لم أكن أتوقع أنني سأكون يوم 21 من سبتمبر/ أيلول الماضي، محاصراً بعشرة جنود يرتدون البزات الشرطوية، قدموا على متن طقم للقبض عليّ أثناء ما كنت أمضغ قاتاً تحت شجرة سدر محاذية لمنزلي الريفي البسيط. اقتادوني أمام مرأى الكثير من الجيران، وأطفالي الذين كانوا يلعبون أمامي، سرعان ما أجهشوا بالبكاء، دون أن يعلموا ما هي تهمة اعتقالي.
خلال أيام اعتقالي في سجن أمن مديرية خدير، بتعز، لم توجه لي تهمة بعينها، رغم أنني كنت أحاول جاهداً معرفة أسباب الاعتقال، ولكن لم أحصل على تفسيرات واضحة.
قلت في نفسي: يبدو أن في الأمر ما يقلق فعلاً، وبدأت أزداد قلقاً من تلفيق تهمة قذرة، وأنا الذي لم أكن يوماً مع أي من الأطراف المتصارعة سياسياً وحرباً، ويعرف الكثيرون أنني وكتاباتي "ضد الكل"، ولم يحدث أن تمت إدانتي بعلاقات مع "العدوان"، أو أدواته الداخليين، ولم أحصل منهم على أي دعم مالي، بالدولار أو بالسعودي، وتحديت خلال استجوابي قبل التحقيق في سجن المديرية، أن يثبتوا أي علاقة تواصل من هذا القبيل.
وحتى هذه اللحظة، ما زلت، وسأظل، أتحدى _كائناً من كان_ أن يثبت حصولي على مبالغ مالية، أو تواصل مشبوه.
فتشوا عن محتويات هاتفي، ولم يجدوا ما يدينني تواصلاً مع "أطراف العدوان"، ورغم كل هذا الفشل، لم توجه لي طوال ستة أيام تهم محددة.
وكل ما كان يحزنني أكثر حديث أهل القرية عن قدوم طقم عسكري لاعتقالي، وهذا يعني أنني متورط في جريمة سياسية كبيرة، وإلا ما قدم طقم لاعتقالي لو لم يكن الأمر "كبيراً".
هذا التفكير السلبي، أصاب أسرتي في مأتم، وتعرضت زوجتي لحالتي إغماء، وعاشت وأطفالها التسعة، (5 بنات، و4 أولاد) ما شاء الله عليهم، منهم توائم طبعاً، حزناً وقلقاً على ذمة أقاويل الجيران التي ليس لها أي علاقة بخيالاتهم الجاهزة.
في تلك اللحظات التي كنت فيها على متن الطقم، أحاول الاقتراب من تهمة مفترضة، ولم أكن أعلم بحملة أمنية طالت الكثيرين من أبناء المديرية، على خلفية نشر شعارات وأناشيد وطنية استعداداً للاحتفال بثورة 26 سبتمبر، إلا في وقت لاحق.
أول ما دلفت بوابة الزنزانة، قالوا إنها مخصصة للسياسيين، ثم قعدت في زاوية ما، وظللت أمعن النظر في وجوه قرابة 13 سجيناً، تم اعتقالهم، كل على حدة، بواسطة طقم، مدعم بعدد من الجنود، يرتدون بزات عسكرية. وجدت ثلاثة من هؤلاء المعتقلين، تم إيقافهم على ذمة انتمائهم لجيش الشرعية، أحدهم من مدينة عدن.
تحدثت إلى ثلاثة أشخاص، عرفت بنفسي، وصفتي، ثم سألوني عن أسباب اعتقالي؟ فاكتفيت بـ"لا أعلم!".
ضحك أحدهم، ضحكة مدوية، واسمه محمد المطري، وهو من أبناء مدينة الراهدة، ثاني أكبر مدينة في المديرية. وبعد ساعات أدخلوا معتقلاً جديداً، ولم يعلم الأسباب التي أوصلته إلى الزنزانة، ومعتقلين تم اعتقالهم يوم 20 من سبتمبر الماضي، ومنهم بشير السيد، من أبناء الراهدة، أيضاً، ومحمد عبد الفتاح الزيلعي، ومحمد بن غانم، تم اقتيادهما من محلاتهما التجارية، في "الدمنة"، عاصمة المديرية، بحجة نشرهما شعارات وأناشيد سبتمبرية.
