في مساء يوم الجمعة 19 أبريل 2024م، قرأت خبراً أن الأديب والصحفي الكبير الأستاذ محمد المساح توفي، ذهبت أتصل به لكن لم يرد، تواصلت مع الأستاذ الكبير وأصدق وأقرب رفيق له، الأستاذ النبيل عبدالرحمن بجاش، أسأله عن أخبار المساح، قال لي كلمته منذ يومين، وبعد قليل أرسل لي وقال: لقد توفي قبل ثلاث ساعات، لم أستوعب صدمة الخبر، لم أصدق ومنيت نفسي أن يكون الخبر مجرد كذبة أبريل.
لكن بعد ساعة ترسل لي ابنة الأستاذ المساح تؤكد لي الخبر، برسالة من رقم الأستاذ المساح، قلت كلا ستظل كذبة أبريل، فصعب أن يتوقف الزمن.. وترحل اللحظة.
محمد المساح (انتصار السري)
عرفت المساح منذ فترة من خلال عموده في صحيفة الثورة "لحظة.. يا زمن"، وفي أحد الأيام التقيته في فعالية في بيت الثقافة، ويومها عرفت الصحفي والأديب الكبير محمد المساح، صاحب "لحظة.. يا زمن"، فقلت كاتب كبير لن يتحدث إلى كاتبة في بداية مشوارها الأدبي والصحفي، تحدثت إليه، فوجدته إنسانًا خجولًا، ومثقفًا كبيرًا، لحظتها تمنيت أن أعمل معه لقاء صحفيًا، وصارحته بأمنيتي، بكل تواضع الكبار قال لي تمام، ثم أعطاني رقم هاتفه، فجأة اختفى من الفعالية، وهكذا هو ذلك الإنسان المبدع والخجول الذي يهرب من الأضواء، ويعيش لقلمه وكتابته، يحضر بسرعة ويختفي من الفعاليات بأسرع ما يمكن.
دارت الأيام، ووجدته مرة ثانية في نادي القصة، وجددت طلبي له بعمل اللقاء الصحفي، ثم قال لي تمام.
غلاف لحظة يا زمن محمد المساح (إعداد انتصار السري وفوزي الحرازي)
تمر الأيام والشهور، وأكون في أرشيف مكتب رئاسة الجمهورية في بحث عن تاريخ القصة القصيرة جدًا في اليمن، وكنت أقف أمام عموده "لحظة.. يا زمن" وأقرأه، كانت لحظات المساح مدهشة، ولغته بليغة، واختياراته متقنة تدل على مثقف كبير، وقارئ نهم في كل العلوم الإنسانية والأدبية، كان يميل إلى الأدب اليساري، وفي يوم قرأت له نصًا بعنوان "لها حين ترقص"، لم أقاوم السطور، يومها جاء قرار كتاب "لحظة.. يا زمن المساح".
عند مسحي للصحف والمجلات وجدت قصصًا قصيرة بقلم الأستاذ المساح في عدد من المجلات الثقافية التي كانت تصدر في فترة السبعينيات والثمانينيات، مثل مجلتي "اليمن الجديد" و"الحكمة" وصحيفة "الثورة" التي نشر أول قصة له فيها بتاريخ 7-1-1971م، بعنوان "حفلة.. إعدام"، ومجلة "الجيش".
فتشنا عن كتب له لم نجد له أي إصدار في القصة أو الشعر، تواصلت معه أسأله، يقول لي إنه كتب القصص في فترة السبعينيات، لكنه لم يجمعها في كتاب، عندها تواصلت بالإنسان النبيل وصديق المساح المقرب الأستاذ عبدالرحمن بجاش، وسألته عن المساح، ومتى بدأ الكتابة في صحيفة "الثورة"، وقال لي في بداية السبعينيات بعد عودته من دراسته في القاهرة، عرضت عليه فكرة الكتاب، ورحب بها وشجعني، وكان خير معين، عندها بدأت رحلة مسح صحيفة "الثورة" وجمع نصوص المساح القصصية والقصائد النثرية، وهو من أول من كتب قصيدة النثر في اليمن، كما أنه أول من كتب القصة القصيرة جدًا في اليمن.
جمعت عددًا من مقالاته التي تنوعت عناوينها من "لقطة من الزاوية" و"لقطة من عين الكاميرا" إلى عموده الشهير "لحظة.. يا زمن" في صحيفة "الثورة"، وعموده الذي كان يكتب وينشر في صحيفة "الشورى" تحت عنوان "من عيبة المجذوب"، وجدت كنوزًا كثيرة، كانت كاميرتي رفيقتي تصور وتوثق تلك النصوص واللحظات، وقلمي يسجل رقم العدد وتاريخ الإصدار للصحيفة أو المجلة، إلى أن أتى ذلك اليوم الأسود يوم الاثنين 7-5-2018م، يوم ضرب مبنى مكتب رئاسة الجمهورية بصواريخ، وأنا كنت في أرشيف مكتب الوثائق أجمع "لحظة.. يا زمن"، عندها توقف الزمن بسقوط أول صاروخ، والحمد لله نجوت من الموت بفضل دعوات والدتي ووالدي لروحهما الرحمة، خرجت سالمة من تحت الأنقاض أحمل كمبيوتري وكاميرتي وقلمي ونوتة ملاحظتي التي كنت أكتب فيها اسم اللحظة ورقم العدد وتاريخ الإصدار.
كان أول من اتصل بي يطمئن عليّ هو أستاذي القدير عبدالرحمن بجاش، فهو يعلم أني أذهب يوميًا إلى هناك.
