نهضت من سباتٍ عميق على صوت المنبه عند الساعة السادسة صباحًا، وعلى أغنية أحمد السنيدار "ما أجمل الصبح في ريف اليمن حين يطلع"، وأغنية أيوب طارش "بكر غبش"، بدأت بتجهيز نفسي استعدادًا لرياضة المشي والتسلق مع فريق "هاش" التي كانت يوم الخميس الماضي، 30 مايو 2024، وعلى الرغم من أن هناك بعض الألم كان لايزال أثره في ساقيَّ، إلا أني لم أهتم به كثيرًا، كون رغبتي في المغامرة غلبته.
حملت حقيبتي وخرجت إلى الشارع أنتظر المشاءة سلوى علي، بعدها تحركنا والتقينا بالكابتن عبدالرحمن الشرجبي وكتيبته المكونة من ابنته وبنات وأبناء أخواته، كانت سيارته ممتلئة بالمغامرين التواقين للمشي والتسلق، وتحديدًا الأطفال الذين يبهرونني دومًا بشجاعتهم وحبهم لمثل هذا النوع من الرياضة.
تحركنا مباشرة إلى حيث نقطة التجمع "باب الأهجر"، وهي إحدى قرى عزلة الأهجر بمديرية شبام كوكبان التابعة لمحافظة المحويت، هناك ترجلنا عن السيارات، وتوجهنا إلى طريقنا سيرًا على الأقدام، كانت تلفت نظري الخضرة القاتمة التي نراها منتشرة أسفلنا في القرى، والتي كانت تشبه إلى حد كبير الغابات، ومع الأسف فقد اتضح لي في ما بعد أنها أشجار القات التي حلت محل أشجار البن والفواكه الأخرى.. استمررنا في مشينا إلى أن وصلنا إلى مصب شلال الأهجر، الذي يقع أسفل قرية "القساس"، هناك قضى الأطفال اللعب بين الماء، وبدأنا بتناول طعام الفطور الذي أحضره الكابتن عبدالرحمن، لقد كان خميرًا معمولًا بأنامل تتقن فن الطهو، له مذاق رائع، لدرجة أكلت الكثير منه أنا وبقية المشائين، ولولا استعجالهم لأكملت بقيته مع الشاهي الأحمر.
وادي غزوان
بعد التقاط الصور وتناول طعام الإفطار، توجهنا على طول الطريق إلى وادي غزوان، وكالعادة كانت الصخور أول من يستقبلنا، ولكنها لم تكن تعرقلنا، وذلك لأنها ليست بأحجام كبيرة، كنا نقفز من صخرة إلى أخرى لكي نجتاز الماء الذي يجري خلالها. في تلك اللحظات تذكرت مسلسلات الكرتون التي يظهر فيها الأبطال وهم يعيشون في قرى، وعندما يمرون من الأنهار يقفزون مثلنا.. شعور في الحقيقة ممتع بالنسبة لي.
واصلنا طريقنا حتى وصلنا إلى مكان مرتفع وفي أسفله يظهر وادٍ يتبع قرية "وادي غزوان"، وهي إحدى قرى عزلة ضلاع الأعلى بمديرية شبام كوكبان، نزل إلى ذلك الوادي مجموعة من المشائين للسباحة، بينما نحن أكملنا طريقنا في الأعلى، وبعدها نزلنا باتجاه الوادي وأخذنا قسطًا من الراحة. كانت المنطقة خضراء، والماء يجري من أمامنا، والرياح تهب علينا، وتضفي للمكان جمالًا! ناهيكم عن الهواء النقي الذين نتنفسه بعيدًا عن عوادم السيارات التي أصبحت تزكم أنوفنا، وتدمر صدورنا، وعلى طول الوادي مررنا بجوار قرى "بيت المقسم" ثم "القساس"، وبعدها قرية "بيت جدعان".
مشينا محاذين لوادي غزوان، كانت الخضرة تغطي المكان، وتظهر البيوت أعلى الوادي كأنها عروس ترتدي فستانًا أخضر في يوم الغسل الذي يعد أحد طقوس الأعراس اليمنية.. في الطريق تشعر وأنت تمشي كأنك تسير على سجاد أخضر لم تنسجه أيادي البشر، وإنما هو من صنع الخالق البديع.