كان محمد المطري، نجم الزنزانة، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، جمع بين المرح والنكتة، لا تمر لحظة دون أن يفطرنا فيها ضحكاً.
وقتها، تذكرت أن اعتقالي، كان بسبب قيامي بنشر "شعار 26" كخلفية لصورتي الشخصية في "الفيسبوك"، وبدأت أهدأ من التوتر والقلق، لا سيما وأن الطقم لم يأتِ إليَّ حصراً، وهو ما خفف من هموم أسرتي التي قالت للمرجفين إنني لست الوحيد من ألقي القبض عليه، بل إنه تم القبض حتى على أطفال "أحداث" وغيرهم ممن تمت مداهمة منازلهم، وفق وشايات من مخبري الجماعة، وهذا ما حدث مع المعتقل مصطفى القبيلي، الذي تم اقتياده في الرابعة من مساء 22 من سبتمبر، من وسط مقيل مجلس أحد الشخصيات المعروفة في الدمنة، دون أن توجه له تهمة على الإطلاق.
بدأ مصطفى يتحدث للتو إلى نزلاء الزنزانة بثقة عن الثقافة الإسلامية، فالتزموا جميعهم الصمت له، قرابة الساعتين.
ومن لحظتها، وهو يقارع السجان بأشد العبارات احتجاجاً على اعتقاله. كان يشتاط غضباً تارة، وتارة يعتلي نافذة مرتفعة بواسطة باب الزنزانة، ويجهر بصوته الشجاع: ماذا فعلتُ يا قتلة؟ افرجوا عني! وظل صوته مرتفعاً ليلاً ونهاراً، وحتى أوقات متأخرة من الليل، يهاجم السجان ومسؤوليه، ماذا فعلنا لتسجوننا؟.. نحن سبتمبريون على العهد، وسنظل!.
كانت روحه، تعمل دون ملل للتخفيف من ضغوطات زملائه النفسية، ومن روعهم في سجن، ليس فيه قدر من المسؤولية الإنسانية، والأخلاقية. وتذكرت وقتذاك، عبارة للزعيم الأمريكي الراحل والناشط السياسي المناهض لسياسة التمييز العنصري مارتن لوثر، الحاصل على جائزة نوبل للسلام: "على كل شخص لديه قناعات إنسانية أن يقرر نوع الاحتجاج الذي يناسب قناعاته، لكن علينا جميعاً الاحتجاج".
لكن هناك ماهو أكثر قلقاً، أن بعض السجناء، كانوا كل مادخل عليهم سجيناً جديداً، تنتابهم الشكوك أحياناً من كون الأمن دفع به إلى الزنزانة، كـ"مخبر"، وظل هذا القلق بين أوساط السجناء يساورهم، من وقت لآخر، وتحول إلى نظرات مريبة متبادلة، حتى وصل إلى حالة من المصارحة، ولكن في بعد مرور أيام.
صباح اليوم التالي، سُمح لنجلي الأكبر "وضَّاح_ 15 عاماً" لزيارتي، فتح شاويش الزنزانه، ولم يستطع حبس دمومه، آلمني كثيراً، لكنني لم أنكسر ولم أنحنِ ولم استجد الشفقة من السجان، قلت له: لا تخف ياوضاح، أبوك ليس إرهابياً، ولاقاتلاً، ارفع رأسك.
كنت أمتلك ألفي ريال، فدسستُ يدي في جيبي، فقال إنه يمتلك أضعافها، ففرحت. وصباح اليوم الثالث، عاد إليَّ بثياب نظيفة ومرتبة، وغادرني مسروراً بعد أن اطمئن إليَّ وأنني لم أعد أحتاج إلى أية أطعمة، فهناك زملاء سأتحدث عنهم في السياق، وفّروا مأكولات كثيرة، خلال الست الأيام الأولى، والأخيرة في سجون "زنازين الصالح".