هكذا وجد نفسه آخر المطاف يتربع على عرشه منفردًا يقهقه يضحك... هكذا شاء إبليس نفسه ملكًا فوق الجميع، ما أطاع ربه، بل تجاوزه رافضًا أن يساويه مع باقي الأنبياء، تكبر واستكبر فنال عقاب أرحم الراحمين مطرودًا من نعيمه ونعمته وجنته.
إبليس ذلك اللعين، وقد يئس من رحمة الله.. ما أدري ما الذي وسوس له ليتجلى ذهنه المتقد متلبسًا حقدًا دمارًا وأبلسة، ليختار اليمن مسكنًا وملجأ يعيث فيها صور الفساد شتى، بل أمعن تفننًا ليختار الصورة المحببة إلى نفسه، صورة ملك... حاكم... بل بات إمامًا مفوضًا تلون بصورة نصير داعٍ مدعٍ... هو أبعد ما يكون عن ذلك الادعاء، لا ولاية له من السماء، ولا ذرية وأجيال لها شرف النسب لحيث لا ينتسب، متناسيًا عظيم القول: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم".. أو قول المصطفى: "الناس سواسية كأسنان المشط"... هو يعتقد أنه فوق ذلك، وما هو حقًا إلا مسخ شيطان رجيم طرد من جنة الرحمن وقادته أمهات أفكاره الشريرة ليتقمص دور إبليس وداعية وإمامًا وزعيمًا وممولًا... بل أجاز لذاته العلية تقمص كل صور شياطين ما أنزل الله بهم من سلطان، وتلك كانت مصيبة المصائب، لتكتوي بها بلادنا اليمن طيلة قرون وعهود وسنوات بإثمه وآثامه وتفانين أفاعيله التي جمعت بين الشيطنة والأبلسة والمسكنة ومنقذ الدويلة باعتباره لاعبًا يجيد اللعب على كل الحبال، تمامًا كما يجيد غزل المفاجآت التي تدمر كل ما هو قابل وغير قابل للتدمير.. مجتمعًا، مؤسسات، كيانات، شخوصًا، تقبل الذل، وفوق ذلك كله يتمادى مستبيحًا حرمة الدين والوطن اتكاءً على ادعاءً راسخًا بذهنه بأنه نبي، بل فوق الأنبياء، خلق من نار، والآخرون خلقوا من طين... يمكن تفتيته، بينما نيرانه تلسع تحرق... تمحو من الوجود. وهنا نسأل الزبور والإنجيل والقرآن، عن هذا الذي أعاد تجسيد ذاته، وحل بأرض اليمن متخذًا من زمن موغل بالقدم أسماء وأشكالًا شتى إمًاما ملكًا رئيسًا حاكمًا قاضيًا وقاتلًا وراقصًا فوق كل الثعابين التي تكاثرت، وللأسف لا تنتج إلا الثعابين مثلها، والقوارض على شاكلتها وما شابهها، وكان دومًا لها العون والمدد، وترك لها على الأرض الحبل على الغارب يشده متى أراد ويرخيه متى أراد ببيئات وأعراف وتقاليد تعتاش منها وتعيش وتعيث فسادًا فيها. هكذا أراد، وهكذا توالت اللعبة التي كانت وماتزال تنخر بيئتنا التي كانت ذات يوم جنتين وأرضًا طيبة... وإذ بإبليس ومن على شاكلته يحولها إلى جهنم حمراء وبئس المصير، بل إلى أوكار قتل ودماء... تستباح، ومسميات غادر فيها الوجود الإنساني والوطن بكل تعبيراته ومسمياته، لتحل علينا لعنة إبليس، وعلى أرضنا الطيبة لعنة ومسميات أحفاده وخلفائه من أبالسة الإنس والجن، أبالسة الأمس واليوم، بسببهم وبسبب من أطاعهم ومشى في ركابهم صاغرًا، ضاع وطن بكامل تاريخه... بات بيئة طاردة قاحلة.. من يعيشون فيها مقسمون أصنافًا ودرجات بين آلهة أسياد وزنابيل وقناديل... وبين مسميات ما كانت لتكون ولن تكون لولا تفانين إبليس الذي أبلى بلاءً سيئًا مختارًا من ذويه... قناديل يستضيء بهم كي يحكم الكون، فهو مفوض العناية الإلهية، وما على الرعية والأتباع والزنابيل إلا الطاعة أو لسعة ليتقبل لسعة السوط، وليته اكتفى بذلك وكفى، بل تفنن تمزيقًا وتفرقة بين أبناء الوطن حتى بتنا شيعًا وفرقًا وجماعات نتنابذ بالألقاب والمسميات، ويا ويل من خفت موازين تأصيله القبلي والمناطقي والمذهبي، فقد جازت عليه لعنة الخروج من جنة إبليس اللعين.