وتتميز القرية بزراعة الشعير والذرة الرفيعة والذرة الشامية، وتشكل نسبة الزراعة 30%، بينما يحتل القات نسبة 70% من المساحات المزروعة، وهو أمر مؤسف جدًا، كون الأراضي هناك خصبة، ويمكن زراعة أشياء بديلة للقات.
ضحية بقرة
كالعادة مشيت وأنا مستمتعة بتلك المناظر الجميلة التي أعشقها، وأشعر وأنا وسطها كأنني في عالم آخر غير عالم الأرض الذي تحول إلى ساحة حرب وتصفيات من أجل المصالح.. وبينما أنا في طريقي صادفت بقرتين، وعلى الرغم من أني أخاف من الحيوانات، لا أعلم كيف تجرأت وطلبت من أحد المشائين التقاط صورة لي وأنا بجوارهما، اقتربت بخطى مرتعشة؛ أتقدم خطوة وأتراجع خطوتين، وعند وصولي وجدتهما كبيرتين؛ إحداهما وهي بيضاء اللون كانت تنظر لي بطريقة شعرت أنها تضمر شيئًا في نفسها، ورغم ذلك، وبقلب طيب وحنون، اقتربت منها، ووضعت يدي على رأسها، وإذا بها تستقبلني بنطحة لا أتذكر منها سوى أني شعرت بلفحة أنفاسها في بطني، ورأيت رأسها أمامي كأنه رأس ديناصور، عندها سقطت على الأرض، وصرخت بصوت عالٍ أسمعت من به صمم داخل القرية. نهضت بسرعة وأنا أتألم، ولكن لم يكن الألم شديدًا! عندها سمعت أحد أبناء القرية يصرخ بصوت عالٍ: لا تخافي! ضحكت حينها، وقلت في نفسي: كيف لا أخاف وأنا لو لم أسقط على الأرض، لكانت البقرة تلعب بي كرة القدم إلى أسفل الوادي!
بعد الانتهاء من دوري البقر الذي لعبته، اقتربت من عجل وكأني لم أتعلم مما فعلته والدته بي، ووقفت بجواره في سبيل التقاط صورة، ولكن ذلك العجل كان حزينًا لا يلتفت لي وكأنه يقول: "خلي لي حالي مش ناقصك"، والمهم خرجت بصورة يتيمة.
نيوزيلندا غزوان
عند الدخول إلى قرية "وادي غزوان"، تجد العقد الجديد، وهو الذي بناه أهالي القرية، أما العقد الثاني الذي مررنا من تحته، فهو عقد أثري بني من الحجارة في عام 1327هـ، بحسب أحد أبناء القرية. في ذلك المكان تم التقاط الصور التذكارية لفريق الهاش، ومن خلال هذا العقد استمررنا في المشي على البساط الأخضر، نقفز من حجر إلى آخر، لنجتاز مياه الوادي المتدفقة، ومن صخرة إلى أخرى، ومن مرتفع إلى آخر، حتى وصلنا إلى مساحة واسعة كلها خضراء تشبه الأراضي التي نراها في الصور لنيوزيلندا.
في تلك المنطقة الخضراء الشاسعة، والتي توجد فيها عين للماء وبرك تتجمع فيها المياه، أخذنا استراحة للغداء، وكالعادة يتحفنا الكابتن عبدالرحمن بالغداء الذي يجلبه معه، وهذه المرة كان طبخ ابنته ليلى التي تشعر بمتعة الحديث معها وهي تروي أي موقف حصل لها.
ليلى طبخت كبسة رز بالدجاج، وابنة عمتها طبخت رز بالتونة. وبين هذا وذاك كانت متعة الأكل، صحيح أنِّي لم آكل كثيرًا، وذلك لخوفي من أن أثقل في المشي، وأتحول إلى بطريق.. صحيح أن البطريق يستطيع أن يمشي بسرعتنا، ويمكنه أيضًا تسلق المنحدرات الصخرية، ولكن يكفي المشية التي نعرفها له لتكون خير وصف لحالي في حال أثقلت بالأكل.
