كالعادة، أعلن عن رحلة المشي إلى مدينة "ثلاء" التاريخية، في بداية الأمر لم أكن متحمسة كثيرًا كما كنتُ في السابق، وذلك بسبب بعد نقطة التجمع التي لم يسبق لي الذهاب إليها، إضافة إلى انقطاعي فترة من المشاركة في رحلة المشي والتسلق، لأسباب خارجة عن إرادتي.
مدينة ثلاء من على حصن الغراب(النداء)
بعدها تبددت رغبة عدم الذهاب، وقررت أن أشارك؛ لأني اعتبرتها فرصة ومغامرة جديدة لزيارة هذه المدينة والتعرف عليها عن قرب بعيدًا عن الصور التي اعتدت رؤيتها على منصات التواصل او على ألبوم صور، وبالطبع لم يكن هذا لوحده السبب في اتخاذ قرار الذهاب، بل كان للأستاذ القدير عبدالكريم الرازحي دور آخر حينما أخبرني بإمكانية المرور لي مع صديقه للذهاب إلى نقطة التجمع معًا، عندها تحمست أكثر، كوني لن أتوه بالمكان، ولن أضطر إلى الركوب مع أشخاص لا أعرفهم، والتوجه إلى مكان لم يسبق لي الذهاب إليه وحيدة.
تجمع "الهاش"
تغيب الأستاذ عبدالكريم الرازحي عن المجيء؛ لأنه وجد نفسه ليس على ما يرام، ولكن كطبيعة اليمنيين لم ينسني حتى في مرضه، وأخبر صديقه أن يمر لي، وبالفعل تواصل معي عضو الفريق، وأخبرني بأنه سيأخذني معهم صباحًا.
في مساء الأربعاء جهزت نفسي كالعادة، والأهم من هذا جهزت موبايلي حتى لا يخونني كما حدث لي في إحدى الفعاليات المهمة، وبعدها توجهت للنوم. عند الساعة السادسة من صباح الخميس 28 سبتمبر 2023، استيقظت مبكرًا، جهزت نفسي، وعند السابعة وثلاث دقائق اتصلت لعضو الفريق الأستاذ زيد، وطلب مني أن أخرج، وهناك وجدت معه عضو الفريق الأستاذ ماجد ، ومررنا للأستاذ محمد الذي كان ينتظر في جسر مذبح، ثم اتجهنا إلى جولة دار الحجر، وقبل أن نصل التقينا بعضو الفريق الأستاذ يونس، وابن أخيه وطفله الذي رفض الجلوس بجواري؛ لأنه لا يجلس بجانب النساء، مما تسبب لي بالإحراج! ولكن ابن عمه الذي بنفس عمره تدارك الأمر، وجلس هو بجواري.
جولة دار الحجر
توجهنا بعد ذلك جميعًا إلى جولة دار الحجر، حيث يتجمع بقية الفريق، وهناك انتظرنا حتى يأتي البقية، كنت وحيدة داخل السيارة أراقب المواطنين الذين يبحثون عن قوتهم وقوت أبنائهم، رأيت أمامي صاحب "المخلوطة"، شاب يبدو ثلاثينيًا، جاء بعربيته ووقف يرتبها ويمسحها بتركيز، ويركّب أسطوانة الغاز، ويجهز عجينة المخلوطة ( هي أكلة اشتهر بها أبناء محافظة الحديدة)، بينما في الجهة الأخرى جاء صاحب الخضار، بدأ يرتب الخضروات كأنه يرسم لوحة بتركيز مطلق، وعند الانتهاء يستمتع برش الماء عليها حتى لا تذبل، وتظل منتعشة إلى أن يشتريها الناس، وفي هذه الجولة وجدت بعض أبناء "الفئات المهمشة"، وهم يجمعون علب الماء الفارغة، وآخرين كانوا يتناولون طعام الإفطار معًا على رصيف الشارع.