إبليس هذا المستجد ما كان ليشتد أزره وتقوى عظامه لولا البيئات الشيطانية التي تكاثرت تكاثر الجراد، والجراد حين يحل بأرض وزرع فقل على الدنيا وزرعها السلام.
إبليس هذا الذي أتى إلينا زاحفًا من أواسط جغرافية بعيدة ذات زمان كما يقول عزيزنا الكاتب محمد البحاح، كان مجيئه إلينا وبالًا من حين حل علينا ضيفًا ثقيلًا أثقل كاهل العباد، لم يكتفِ بالخمس فقط، ولكن بما هو ألعن وأقسى، وكما توالدت على شاكلته أسماء ومكونات ترتزق، وكل يغني على ليلاه، رحلة إبليس من حين طرد من الجنة كانت وبالًا زاد وتكاثر وعظم شره وفساده مع فساد عولمة الفساد مالًا واقتصادًا وسياسة ودمار ثقافات وتدمير مكانة العقل الذي كرمه الرحمن، وهو من طرد إبليس من جنته.
ما كانت ولا هكذا كانت مشيئة الرحمن، إنها مشيئة لعبة المصالح وتمدد ألسنة الأطراف تمدد ألسنة الثعابين عبر بيئات عالمية متصارعة متنافسة تستخدم كل الأسلحة التي أجادها إبليس ليتخذ منها أشكالًا شتى يتفنن فيها بلعبة السياسة والعقيدة كما يريد حروبًا صراعات تمزيق مجتمعات شراء ذمم وشراء ولاءات وافتعال صراعات بين بيئات كان الوطن جامعًا لها لينقلب الأمر إلى كان وأخواتها من أدوات إبليس الشيطان إبليس صراع المصالح والقوى، وكل يدلو بدلوه، وبئر الشيطان -أي بئر إبليس- باتت المنبع للوجاهة للفكاهة للنقاهة لتمويل الجيوب، وتخريب العقول، وإعادة تهجين لبنات البناء المتماسك تفتيتًا ليصبح هشًا سهلًا افتراسه بعد تجويعه وتدميره وتمزيقه.
وهنا، تحديدًا يقهقه إبليس القديم لأنه تناسل، وقد ساعدته الظروف ليرى أحفادًا وأنصارًا بصور ومسميات مستجدة يحكمون ويتحكمون بأوطان وشعوب، وما كان لذلك أن يتم لولا سيناريوهات لعبة الأمم يراقصها مرة شيلوك، ومرة إبليس، والعرض مأساوي مستمر للعبة الثعابين في أكثر من شاشة، عفوًا في أرض ووطن وبلدان يجري تدميرها، وإبليس يقهقه، والسادة أيًا كان اسمهم تصنيفهم، على الأرائك يتفرجون لوطن يتمزق وقيم تدهر وأجيال تسحق، وعلى الشاشات هناك من على الملأ كانوا ومازالوا مصرين يضحكون.