ويجب عليَّ ألا أنسى كيكة الشوكولاتة التي أحضرها الكابتن عبدالله الشرعبي، والتي كانت جميلة أيضًا، وكان ينقصها شاهي حليب من إبريق الشاهي الذي يرافق الكابتن سعيد السروري، ولكن بسبب سفره لم نرَ لهذا الإبريق أثرًا.
وبينما نحن في ذلك المكان المدهش بروعته، هل علينا أحد أبناء القرية، وهو الأستاذ حمود القوة، هذا الإنسان الذي تعامل معنا بكل حب واحترام! ورحب بنا، وهو إن دل على شيء، فإنما يدل على نبل أهل هذه القرية.. ساعدنا حمود مشكورًا في إرشادنا إلى طريق الخروج من قرية وادي غزوان، والتوجه إلى القرية المجاورة.
وقبل التوجه إلى قرية "بيت مُليك "عبر طريق وعرة جدًا، توجه الفريق إلى شلال "الحايط" التابع لغزوان، وهناك منهم من سبح، ومنهم من فضل أخذ صور تذكارية للشلال وللمكان.
شقة مورص
بعد ذلك بدأنا الاستعداد لإكمال رحلتنا، وكان طريق "شقة مورص" المار إلى قرية "بيت مُليك"، طريقًا لا تمر منها إلا بشق الأنفس؛ لكثرة الصخور التي تصعد من خلالها لتصل إلى الأعلى.. لقد كانت هذه الطريق عبارة عن درج من الحجارة، بحسب الأستاذ حمود القوة، ولكن دمرتها السيول، وتحولت إلى مجموعة من الأحجار التي يمكن لخطأ واحد أن يودي بحياة أي مار من فوقها. استغرقنا وقتًا طويلًا ونحن نصعد عبر الأحجار، ونمشي على شكل متعرج حتى وصلنا إلى قمة التلة، ومنها أكملنا الطريق، وتسلقنا المنحدرات الصخرية.
كنا نتوقع أن الطريق الوعرة التي جئنا منها قد انتهت، ولكن صادفتنا طريق أخرى تشبهها مع فارق أنها أقصر.. شددنا رحالنا، وصعدنا عبرها إلى أن وصلنا إلى طريق وعرة، ومنها اقتربنا إلى القرية التي كانت معلقة في الأعلى، تحمّلنا تعبنا كالعادة حتى وصلنا إلى أعلى، وهناك وجدنا الكابتن مبخوت ينتظرنا ويعطينا رطبًا لأكلها، وبعدها أنقذنا خالد العقبى الذي كان ومجموعة مشائين قد سبقونا إلى القرية، بالماء البارد الذي روى عطشنا.
من "بيت مليك" تحركنا جميعًا عبر طريق طويلة تؤدي إلى طريق إسفلتية، كانت المسافة طويلة، وكانت قدماي مُتورمتين بسبب المشي وضيق الحذاء، وقد حاولت أن أتظاهر بأن لا شيء أصابني، حتى رأيت سيارة الكابتن عبدالرحمن قادمة إلينا، عندها شعرت بالفرحة الكبيرة كونه رحمنا من بقية الطريق المؤدية إلى الإسفلت، صعدت السيارة، وسرنا إلى حيث توجد بقية البنات لأخذهن، ومن هناك عدنا إلى الطريق الإسفلتية، ووجدنا بقية أعضاء الهاش منتشرين على رصيف الشارع ينتظرون السيارات للقدوم وإعادتهم إلى صنعاء.
حصن الزكاتين
عند طريق العودة رأينا أمامنا "حصن الزكاتين"، وهو مبني فوق صخرة أعلى قرية الزكاتين في مدينة حبابة، وبما أن هذه المنطقة كانت تزرع مرتين في السنة، فكانت تُجمع الزكاة في هذا الحصن مرتين، لذلك جاءت تسميته بـ"حصن الزكاتين".
ومن هناك نفضنا غبارنا، وعدنا إلى صنعاء بعد رحلة طويلة قضيناها في المشي والتسلق والتعرف على الأماكن الأثرية والطبيعة الخلابة التي نفتخر بها كيمنيين، ونحزن كثيرًا أنها مهملة بذلك الشكل.