن التشكيلي عامة، لكن الإنسان لم يتوقف عن التصوير بالريشة، وظلت الكاميرا بحاجة إلى من يدير اقتناص المشاهد بعين إنسانية.
الحال كذلك مع الذكاء التوليدي الذي يتطور في إنتاج النصوص، وهذا يضاعف من التحدي لدى الأدباء ليضعهم أمام خيار إنتاج أعمال أكثر إخلاصًا للعمق الإنساني والخصوصية المحلية، وما يمكن أن نطلق عليه البصمة الفردية غير القابلة للتزوير أو للاستنساخ. ستنتشر بالطبع تلك الأعمال التي تستنسخ السياق الاصطناعي من بناء الجملة إلى توليد الفكرة إلى خيال الآلة وحلولها للمعضلات السردية والحبكات، لكننا سنصل إلى مرحلة يصبح فيها شغل الكتابة التي تنجزها يد المبدع وشخصيته وأسلوبه، منتجًا عزيزًا تحتفل به رفوف المكتبات كما تحتفل المتاجر بأجود أنواع العطور وأكثرها ندرة. وسيقال في المستقبل إن مضمون هذه الرواية أو هذا الكتاب "توليدي" مصدره الذكاء الاصطناعي، وهذا الكتاب من المخيلة والإبداع البشري.
* عملت في الصحافة الثقافية ومازلت، ما كان حافز الصحافة ونشاطك في التنمية الثقافية خلال بضعة عقود وسنوات مضت، أسست خلالها أهم منصة وموقع "عناوين" الذي عزز من خارطة حضورك وعلاقتك بالكتابة إجمالًا؟
امتهان الصحافة لمن يقرر الاشتغال بالإبداع في اليمن وغير اليمن، مثل الحتمية، إذ لا مجال أقرب للكتابة وعوالمها من الصحافة التي كانت في بعض السنوات مكانًا ملائمًا للاحتفاء بالنص الأدبي، وأحيانًا تغيب مساحة الأدب حتى غابت الصحافة بأكملها كما تعلم بعد أن دخلت البلاد في الإحتراب والفوضى والانقسامات وسلسلة الغيابات التي تناسلت ولا يلوح في الأفق نهاية لها. وحافزي للعمل في الصحافة الثقافية أنها تنقذك من الاضطرار للعمل في مهن أخرى تبعدك عن الاتصال بالكلمات والعمل الثقافي. أما موقع "عناوين ثقافية" فقد كان تجربة ملهمة لكثيرين، لكني متابع جيد لتحولات الإنترنت، وأعرف أن الموقع كان يتناسب مع مرحلة تعرف في عالم الإنترنت بمرحلة "الويب 1" التي تمتاز بالمواقع التي تخزن وتنشر المحتوى، وبدأت منذ التسعينيات، وانتهت بالتدريج مع حلول العام 2004، عندما حل "الويب 2" والمدونات الشخصية وصفحات التواصل الاجتماعي ذات البعد التفاعلي، وأصبح لكل مستخدم صفحته التي توصل ما يريد نشره إلى من يبحث عنه. وإجمالًا ستجد أن العمل في الصحافة الثقافية يبقيك على قيد الحياة إبداعيًا وثقافيًا وفكريًا من خلال اتصالك بالمبدعين وجديدهم.
* بعد نزوحك من صنعاء اضطرارًا إلى عدن والشارقة، ومن ثم القاهرة، حيث تقيم، ما التأثيرات التي لمستها خلال ما يقرب من العقد على اندماجك بمجتمع الكتاب والثقافة العربية؟
أبرز تأثير لمسته هو الوعي بمساحة المشهد الثقافي العربي وتنوعه، وهذا الثراء الذي يستحق الالتفات إليه، والعمل أثناء الكتابة من داخل الوعي به، بالنظر إلى أنك تكتب لقارئ يتجاوز بلدك مادام الحامل اللغوي يوفر لك ميزة التواصل مع المحيط الكبير. وهذا الامتياز غائب عن كثيرين، وأولهم الناشرون الذين لم يستوعبوا ما يوفره مشترك اللغة الواحدة من مساحة للكتاب العربي. وأظن أننا بحاجة إلى ظهور مؤسسة نشر عربية عملاقة تستوعب هذا المنحى، وتنتج الطبعة العربية واسعة الانتشار، وتجيد الوصول إلى القارئ باحترافية عالية، ولو بدراسة واستلهام تجارب مؤسسات النشر العالمية الأكثر خبرة.
التأثير الآخر الذي لمسته من النزوح إلى خارج اليمن، أن الابتعاد عن بيتك ومكتبتك ووطنك يجعل وقتك مكبلًا، وعلاقاتك محدودة. صحيح أنك لن تشعر بالغربة في البيئة العربية، لكنك تبقى منذورًا للعمل، حيث تجلدك المسافة والإقامة في بلاد الآخرين بشروطها التي تتطلب التعويض عن جناية الابتعاد عن الوطن بالعمل ثم العمل دون توقف. لكن إقامتي وعملي لفترة لا بأس بها في الشارقة، جعلاني على اطلاع مباشر بحراك ثقافي عربي نشيط وحيوي. وفي الغالب أصبحنا نعتمد على الإنترنت في الاتصال بمجتمع الثقافة العربية أينما حللنا، بعد أن صار هذا الوسيط أسهل وأسرع وأقل كلفة.