بعدها جاءت رحلة طباعة كتاب "لحظة.. يا زمن المساح"، إذ كنت أقسم شاشة كمبيوتري إلى جزأين، الجزء الأول لصور النصوص والمقالات، والجزء الثاني لملف الوورد الذي أطبع فيه تلك اللحظات. أخذت مني عملية الطباعة الوقت الطويل، أذكر أني كنت أطبع تلك اللحظات بعد وفاة والدتي بأيام والدموع تنسكب من عينيّ، أمي من شهدت عملية جمع الكتاب، لكن لم تكن موجودة عند طباعته وخروجه إلى النور.
كلمت الأستاذ عبدالرحمن بجاش أني أريد أن أقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، الأول يكون عبارة عن شهادات عن الأستاذ المساح من أصدقائه المقربين له، ومن عاش معهم وله ذكريات معهم، ساعدني كثيرًا، ثم تواصلت مع الأستاذ الكبير يحيى العرشي الذي كان من أصدق الناس وأحب الناس للأستاذ محمد المساح، ومع الشاعر وأديب اليمن الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح، فقال لي يا انتصار ما عدت أقدر أن أكتب، فقلت له: لا تكتب أنت حدثني وكلمني عن المساح، وأنا سوف أكتب وأطبعها وأعرضها عليك، فقال لي تمام، وعلى مدى ثلاث جلسات أنهى المقالح كلامه عن المساح، وطبعتها وعرضتها عليه.
تواصلت مع الأستاذ حسن اللوزي في القاهرة، والأستاذ عبدالباري طاهر، والأستاذ أحمد الديلمي، والأستاذ نبيل الكميم، لكن انتظرت ما كتب الأستاذ عبدالرحمن بجاش طويلًا، فهو عندما يكتب عن المساح يكتب بكل حب وصدق ووفاء، سجل الكثير من الذكريات واللحظات الرائعة التي جمعتهما مع بعض.
القسم الثاني من الكتاب كان تحت عنون "نماذج من أعمال المساح"، النصوص النثرية والقصصية والأعمدة الصحفية وغيرها. القسم الثالث كان حوارًا لي مع الأستاذ المسّاح، أذكر أني لما كلمت الأستاذ عبدالرحمن برغبتي القديمة بعمل حوار صحفي مع الأستاذ المسّاح، قال لي أنا سوف أحضر لكِ المسّاح من القرية، وأنتِ تنجزي الحوار.
وحضر الأستاذ المسّاح من القرية، وسجلت معه صوتًا وصورة على مدى الشهر والنصف حديثًا عن سيرة حياته الزاخرة، وعملت لها تفريغًا، لكن لم أفرغ الكثير، لأن الحوار كبير، تحت عنوان "محمد المسَّاح محطات وذكريات"، أخذت محطة من كل محطات حياته.
بعد ذلك جاء دور التصحيح، وكان دور الأستاذ الباحث فوزي الحرازي الذي قام بتنقيح الكتاب وتصحيحه على أسلوب منهجي رائع، وأخذ منه جهدًا ووقتًا، فهو كان شريكي في قرار عمل كتاب عن المسَّاح.
بعدها جاء دور طباعة الكتاب، وعندها كلمت الدكتور هاني الصلوي في القاهرة، صاحب مؤسسة "أروقة للدراسات والترجمة والنشر"، ورحب بفكرة الكتاب، وقال لي انهي الكتاب والطباعة عليّ، وهكذا خرج كتاب "لحظة.. يا زمن المساح" إلى النور لكي يسجل أعمال المساح، ويكون في يد القارئ، ولكي يخلد أعماله الخالدة.
إني بذلك عملت ما عجز عنه اتحاد الصحفيين اليمني والعربي، ووزارة الإعلام ووزارة الثقافة، بجمع أعمال كاتب أعطى الكثير لوطنه، علم من أعلام الصحافة اليمنية، عاش بطيبة النفس، لم يطلب المناصب، بل كان يخشاها، لأنه يعلم أن قلمه الصادق لن يعجب بعض المنافقين، لذلك رحل وظلت ذكراه نقية وصافية، فهو ليس من الذين يتسلقون على أكتاف الآخرين.
تعلمت منه، الطيبة واحترام المواعيد، فعلى مدى الشهر والنصف يوميًا كان يحضر الصباح ملتزمًا بوقت اللقاء، كان يصل أحيانًا قبلنا أنا والأخ فوزي الحرازي، كان خجولًا، محبًا للقراءة، كان يحدثني عن مكتبته في القرية، قال لي إنه عندما ينتهي من قراءة الكتب التي يشتريها، يرسلها إلى منزله في قريته التي تضم أمهات الكتب. ترى ما سيكون مصير مكتبته بعد رحيله؟
أتمنى أن يتم تكريم الأستاذ المسَّاح كما يجب، وأن تقرر أعماله في الجامعة، وتدرس في كلية الإعلام، كي يستفيد الطلاب من عبقريته الصحفية، وسحر لغته، وفنية كتابة المقالات، وثقافته العالية.
المسَّاح اكتسب حب أصدقائه المخلصين، وما قرأت في صفحات التواصل الاجتماعي بعد رحيله، يعبر عن حبهم ومدى تأثرهم به، وفي حديثه الصحفي معي سألته سؤالًا عن مشاريعه المستقبلية، فقال لي:
"لا مشاريع مستقبلية لأني "شاروح" القرية أرقد.. وأموت. لأن الجو الآن مرعب وخانق.. كأننا في عهد فرانكشتاين".