وبينما أنا جالسة رأيت سيارة سوداء صالون، لا أعلم ما اسمها، لأن معرفتي بأنواع السيارات ضعيفة جدًا، كان يوجد على متنها فتيات، وأطفال، وشبان، اكتشفت في ما بعد أنها "كتيبة الشراجبة التابعة لعضو الفريق الأستاذ عبدالرحمن الشرجبي"، فرحتُ جدًا وأنا أرى التنوع في كتيبته.
بعد أن تجمع الفريق بالكامل، تحركنا على متن السيارات نحو سوق مدينة شبام، وبينما نحن في الطريق صادفنا العديد من بائعي البازلاء الخضراء، أخذنا من أحدهم وأكلنا على السيارة، وبينما أنا آكلها عدت بذاكرتي للوراء لأيام المدرسة الابتدائية و الاعدادية عندما كنت أخفي مصروفي لكي أشتري هذا النوع من الخضروات إلى جانب البطاط المفور. كان للبازلاء والمناظر الطبيعية والرياح التي تتسلل من نافذة السيارة، وقع جميل على قلبي وروحي.
بداية المتعة
فريق الهاش اثناء المشي
تصوير: معاذ الصمدي
أخيرًا وصلنا إلى سوق "مدينة شبام"، ترجلنا من السيارات، كان السوق ملفتًا للنظر، فيه تجد كل شيء: الخضروات، الفواكه، الدجاج، اللحوم، وغيرها من الأشياء، تجد النساء والرجال وهم يشترون ما يلزمهم.. في بداية الأمر كنت أتوقع أن أجد متعصبين بسبب أني محجبة أو أرتدي نظارات شمسية وقبعة، ولكن لم يحدث ذلك أبدًا، وكان الأمر طبيعيًا بالنسبة لهم. كنت أكتفي أحيانًا بالابتسامة لكبار السن رجالًا أو نساء، أو بالنظر إليهم متأملة.
قبل البدء برحلة المشي اهتم أعضاء الفريق بشراء الماء وبعض الفواكه والخضار والخبز وعلب التونة؛ لتكون وجبة الغداء في مدينة ثلاء.
وبعدها وبحسب توجيهات كابتن الرحلة سعيد السروري تحركنا مشيًا على الأقدام باتجاه "وادي حوشان" الذي يتبع الصرم حبابة، وهو وادٍ فسيح يبدأ من أطراف "أبلاس حبابة"، ويمتد نحو قرية "بيت عوض" (الصرم)، حتى مشارف حصن ثلاء ، كنت وأنا أمشي على طول هذا الطريق أستمتع بمناظر الأشجار وهي متناثرة على طوله، منظر الجبل الممتد على طول الطريق، استمررت في المشي وأنا أستمتع بروعة ما صنعه الإنسان اليمني الذي استطاع أن ينحت على الصخور بيوتًا لتكون برهانًا على قوته وعظمته على مدى العصور. واصلت الطريق مع بقية المشاركين، مررنا من أشجار التين الشوكي وبين أشواك كثيرة، وبينما أنا أمشي كان نصيبي من الشوك الكثير، من بينها شوكة باغتتني واستغلت استمتاعي بالمناظر الطبيعية، فأفسدت عليَّ الجو للحظات، حينما اخترقت قاعدة حذائي، ووصلت إلى باطن القدم، وجعلتني أترنح بطريقة كدت أسقط بسببها من مكان، على الرغم من قلة ارتفاعه، إلا أنه كان سيسبب لي بعض الكسور، ولكن الحمد لله حَالَ الأستاذ محمد بيني وبين ذلك الوقوع.
صورة تجمع فريق الهاش(شبكات التواصل)
أكملنا طريقنا ومشينا بين حقول "الذرة البيضاء" وبعض الأراضي الزراعية، ومررنا بجور أحد الشبان الذي كان بجانب بيته الصغير، رأيته يصب الماء لأعضاء الفريق الذين سبقونا، ومن بعيد سمعت أحدهم يقول هذا الماء لذيذ وبارد، فحرفت طريقي المستقيم متجهة إليهم أبحث عن ذلك الماء، فرأيت شابًا خجولًا يسكب الماء لهم، قلت له: "ممكن ماء سمعت أنه بارد ولذيذ". ابتسم وصب لي الكثير منه، شربت، ولكني لم أستطع إكماله، فمددت له الكوب، وقلت: "شكرًا لك، ولكن كان الماء كثير، وأنا ما قدرت أكمله"، ابتسم وأخذه، وأكمل في تقديم الماء لبعض المشاركين الذين التفوا حوله.
بعدها استمررت في طريقي مع البقية، ومررنا بين حقول أخرى للذرة البيضاء، كانت تقف على أرض مشققة تتمنى قطرة ماء واحدة، شعرت بالأشجار وهي تتوسل قليلًا من الماء، ولكن قارورة الماء الخاصة بي لا يمكن أن تروي حتى شجرة واحدة، فقسوت عليهن وتركتهن وحيدات يشكين للمارين عطشها.. واصلنا طريقنا بين الأشجار والحجار إلى أن وصلنا إلى الإسفلت، ومنه بلغنا الهدف المنشود.
باب المشراق
باب المشرق في مدينة ثلاء(النداء)
وصلنا إلى "باب المشراق" المؤدي إلى داخل مدينة ثلاء التاريخية، وهو واحد من بين تسعة أبواب، وتقع مدينة ثلاء في الشمال الغربي من صنعاء وتبعد بـ(45) كيلومتر، وهي مدينة مسورة تقع على السفح الشرقي من حصن ثلاء الأثري، يحتضنها الحصن من الغرب، وهي مدينة ذات قصور عاليه تطل من الجنوب على شبام كوكبان وحبابة وحصور والمصانع، يحدها من الشمال جبل عيال يزيد وشرقًا عمران وجنوبًا همدان وكوكبان وغربًا مسور عمران.
تشعر حينما تطأ قدماك الباب أنك ولجت إلى الماضي عبر آلة الزمن.. هناك جلسنا عند الباب لنشرب الماء من تلك الجرة التي يحيطها الأسمنت، لتظل ثابتة بمكان واحد حتى لا يحركها أحد، والموضوعة على الجهة اليسرى وأنت داخل من الباب، تحتوي الجرة على ماء بارد جعلنا نطمع فيه ونعبئ كل عبوات الماء التي أصبحت شبه فارغة بعد أن شربناها على طول الطريق. بالنسبة لي لم أكتفِ بتعبئة عبوة الماء الخاصة بي، بل قمت بصب الماء على رأسي لأني أصبت بصداع وأنا أمشي تحت أشعة الشمس الحارقة التي ظلت متعامدة فوق رؤوسنا على طول الطريق الطويل.
بعدها مشينا داخل أزقة المدينة، والأطفال ينظرون إلينا باستغراب، ولهم الحق في ذلك، فهم أطفال جاؤوا إلى الدنيا بعد أن توقفت السياحة في اليمن، لذلك لم يتعودوا على منظر كهذا! استمررنا في المشي كأننا نمشي في مدينة الخيال بين بيوت حجرية مبنية من عدة طوابق بعناية تامة.
مسجد الجامع الكبير(النداء)
تابعنا الطريق حتى وصلنا إلى الجامع الكبير (وهو مسجد تاريخي بني في بداية العصر الإسلامي)، وبعد تأدية الصلاة تحرك الفريق إلى أعلى، حيث يوجد حصن "الغراب" (وهو قلعة أثرية قديمة في المدينة تعود لزمن الحميريين). عند الدخول من البوابة، وقبل أن نصعد الدرج المؤدية إلى الحصن، جلسنا في الساحة لتناول الغداء، تقسمنا إلى مجموعات وافترشنا الأرض، ومن بعدها بدأت رحلة استكشافنا للحصن.
الدرج المؤدية إلى أعلى حصن الغراب(النداء)
صعدنا الدرج (التي قيل بأن عددها يصل إلى 365 درجة بعدد أيام السنة)، عند البداية كان هناك درج حديدية مطلية باللون البيج، وبعدها تجلت عظمة اليمنيين التي تمثلت في تلك الدرج المنحوتة على الصخر، في كل درجة كنت أضع قدمي عليها أشعر بعظمة وفن وصبر تلك الأيادي التي تفننت في النحت. لم يكن الجمال يكمن فقط في الدرج التي يتخلل فراغاتها أشجار خضراء صغيرة مع أزهار بألوان زاهية زادت فوق روعتها روعة، ولكن كان هناك جمال آخر يكمن في المنظر الذي بدت عليه مدينة ثلاء التي تراها أكثر جمالًا كلما علوت، من الأعلى سترى المنازل كأنها لوحة رسام أتقن فيها رسم تلك البيوت بإبداع يسلب الأنظار..
في الحصن، وقبل أن نصل إلى الأعلى، وجدنا مسجدًا، وأمامه بركتا ماء منحوتتان على الصخر؛ إحداهما كبيرة، والأخرى صغيرة بشكل دائري. وعند الاستمرار في صعود الدرج التي كانت متعبة جدًا، وجدت أمامي بعض الصخور تسلقتها سريعًا إلى أن وصلت إلى قرب باب أحد مباني الحصن، وهناك جاءت ريح شديدة لم أستطع مقاومتها، فحبوت كطفلة إلى نهاية الدرج، عندها جلست ويداي متشبثتان بالدرج، ولم أتحرك خشية أن تأخذني الريح معها إلى حيث اللا رجعة، وعندما رآني عضو الفريق الأستاذ علي الهمداني، قال لي بلهجته الصنعانية: "هيا قومي اطلعي المبنى"، وأنا من خوفي ما رضيت، وبعد إلحاح وعرض للمساعدة قمت وأسرعت إلى باب المبنى، وهناك دخلت، كانت الدرج ضيقة حالها كحال المنازل اليمنية القديمة، يوجد في المبنى حمام، وغرف صغيرة، وفتحات صغيرة او ما تمسى باللهجة العامية ( الشاقوص) كانت تستخدم في الرماية حين يهجم العدو على الحصن.
فريق الهاش في أعلى حصن الغراب(النداء)
عند الوصول إلى أعلى المبنى كان هناك نوافذ كبيرة تطل على الحصن، كان المنظر غاية الروعة والجمال، ولكن الوقوف في تلك الغرفة كان مقلقًا، لأن جزءًا منها تعرض للانهيار، ولهذا السبب اكتفيت بالنظر السريع من النافذة إلى بقية الحصن، ثم نزلت مهرولة إلى الخارج، وهناك انتقلنا إلى الجهة الأخرى، حيث توجد بركة كبيرة تشعر كأنها معلقة في السماء، بالإضافة إلى عدد من المدافن التي كان يتم فيها تخزين الحبوب في أوقات الحصار، وجميعها تم بناؤها من صخر الجبل نفسه.
مدخل حصن الغراب(النداء)
في هذا المكان انتهت رحلتنا الراجلة، وفيه التقطنا الصور التذكارية، ثم عدنا من نفس الدرج التي صعدنا منها، وظلت متعة المنظر وجماله تلاحقنا على طول الدرج مرة أخرى، إلى أن وصلنا إلى البوابة التي أتينا منها، ومنها خرجنا، مودعين ذلك المكان الذي انتقلنا فيه ولساعات إلى حقبة تاريخية قديمة عمرها مئات السنين.
بعد خروجي من الحصن شعرت أني ودعت مدينة الأحلام التي وصلنا إليها بعد أن مشينا نحو 20 كيلومترًا، وبمشاركة 35 مشاركًا ومشاركة.