حقيقة، إن الوثيقة الإبراهيمية أو الاتفاقيات الإبراهيمية (Abraham Accords) تعتبر بالغة الخطورة، كونها تشكل تطبيعًا كاملًا في مختلف الاتجاهات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والثقافية، مع الكيان الإسرائيلي المحتل، تحت عباءة الدين، ومن منطلق أن الديانات الثلاث اليهودية، والمسيحية، والإسلامية، تعود مرجعيتها إلى النبي إبراهيم -أبي الأنبياء والرسل عليه السلام- باعتبارها الوسيلة المثلى لاختراق تطبيعي متدرج وسهل في جميع جوانب العلاقات الثنائية بين الجانبين (إسرائيل مع الدول العربية)، كما أراد لها المخرج الصهيوني لحل الخلافات في منطقة الشرق الأوسط مع إسرائيل.
وقد أقدمت كل من دولة الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، على توقيع الوثيقة مع دولة الكيان الصهيوني الإسرائيلي المحتل للأراضي الفلسطينية، برعاية وإشراف العراب الأميركي، في 13 أغسطس 2020م، في واشنطن. ولم يأتِ تطبيع الإمارات والبحرين بتلك السرعة، وإنما بدأتا في تطبيع العلاقات الثنائية على طريقة الخطوة خطوة، منذ أكثر من عقدين من الزمن، حتى ظهر إلى العلنية، ولم يكن في مقدورهما إخفاؤه، فكانتا السباقتين في توقيع الوثيقة الإبراهيمية.
وتجري الضغوط الأميركية -البريطانية الصهيونية حاليًا على دول المنطقة بأن تنهج نفس المنوال الإماراتي -البحريني، والأمر ليس ببعيد عن هذا المنحى، إذا ما استمرت الأحوال الفوضوية الماثلة أمامنا في المنطقة العربية -الإسلامية التي أخذت رقعتها تزداد اتساعًا وعمقًا بين يوم وآخر، وتجعل من بلدان المنطقة سبيلًا سهلًا للتجزئة لصالح الأطماع الخارجية.
في واقع الأمر، بدأت الصهيونية العالمية برسم خارطة الفوضى الماسونية في المنطقة منذ السبعينيات من القرن الماضي، وظهرت إلى العلن في الثمانينيات في عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان، تلاها صياغة "خارطة الشرق الأوسط الجديد" من قبل كونداليزا رأيس، وزيرة الخارجية الأميركية (2001-2005م)، ومستشارة الأمن القومي (2005-2009م)، في عهد الرئيس جورج ووكر بوش (2001-2009م).. وبدأ مسار تنفيذها بالفتن والحروب والتدخلات في بلدان منطقة الشرق الأوسط، من أفغانستان، والعراق، مرورًا باليمن، والصومال جنوبًا، ثم جنوب السودان، وبلدان شمال الصحراء، حتى موريتانيا غربًا، تحت مسميات عدة، منها: مشروع الشرق الأوسط، ثم صفقة القرن، وغيرهما من مسميات، وكلها تصب في قدر واحدة، هدفها السيطرة على هذه المنطقة الغنية بثرواتها الطبيعية والتحكم في موقعها الاستراتيجي الرابط بين الشرق والغرب، كمعبر للناقلات النفطية، والغازية، والتجارة العالمية، والحد من المنافسة التجارية والاقتصادية للصين الشعبية وشركائها، وتعتبر اليمن الرقم المهم استراتيجيًا في المنطقة، الأمر الذي جعلها عرضة، وضحية للأطماع الدولية والإقليمية بالوكالة.
وفي هذا الصدد، وددت أن أكون متفائلًا بعض الشيء، فوضعت احتمالية بأن كل ما ورد في "الوثيقة الإبراهيمية" من مسائل حتى الآن، يعتبر في خانة الآمال، والتمنيات، ولعل وعسى أن تتبدل الصورة لعوامل داخلية، وإقليمية، ودولية، ويستفيق العرب والمسلمون من سباتهم، لكني وجدت في قرارة نفسي، أن التنفيذ يبقى ممكنًا نظرًا لعامل التفكك والوهن العربي -الإسلامي الذي أصاب النظام العربي -الإسلامي خلال أربعة عقود من الزمن، والذي بلغ أشده منذ بداية العقد الثالث من الألفية الثالثة، وما نشهده في هذه الأيام من شهر أكتوبر 2023م، لخير دليل بما يحدث من اعتداءات إسرائيلية غاشمة على غزة، والضفة الغربية، والمسجد الأقصى، وقبة الصخرة، والإقدام مؤخرًا على تهجير الفلسطينيين القسري من وطنهم، بمساندة أميركية وغربية سافرة، وبمعايير مزدوجة، بما يخالف قواعد القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن 242 و338، واتفاقية مدريد 1991م بين السلطة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي، وحل الدولتين، ومبادرة القمة العربية في بيروت 2002م (الأرض مقابل السلام)، كل تلك المسائل خير شاهد على أن المعتدين الصهاينة لا يحترمون المواثيق ولا العهود، ناهيك عن استخدام الولايات المتحدة الأميركية الضغوط لإخضاع المنطقة بالقوة، وتطبيعها مع الكيان الإسرائيلي الصهيوني.
وبكل أسف، تتحمل بلدان المنطقة وزر ما يحدث من فوضى وعدم استقرار نتيجة للخلافات العربية -العربية، والتدخلات في الشؤون الداخلية لبعضها البعض، وبالوكالة، مما يتيح ويسهل اختراق كل دولة على حدة، في عالم لا يرحم الضعيف.
من الجدير بالذكر، أننا كأمة في المنطقة فقدنا هادينا وحادينا، وضللنا الطريق، وأصبحنا في عين العاصفة، وليس من المستبعد أن تخضع دول عربية أخرى، عما قريب، لصالح التطبيع مع إسرائيل، لتكون هذه الأخيرة الآمرة الناهية في شؤون المنطقة، وهو الدور المرسوم لها من قبل الماسونية الصهيونية.
فكل ما نشهده منذ قرابة ثلاثة عقود من الزمن، عبارة عن حروب طاحنة بالوكالة، وفوضى لتقطيع أوصال الأمة العربية -الإسلامية. والأنكى من ذلك القيام بشراء أسلحة أجنبية من قبل الدول العربية، واستخدامه ضد بعضها البعض، إرضاء وخدمة للمستعمر، بدلًا من مواجهة العدو الإسرائيلي المزروع في المنطقة منذ 1947م، لكنها حادت عن طريقها، واستسلم بعضها إلى المخطط الاستعماري الصهيوني الرامي إلى تقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ، فضلًا عن المحاولات لاستئصال شعوب المنطقة، إما باستخدام القوة الغاشمة، وإما بتصدير الأمراض والأدوية الفتاكة.
وبكل تأكيد، من لم يصله الدور اليوم سيتجرع مره، ويدفع ثمنه غدًا، ولا مفر منه إذا ما استمرت عليه أوضاع العرب الراهنة.
والسؤال، هل سيصلون يومًا ما إلى أمة خنعت وتآمرت على نفسها، ووقعت في الشرك؟ والجواب، لماذا لا، والعرب في هذ الوضع الرديء الذي وضعوا فيه أنفسهم، ماعدا مصر التي استثنيت بإجماع المراقبين، والتي مازالت تحتفظ بدورها القومي العربي، رغم ظروفها الاقتصادية الصعبة. وفي هذا الخصوص، تحدث مندوب فلسطين في الجامعة العربية، معربًا عن شكر وتقدير القيادة الفلسطينية للقيادة المصرية، لقيامها بالواجب تجاه القضية الفلسطينية ومأساة غزة والشعب الفلسطيني، وتمثل ذلك في إصرارها على فتح المعابر الحدودية، لتقديم المساعدات الإنسانية لإخوانهم الفلسطينيين، واستقبال المصابين من ضحايا العدوان الإسرائيلي للعلاج في مستشفياتها، ورفضها قطعيًا عملية التهجير القسري للفلسطينيين من وطنهم مهما كانت الذرائع، وبذل محاولاتها المكوكية مع الدول الأخرى لإنهاء القصف الإسرائيلي العشوائي وهدم المساكن على رؤوس أصحابها، والتفاوض لإيقاف الحرب بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، وحل الدولتين، ورفض سياسة المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين، التي أخذ يمارسها الغرب بقيادة االماسونية الصهاينة في كل من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة البريطانية.
في واقع الأمر، أصبحت البلدان العربية والإسلامية بضعفها واستكانتها، أمام عالم لا يرحم الضعيف... إن خيارها الوحيد إما تكون أو لا تكون... قال تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" صدق الله العظيم.