صنعاء 19C امطار خفيفة

رادار الفسيل

رادار الفسيل
محمد عبدالله الفسيل ريشة رقمية النداء

لم أعرف الوالد الأستاذ محمد عبدالله الفسيل يومًا غير متفاعل مع من يتحدث إليه وما يتحدث عنه. استقبالًا وإرسالًا.. يملأه الحماس والنشاط والحيوية. رأيناه جميعًا إلى التسعين يركض مسرعًا والروح ثابتة على العشرينِ.

المولود في عشرينيات القرن العشرين والراحل في عشرينيات القرن الحادي  العشرين.

على ما له من تصرفات، إلا أن ذهنه وقاد وأفكاره نيرة.. هكذا قال عنه الأستاذ أحمد محمد نعمان، الصانع الأول لقضية الأحرار، في رسالة خاصة.

في ركاب الأحرار اليمنيين مشى الأستاذ محمد الفسيل، منذ أسهم في تحرير صحيفة "صوت اليمن" قبل ثورة 48م، إلى أن صاغ البيان الأول لثورة 26 سبتمبر 1962م، واستمر بعد الثورة يحرر رسائله إلى مخاض التغيير أثناء الربيع العربي 2011م، ثم في مبادرات إنهاء الحرب 2015م.

شأنه شأن زملائه الأحرار الدستوريين والسبتمبريين اليمنيين، ممن يميلون "إلى الحركة الإصلاحية الأسلم والأكثر أمنًا"، كما قال في إحدى رسائله، لذا فإنه "كان يتفاءل مع من يكون التفاؤل معهم ضربًا من الجنون، فبالتالي فإن تفاؤله مع زملاء السجون ورفاق النضال الذين تربطه بهم أكثر من رابطة، ليس شيئًا معقولًا فحسب، وإنما هو أمر محتوم يفرض نفسه".

لا يتفاءل بهم فقط، يتفاعل معهم أيضًا..

ويُقِر أن "تقديراتي لا تقوم على العلم، وإنما على ثقافتي العامة". بناءً عليه، فإن له تقييمًا خاصًا عن كل شخصية، رئيسًا كان أم مناضلًا أو شخصًا عاديًا، تتفق معه أو لا تتفق، في الأخير ذاك رأيُه أو تلك ثقافته كمواطن، وتلك مسيرة كل رئيس وزعيم، ولا ضير في قول ما لا يبدل شيئًا قد حدث، وعما لا يرفعه شيءٌ ولا يضعُ.

في "الحياة التي عشت" -وهذا عنوان مذكراته- حدثت تحولات كثيرة.. واكبها بطاقة خلاقة و"رادار يقظ" جعلاه متفاعلًا بكل ذراته مع كل حدث وطني، يوازن بين ما يتطلع إليه وطنيًا، وما يلزم تنفيذه على المستوى الشخصي.

غلاف مذكرات محمد الله الفسيل (شبكات تواصل)

"لا أخلط بين قناعتي بموقف يخدمني شخصيًا، وبين قناعتي بموقف يخدم القضية الوطنية التي آمنت بها"، حسب قوله بعد شرح تحولاته من مواطن متعصب لمذهب معين، حتى غدا مواطنًا مناصرًا للثورة واسع الثقافة الذاتية أدبًا وسياسة، فكرًا وفلسفة. وعبر ثقافته العامة وسط كل التحولات، أصبح كارهًا للتعصب، منفتحًا على الآخر يشيد جسور الحوار معه.

حماسته الوطنية، تكونت لديه من خبرة سنين في غضون الشباب، أثناء العمل الوطني والانتقال من مدرسة المناضل أحمد الحورش إلى ديوان ولي العهد أحمد حميد الدين، وملازمة البدر والشامي، فمرافقة الأساتذة أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري، ثم سيف الحق إبراهيم في عدن. ثم السجن في حجة بعد مصرع الابتسامة، أي سقوط الثورة الدستورية، ومساهمته في المناقشة السياسية حول مستقبل اليمن التي أدارها الشهيد الأستاذ محمد أحمد نعمان "من وراء الأسوار".. مع التأييد لثورة 23 يوليو 1952م المصرية، ثم معرفته ببقية المناضلين قبل نزوله عدن أواسط الخمسينيات وأول الستينيات.

كل الخبرة والثقافة والحماسة شكلت ذخيرة ووقودًا لتحركه إلى صنعاء، وتنظيم ما لقي في طريقه من خلايا وطنية، لتضعه الصدفُ والظروفُ أمام مهمة فدائية لا تقل عن فدائية ضباط الثورة، فسبق جميع المذيعين صباح الخميس 27 سبتمبر 1962م، إلى الإعلان عن قيام الثورة والجمهورية. مع ما صاغ من تشكيلات عدلها هو أولًا ثم عدلها غيره، دون أن يدرج اسمه ضمنها، في ما اعتبرها سذاجة غبية ندم عليها.

