رحيل الدكتور مصطفى حجازي، أحد أعمدة علم النفس الثقافي في العالم العربي، يُعدّ خسارة فادحة ليس فقط للمجال الأكاديمي، بل لكل من عرفه كصوت للوعي والتحرر.
"حجازي كان مثقفًا مسيسًا استطاع توظيف معرفته في خدمة قضية النضال ضد الظلم الاجتماعي والسياسي" الذي يعيشه العرب.
اللبناني الكبير مصطفى حجازي كان يرى في الجماهير العربية شبيهة بـ"خراتيت بيكيت"، تعبيرًا عن الضياع والاغتراب، حيث يتشابه بعضها في الرضوخ للأوضاع القائمة، سواء كان الاحتلال خارجيًا أو داخليًا. كان نقده لاذعًا ورؤيته سوداوية أحيانًا، لكنه كان دائمًا يسعى إلى إيقاظ الوعي، مؤمنًا بأن الفهم النفسي هو مفتاح التحرر السياسي والاجتماعي والثقافي.
تأثر الدكتور حجازي بقضايا المجتمعات العربية، وناقشها من زاوية نفسية بحتة، إذ قدّم تحليلات عميقة حول سيكولوجيا الجماهير العربية. من خلال كتبه الشهيرة مثل التخلف الاجتماعي: سيكولوجية الإنسان المقهور والإنسان المهدور، سلط الضوء على علاقة الفرد بالجماعة، وتأثير الأنظمة السياسية والاقتصادية في إحباط الإنسان العربي وحرمانه من التفكر والتطور. رؤيته كانت أكثر من مجرد نظرة نفسية؛ بل كانت صرخة تحررية تدعو الإنسان العربي إلى الانعتاق من قيود الخوف والعجز.
قضى مصطفى حجازي معظم حياته الأكاديمية في دراسة النفس العربية، محاولًا تفكيك بنية القهر الجماعي الذي يعيشه المجتمع العربي نتيجة الاستبداد. لكن ما جعل من حجازي شخصية مميزة هو قدرته على الدمج بين العمل الفكري والسياسي؛ لم يكن فقط محللًا أكاديميًا باردًا، بل كان مناضلًا يسعى إلى التغيير.
في السنوات الأخيرة، وبسبب الأزمات المتزايدة في العالم العربي، مثل انهيار الأنظمة السياسية وتفاقم الصراعات الداخلية، شعر حجازي بخيبة أمل عميقة. وهو الذي شاهد لبنان، وطنه، يعاني تحت وطأة الفساد والطائفية، رأى في تلك الأزمات تحقيقًا لكثير من النظريات التي قدمها حول الاضطهاد الاجتماعي والسياسي. ولكنه، مع ذلك، استمر في الدفاع عن قضيته، محذرًا من أن الانهيار النفسي للأمم غالبًا ما يسبق الانهيار السياسي.
إن إرث حجازي الفكري لا يقتصر على كتبه فقط، بل يمتد إلى الحوارات التي قدمها والمحاضرات التي ألقاها في مختلف أنحاء العالم العربي. لقد أثّر في أجيال من الباحثين والمثقفين الذين لا بد أن يواصلوا نهجه في تحليل النفس العربية وعلاقتها بالأوضاع الاجتماعية والسياسية. وفاته تشكل لحظة حزن، ولكنها أيضًا تذكير بضرورة استمرار العمل على ما أسسه، وأن علينا، كعرب، أن نفهم أعمق دواخلنا النفسية لنتحرر من القيود التي فرضتها علينا الأنظمة الفاسدة.
رحم الله الدكتور مصطفى حجازي، فقد كان عالمًا نزيهًا ونضاليًا وأخلاقيًا وضميريًا بامتياز، كذلك ستظل مساهماته حية في الذاكرة الجماعية لعشرات الآلاف من المثقفين العرب... صدق مصطفى حجازي حين قال: "الأصولية الدينية تجذب المهمش".. و"المقهور يحتمي بالعصبية"!