اعتبر قيمته السياسية والاجتماعية نابعة من زمالته لكبار الأحرار وبقائه في السجون معهم، ثم تنظيمه للخلايا الثورية. تعززت هذه الاعتبارات أكثر بما كان له من حضور شخصي وملكات خاصة و"رادار" يقظ، رصيده الجمهوري وشخصيته الفاعلة مكناه من أن يمنح المثقف المدني المستضعف دورًا مؤثرًا ومسيرًا للشيخ القبلي المستقوي برغم مرارة التجربة.. يُلاحِظ هذا من قرأ مذكراته كاملةً، ويكتشف أن وطنيته وأصالة جمهوريته دفعته للخروج إلى السعودية سنة 1965م، ينشد السلام لليمن، ويطرح إمكان التفاهم الجمهوري مع السعودية للاعتراف بالجمهورية، مع التقدير لمن ساندوها وإن برزت أخطاء لها ظروفها، هذا فضلًا عن قوله صراحةً لمقترحي المشروع البديل إن مصيره الفشل، فلا بقاء لغير الجمهورية مهما وقعت وثائق لا تؤثر في الواقع القائم ولا تغير ولا تبدل شيئًا أراده الشعب اليمني.

وجه إلى الداخل سنة 1966م رسالة مشتركة مع رفيقيه حسين المقدمي ومحمد الرباعي، كانت بجواره أثناء كتابتها "عفريتة، لا تقر ولا تستقر"، قاصدًا ابنته النشيطة د. سامية. كتب الفسيل ينصح "بالوقوف حتى يمر القطار المجنون".. وبعد نوفمبر 67م عاد من المنفى اللبناني إلى الموطن اليماني.. واستشعر نفورًا خلقته الدعاية السلبية من قوى اليسار ضد "الجمهوريين المنشقين"، بيد أنه ظل يحاورهم محاولًا إقناعهم بأنه ومجموعته "جمهوريون من قبل الجمهورية وبعدها"، يستهدفون استقرار الجمهورية بتأمين محيطها الخارجي وتمتين وضعها الداخلي. لكن ما تكرر من دعاية تقرر، ومايزال مقررًا رغم بعده عن الحقيقة.

يصعب تغيير العقائد بعد أن         يعيش عليها المرء من عمره دهرًا

انخرط في المقاومة الشعبية يراوده "الشعور أن الجمهورية لن تسقط".. أخيرًا تم استقرار النظام الجمهوري باكتمال الاعتراف الإقليمي والدولي، وتبدأ التفاعلات الداخلية خلال السبعينيات والثمانينيات شمالًا وجنوبًا، فتذبح حمائم وتحلق صقور، وتسقط عمائم ورؤوس وتستتب أوضاع حكم جديد ينتهي إلى وحدة الشطرين وفق مشروع دستور الجمهورية اليمنية شارك صياغته الأستاذ محمد الفسيل قبل أن يعين ضمن أعضاء البرلمان الموحد. نقل البث التلفزيوني لجلساته "حركة" الأستاذ الفسيل -لا صورته فقط- متصدرًا الصف الأول يقاطع ويصوب ويقترح ويتحدث ويقفز من خاطرة لفكرة، ويجادل رئيس البرلمان الهادئ د. يس سعيد نعمان وبقية الأعضاء غير الهادئين.

ثم يتوسط لاحتواء الأزمة السياسية قبل نشوب حرب صيف 1994م.. ويكتب الرسائل بعد اندلاع مواجهات صعدة ثم الحراك الجنوبي فالتغيير في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. يلتقط راداره المتفاعل ما تلى من أحداث حتى اضطرته الظروف ومعظم الوطنيين إلى أن يكون حالهم ما كتبه في صحيفة "صوت اليمن" سنة 1947م:

"ليس أمام الوطنيين إلا طريقة واحدة هي النزوح والخروج والدموع تملأ مآقيهم يودعون الوطن العزيز".

لكنه، من أجل السلام لليمن وسلامة كل الوطن العزيز، في الداخل وفي الخارج، ظل يناضل بالكلمة والرسالة والرأي والمبادرة، حتى آخر أنفاسه، للمستقبل وللتاريخ، لئلا يعيش أولاده وأحفاده ما عاشه من حياة. لكننا جميعًا معه نردد ما كابده وخشيه عبدالله البردوني: 

أكابد اليوم ماعاناه أمس أبي.. أخشى يلاقي الذي لاقيته ولدي

طمح الفسيل في شرخ الصبا أن يخرج إلى القاهرة للدراسة والتحصيل العلمي، فأتاها دبلوماسيًا أول الثورة، ثم لما شاخ استقر وسط مدينة نموذجية بعدما عاش حياته ينشد نموذج المدينة الفاضلة في يمنه ويمننا جميعًا، حتى انطفأ راداره رحمه الله.. والتحولات لاتزال مستمرة.

 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً